كنتُ قد حظيتُ بمتعة التعرّف على فكرة "رهوان" قبل أن تولد على شكل صوت. وكنتُ قد تساءلت تجاهها، كما أتساءل تجاه أي فكرة فنية وهي مكتوبة، نظرية ومجرّدة، كيف يمكن لفكرة، أو تاريخ شخصي، أو جغرافيا، أو تساؤلات، أن تتحوّل ببساطة إلى موسيقى. نحن، الآتين من عالم الكتابة، ننظر إلى الموسيقيين/ات أو الفنّانين/ات البصريين/ات كخالقين وخالقات لأشياء إعجازية كوننا لا نتقن لغتهم/ن.
أعادت هيا زعاترة في ألبومها "رهوان" الذي خرج إلى النور قبل عام، إحياء مسارات حياتية وجغرافية مشت فيها جدّاتها من قبل، وهي أشبه بأقدار تدخّلت فيها أيادٍ بشرية جميلة كيد الحبّ، وأخرى قبيحة كيد الاستعمار. نظيرة رهوان هي جدّة جدّها، وهي الأم الروحية البعيدة لهذا العمل. ولدت في دمشق عام 1890، وتنقّلت كما يبدو من هذ النّقطة، بحريّة بين دمشق وحيفا حتّى استقرّت في الناصرة. ولعلّ هيا، في هذه الأغاني التي تبدو كأنّها مجترحة من قطعة فنية واحدة، قبضت على لحظات من الحريّة فلتت من بين أصابعنا، نحن الشاميات، النساء، الحفيدات، الجدّات، في أزمان كثيرة مضت وأخرى نعيشها.
أعادت هيا زعاترة في ألبومها "رهوان" الذي خرج إلى النور قبل عام، إحياء مسارات حياتية وجغرافية مشت فيها جدّاتها من قبل، وهي أشبه بأقدار تدخّلت فيها أيادٍ بشرية جميلة كيد الحبّ، وأخرى قبيحة كيد الاستعمار
ماشيات لبنيات
على بلادي آتيات
خبر عادي في سماي
حاملات لبنيات
أحلامي وناسيات
أحلامهن في سماي
وكما تدلّل هذه الكلمات، وهي كلمات أغنية "رهوان"، ومفتاح الألبوم، على تداخل التواريخ، على المشي الذي تمشيه هيا في مساراتهنّ، أو العكس، الذي تمشيه الجدّات في مساراتها وتحت سمائها، مخلّفاتٍ أحلامهنّ عندها. أسمعها وهي تفتح أسئلةً ترتبط بعلاقة هيا مع جداتها اللواتي لم تعرفهن وبالأشياء التي ورثتها خارج الدمّ، بفضولها تجاه حيواتهن غير الموثّقة سوى في أشباه الروايات التي وصلتها شفاهياً، وأسئلة أخرى ترخي حبال العلاقة بين حياتها الشخصية والوضع العام، هذا الذي تغنّيه هيا كأنّه في عداد أشيائها الشّخصية. المدينة والحبّ، الاحتلال والجسد، البيوت المهجورة والحرية، أشياء تتجاور وتتنافر وتنسجم في نفس الأغنية، في نفس الصّورة، بل في نفس الجملة.
كلنا هون عارفين إنّا عايشين بنفس القفص
بيوت وسطوح ع بعضا كتير الشبابيك بس فش نفس
بلدي أنا أحلى بلد
بلدي بحبك زي ما إنت حبّيني زي ما أنا
بنبرة وموسيقى فيها الكثير من السخرية، تغنّي هيا جملاً من هذه الأغنية، لكن بعد لحظة ستفهمون أنّها ليست سخرية بالضبط. إنّها شكل من أشكال تسمية الأشياء بأسمائها ليس إلّا. كلام الأغنية، ببساطته وفطنته، يجعل من هذه الحقيقة القاسية أرضاً للمباهج. من يعرف هيا يسهل عليه فهم حسّها الفكاهي الذي يتندّر حتّى من أشياء في عماد حياتها الوجودية. هنا مثلاً، القفص وضيق النّفس يدعوان، على الرّغم من فداحتهما، إلى الحبّ. التندّر من أجل الخفّة، والتهكّم من أجل الانعتاق.
إذن كيف تحوّلت فكرة "رهوان" إلى صوت؟ هل تفكّرون بالموسيقى؟ إنّها دمج ساحر بين الصّوت الداخلي الذي فجرّته كلمات الأغاني، وأقصد الهوية وهي تنطق، بكلّ نواحيها وتراكيبها، وبين الصّوت المنتقى والمُهندَس، الذي ألّفته هيا ثمّ وضعته على شاكلته النهائية بالعمل مع رفاقها الموسيقيين والموسيقيات.
في أغاني "رهوان" مناخات صوتية جديدة لا تذكّر بمناخ خاصّ أو محدّد في ذاكرتي عن الموسيقى، نجحت هيا في جعل هذه الأغاني قوارب تُدفع بعيداً دون حاجة لقوّة خارقة دافعة، هي قوّة طبيعية يجلبها الفضول والسؤال والتجربة الشخصية والتمرّس
ثمّة دائماً ما يشبه الكمال حين نسمع الكلام والّلحن والصوت البشري وهو قادمٌ من روح واحدة. وهيا هي مصمّمة معمارية، لا مجال للإزاحات غير المبرّرة في الأغنية كما في المعمار. لكن على الرّغم من الدقّة الفظيعة التي تتشكّل فيها الأغاني، تتنوّع وتنسجم في فلك واحد، إلّا أنّ الصّوت الذي نسمعه في الموسيقى وفي أسلوب الغناء، فيه من الرّاحة ما يجعل الأغنية أقرب إلى أن تكون دندنة جوّانية عفوية، سيشعر المستمع/ة معها بأنّه قادرٌ على أن يألف شيئاً جديداً منذ الاستماع الأوّل، ففي أغاني "رهوان" مناخات صوتية جديدة لا تذكّر بمناخ خاصّ أو محدّد في ذاكرتي عن الموسيقى، نجحت هيا في جعل هذه الأغاني قوارب تُدفع بعيداً دون حاجة لقوّة خارقة دافعة، هي قوّة طبيعية يجلبها الفضول والسؤال والتجربة الشخصية والتمرّس.
هكذا نسمع أغنية "فتنة وياسمين"، التي كتبتها هيا إثر موت جدّتها باسمة، وهكذا نسمع "قالولي"، وأغانٍ أخرى، حتّى تلك التي تبدو أكثر صخباً مثل "رياح الجولان"؛ سنسمع مساحاتٍ من الصّمت في الإيقاع ينفذ منها الهواء، وربّما أصوات أخرى تستحضرها هيا، وأشياء عن المرويات الغائبة التي يُترك لها الطريق في الموسيقى، فتحضر. هكذا، أيضاً، نسمع صوت هيا، في معظم المواضع، مرتاحاً، منساباً، جميلاً دون أي عناء أو اجتهاد. اسمعوا مثلاً "عشتار"، ملحمة معاصرة؛ ما كان سيبدو ميلودرامياً وملحمياً، يُقال براحة عجيبة وبصوت يتدفّق بهدوء، مثل نبع ماء.
لكنّي لم أقصد الصّوت الموسيقي وحسب، بل الصّوت الذي هو الخميرة الجاعلة من الموسيقى حالةً بشرية، ومن الأغنية روح، ومن الألبوم قصّة. أقصد الصّوت كمروية، الصّوت كهوية. وفي "رهوان" صوت نظيرة وهو يقترب حتّى يصير صوت هيا، وصوت باسمة وهو يرحل فتعاود هيا إرجاعه. ربّما لم تكن هذه الأصوات تعبّر عن هويات حرّة تماماً في حياتها، لكنّ الأغنية تحرّرها وتجعلها مفتوحة مثل موانئ.
ولعلّ ما فعلته هيا في قبضها على هذه اللحظات من الحرية، أو على نحو أدقّ ما فعلته في إحداث فعل التحرّر على حياتها وحيوات سابقاتها من النساء، يُلمس ويُرى انعتاقاً وتفوّقاً على ثقل التاريخ العامّ والشخصي. نحن لا نسمع في "رهوان" صوت معادن لسلاسل تُقطع إثر هذا الانعتاق، بل نسمع صوتاً هادئاً لفراشات تنزلق من الحدود بهدوء فتّاك. ذلك لأنّها ببساطة "تحبّ حرّيتها" كما تقول في أغنية "عشتار". المعارك تبدو أمراً بعيداً أو قريباً دون جلبة.
إلى جانب الذكاء الصّوتي في "رهوان"، تظلّ التجربة الشّخصية منبعاً للأغنية، هي ما يجعل الألبوم على هذا القرب من المستمع/ة. والتجربة الشخصية في "رهوان" هي ظلال وأفياء كثيرة، ما قرّرت هيا زعاترة أن تكشفه كُشف وما قرّرت أن تضمره ضُمر. إذن، هي أشبه بتدرّجات لا نهائية لألوان غامقة وأخرى فاتحة تكوّن طبقات الزّمن والجغرافيا.
ومهما بدت الأصوات والهويات مسموعة وملموسة، تظلّ هيا كثيرة الشكّ. ما أجمل هذا الشكّ وهو يقال في الأغنية. سيرشّ الماء والضباب على الطريق التي نمشيها معها، سيزيح السّحاب عن السماء ويبقي شيئاً منه. انظروا إلى هذه الكلمات في أغنية "عواصف الصيف":
عن الوحدة والموت
وكلشي بيناتهن وكلشي بيناتنا
أغني بأي صوت؟ أي لحن يحملني؟
أي كلمة أختار قبل ما كل شي ينهار
مهما تحدّثنا عن التفوّق والانعتاق، ستفنى الكلمات ويتلاشى الصّوت أمام فظاعة الموت، ليس موت نظيرة أو باسمة، ليس موتنا الشخصي، إنّه موت الأشياء من حولنا، وانهيار كلّ ما هو إنساني. هل أختم المقال بهذه النبرة المظلمة؟ لا أراها كذلك. بل أرى في هذا الشكّ- وفي سؤال هيا عن الصوت والكلمة، كأنّها لم تجدهما- الجمال الذي يجعل الفنّ فنّاً.
قال الشّاعر الفرنسي إيف بونفوا: "أي شيء ترى إن لم يكن ذاك الذي يتعتّم؟ أي شيء تمسك إن لم يكن ذاك الذي ينفلت؟ أي شيء تمسّ إن لم يكن ذاك الذي يفنى ويتمزّق؟"، وفي "رهوان" محاولات وشكوك، محاولات للمساس بالأجساد التي فنيت، للإمساك بالحريات التي انفلتت، لرؤية للطرق التي تعتّمت. ولسماع ماذا؟ اسمعوا صوت هذه الأشياء وهي تغدو وتجيء.
في "رهوان" صوت الجدة نظيرة وهو يقترب حتّى يصير صوت هيا، وصوت الجدة باسمة وهو يرحل فتعاود هيا إرجاعه. ربّما لم تكن هذه الأصوات تعبّر عن هويات حرّة تماماً في حياتها، لكنّ الأغنية تحرّرها وتجعلها مفتوحة مثل موانٍ
"رهوان" هو وإنتاج وتلحين وكتابة وتوزيع: هيا زعاترة. تسجيل، مكساج وشارك في الإنتاج: بشر كنج، 67 Recording Studio، الجولان السوري المحتل. هيا زعاترة: غناء، جيتار، سينث وبيانو. نزار مطر: سينث وبيانو. جميل مطر: درامز. هند سبانخ: ترامبيت (في قالولي ورياح الجولان). بشر كنج: جيتار (في قالولي). كيفورك استيفانيان: إيقاع (في لبنيات). نائلة لبّس، نبيلة أبو شقارة، عبير أبو سنّة، هويدا نمر زعاترة: غناء (في لبنيات). مكساج وإتقان: تيم دبني، Fluid Mastering، لندن المملكة المتحدة. تصميم: هيثم حدّاد، Studio MNJNK. تصوير: ماريا زريق. بدعم من مؤسسة عبد المحسن القطّان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...