يكفي أن تضع علامة "حلال" فوق أي منتَج كي ترفع من سعره. تفعل هذه الكلمة السحرية سحرها في أوروبا على نحو شديد الغرابة، فهي تغزو عاطفة المستهلك المُسلم، واضعةً إياه أمام خيارين: إما أن يدفع أكثر أو أن يقايض ما يعتبر أنها عقيدته.
ومن الشائع أن يُطلَق وسم "حلال" على لحم الحيوان المذبوح حسب الشعيرة الإسلامية. ومع ذلك، أصبح هذا التوصيف يلقى توسعاً دلالياً، مرتبطاً بمنتجات وخدمات أخرى، تسوّقها البنوك الإسلامية وشركات التأمين (قروض الحلال) والفنادق المتوافقة مع "الشريعة".
وبموازاة ذلك، تشهد المؤسسات والهيئات التي تحتكر سلطة إثبات الحلال أو إعطاء صفته، امتداداً وقوةً، بوصفها "مانح للشرعية الدينية"، فيما لا يتردد بعض الدعاة والتجار في الحديث عن ضرورة العيش ضمن "أسلوب حياة حلال".
للوهلة الأولى، تبدو الدوافع الدينية هي المحدد والمنطلق الوحيد لهذه الموجة التي بدأت قبل ثلاثين عاماً وتوسعت بشكل كبير. لكن خلف هذا التفسير المثالي، يكمن أيضاً تفسير مادي يمكن أن يقدم منظوراً أكثر اتساعاً لتفكيك تاريخية هذه الظاهرة التي تشكل تحالفاً مصلحياً بين المعرفة الدينية والرأسمالية، ذلك أننا نتحدث عن سوق يبلغ حجمه عالمياً أكثر من 2000 مليار دولار سنوياً، منها ست مليارات يورو في فرنسا، بالنسبة إلى اللحوم فقط.
يحرص المسلمون في الدول الغربية على انتقاء اللحوم الحلال والتحري جيداً حول الشهادة التي تمنحها إحدى الهيئات الدينية للجزار، ويحرص الأخير بدوره على تعليقها في صدر المحلّ، كي يبرر الزيادة في أسعار اللحوم قياساً للسوق. تأخذ مسألة إذا ما كانت اللحوم حلالاً حيزاً كبيراً من اهتمام المستهلك المسلم، لأنها راسخة بقوة ضمن قناعاته الدينية الصلبة، على الرغم من أنها ليست من أركان الإسلام ولا الإيمان. وتقف وراء هذا الرسوخ عقود من الضخّ الفقهي والدعوي المتأثر بسرديات الصحوة الإسلامية التي بدأت في أعقاب هزيمة حزيران/ يونيو 1967.
قلبت الصحوة، التي تشكل خلالها تحالف واسع من جماعات إسلامية سلفية وإخوانية، حياة الناس في العالم العربي رأساً على عقب، ووصل خطابها المدعوم بقوة أموال النفط الخليجي إلى أوروبا، حيث المنفى الطويل لقطاعات واسعة من قيادات وعناصر الجماعات الإسلامية.
وتسربت سرديات الصحوة إلى أدق تفاصيل حياة الأفراد، على ضوء أطروحتها المركزية حول شمولية الإسلام بوصفه "ديناً ودولةً ومنهج حياة". وتجلى ذلك في شيوع ارتداء الحجاب والنقاب وتحولات جذرية على نمط حياة الناس، شملت الطعام والموسيقى وحتى تحية الصباح والمساء وأنواع الأذان وشكل الصلاة.
هذه الديناميكية الجديدة والجارفة والمحروسة بقوة بعض الدول وبكثير من المال، ساهمت على نحو غير مسبوق في تحويل طقوس الطعام لدى المهاجر المسلم في أوروبا، وعلى رأسها استهلاكه للحوم.
ما قبل الصحوة
منذ نهاية القرن التاسع عشر، بدأت الدول الغربية أو غير الإسلامية تشكل مناطق استقرار لمهاجرين مسلمين، تجاراً كانوا أو هاربين من جور السلطنة العثمانية أو باحثين عن ظروف عيش أفضل. وطرح ذلك أسئلة لدى البعض تتعلق بالهوية الدينية والثقافية.
في العام 1903، تلقى الشيخ محمد عبده (1849-1905)، رسالة من منطقة ترانسفال في جنوب إفريقيا، والتي كانت خاضعة للحكم البريطاني، وقّعها مسلم من أصول هندية وسأل فيها عن ثلاثة مسائل، تتعلق إحداها بجواز أن يرتدي المسلم قبعة أوروبية، وتتناول الثانية إمكانية الصلاة المشتركة بين الحنفية والشافعية. أما الثالثة فيقول فيها السائل: "في بلاد الترنسفال، إن ذبحهم مخالف لأنهم يضربون البقر بالبلط، وبعد ذلك يذبحون بغير تسمية. والغنم يذبحونها من غير تسمية، هل يجوز ذلك؟".
أجاب الشيخ المُصلح كآلاتي:" وأما الذبائح فالذي أراه أن يأخذ المسلمون في تلك الأطراف بنص كتاب اللّه تعالى في قوله {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} (المائدة 5)، وأن يعولوا على ما قاله الإمام الجليل أبو بكر العربي المالكي من أن المدار على أن يكون ما يذبح مأكول أهل الكتاب قسيسهم وعامتهم ويعد طعاماً لهم كافة. فمتى كانت العادة عندهم إزهاق روح الحيوان بأي طريقة كانت وكان يأكل منه بعد الذبح رؤساء دينهم ساغ للمسلم أكله لأنه يقال له طعام أهل الكتاب ولقد كان النصارى في زمن النبي عليه الصلاة والسلام على مثل حالهم اليوم، خصوصاً ونصارى الترنسفال من أشد النصارى تعصباً في دينهم وتمسكهم بكتبهم الدينية، فكل ما يكون من الذبيحة يعد طعام أهل الكتاب متى كان الذبح جارياً على عادتهم المسلمة عند رؤساء دينهم ومجيء الآية الكريمة {اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} بعد آية تحريم الميتة وما أهل لغير اللّه به بمنزلة دفع ما يتوهم من تحريم طعام أهل الكتاب، لأنهم يعتقدون بألوهية عيسى وكانوا كذلك كافة في عهده عليه الصلاة والسلام إلا مَن أسلم منهم. ولفظ أهل الكتاب مطلق لا يصح أن يحمل على هذا القليل النادر. فإذن تكون الآية صريحة في حل طعامهم مطلقاً، متى كانوا يعتقدونه حِلاً في دينهم دفعاً للحرج في معاشرتهم ومعاملتهم".
انتشار ثقافة الذبح الحلال في أوساط الجاليات المسلمة يعكس فشل تيار الإصلاح الديني، إذ توارت فتوى الشيخ محمد عبده خلف النسيان
أثارت فتوى الشيخ عبده في ذلك الوقت جدلاً وسجالاً فقهياً، وردوداً صادرةً عن شيوخ في الجامع الأزهر. لكن ثقله العلمي والحظوة التي كانت له في العالم الإسلامي جعلت رأيه يكون شائعاً ومقبولاً، خاصة أنه كانت له شواهد كثيرة في كتب الفقه القديم على المذاهب السنّية الأربعة.
وكتب تلميذه محمد رشيد رضا مقالاً في مجلة المنار قال فيه: "قد علم القراء ما كان في العام الماضي من لغط بعض الجاهلين بفتوى مفتي الديار المصرية لبعض أهل الترنسفال بحِل ذبيحة النصارى في تلك البلاد (...) وكان السبب في اللغط أن بعض أصحاب الأهواء من الأمراء أوعز إلى بعض الجرائد المحدثة بالتنديد بالفتوى لغرض له في ذلك فطفقت الجريدة تخبط في ذلك محرفة السؤال والجواب عن موضعه (...) وقد بينا يومئذ حكم الله تعالى في هذه المسائل. وأيدنا الفتوى بالبراهين الشرعية والدلائل، ولم يكن لصاحب الجريدة المحدثة من دليل غير القال والقيل، وكان منه الإيهام بأن بعض علماء الأزهر كتبوا لصاحب الجريدة ينكرون صحة الفتوى، فلما وصلت هذه الدعوى إلى علماء الأزهر الأعلام انتدب بعض فضلائهم إلى وضع رسالة يؤيدون فيها الفتوى بنصوص المذاهب الأربعة وسموها ‘إرشاد الأمة الإسلامية’ ثم إن الشيخ عبد الحميد حمروش البحراوي أحد المدرسين في الأزهر طبع الرسالة ونشرها تبرئة لعلماء الأزهر مما نسبته جريدة ‘الظاهر’ إليهم، وقال في مقدمة الطبع بعد ذكر ما عزي إلى علماء الأزهر ما نصه: ‘عند هذا نهض جماعة من أفاضل الأزهر الأعلام أئمة المذاهب الأربعة الذين يعول عليهم ويوثق بعلمهم في العلوم الشرعية، وراجعوا المذاهب الأربعة واستخرجوا منها النصوص التي تلائم موضوع المسألة، وعرضوا عليها فتوى فضيلة الأستاذ المومأ إليه فوجدوا لها من كل مذهب نصيراً، ومن فقه كل إمام ظهيراً’، ثم قال إنه رأى أن يخدم الإسلام بطبع هذه الرسالة لفوائد منها: ‘تبرئة الأفاضل علماء الأزهر من وصمة السكوت، ومما عزي إليهم من القول بخلاف ما أفتى به عالم الدنيا، صاحب الفضيلة مولانا الأستاذ مفتي الديار المصرية، وأن الذين يشيعون مخالفة علماء الأزهر الكرام لأستاذنا أرادوا أن يذموا واحداً فذموا الكل فوجب تبرئة الجميع’. والرسالة مؤلفة من مقدمة وأحد عشر فصلاً وخاتمة، وهي مطبوعة طبعاً حسناً على ورق جيد، وثمن النسخة ثلاثة قروش صحيحة، ومما يدل على سوء قصد الجريدة التي كانت تلغط وتطالب علماء الأزهر ببيان الحق في الفتوى أنها لم تكتب عن الرسالة شيئاً مع أنها أهديت إليها كما بلغنا".
لم يكن الموقف الفقهي للشيخ محمد عبده جديداً، من الناحية الفقهية ولا شاذاً، فقد سبقه إلى ذلك في عام 1846، في تونس، الشيخ محمد بيرم الرابع الذي أباح أكل "طعام أهل الكتاب". لكن موقف الشيخ المصري كان أكثر تأثيراً، وعليه استقر قطاع واسع من المسلمين الذين كانوا يعيشون في أوروبا، طلاب علم أو منفيين أو عمال، واستمر ذلك لعقود طويلة حتى جاءت الصحوة.
ثغرة المودودي
على مدى عقود من وجوده في الدول الغربية، لم يطرح الإخوان المسلمون مسألة الخلاف في جواز أكل اللحوم التي تباع في الأسواق. لكن مع نهاية ستينيات القرن الماضي طرح زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان، أبو الأعلى المودودي، المسألة من زاوية أخرى وهي قواعد الذبح وطقوسه، وهي الثغرة التي سيتسرب منها لاحقاً جدل الحلال وعليها سيتم بناء اقتصاد كامل وثروات طائلة.
في دراسة نشرت عام 2015، تتبع عالمة الأنثروبولوجيا فلورنس بيرغو بلاكلير مسار تحوّل فضاء الطعام الإسلامي في فرنسا من فتاوى الترانسفال إلى توسع سوق الحلال، مشيرةً إلى أن موقف المودودي كان حاسماً في كسر الإجماع الذي وضعه الشيخ محمد عبده حول "طعام أهل الكتاب".
يقول المودودي في هذا الشأن: "القاعدة القائلة بأن ‘طعامنا جائز لهم وطعامهم حل لنا’ يعني أنه لا ينبغي أن تكون هناك حواجز بيننا وبين أهل الكتاب في ما يتعلق بالطعام. […] أما إذا كان أهل الكتاب لا يحترمون مبادئ النظافة والطهارة التي تفرضها الشريعة، أو إذا كان طعامهم يحتوي على عناصر ممنوعة، فالواجب الامتناع عن تناولها. فإذا ذبحوا، على سبيل المثال، حيواناً دون أن يتلفظوا باسم الله، أو ذبحوه باسم غير الله، فلا يحل لنا أكل ذلك الحيوان".
مع نهاية ستينيات القرن الماضي، طرح زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان، أبو الأعلى المودودي، مسألة جواز أكل اللحوم التي تباع في الأسواق من زاوية قواعد الذبح وطقوسه، وهي الثغرة التي سيتسرب منها لاحقاً جدل الحلال وعليها سيتم بناء اقتصاد كامل وثروات طائلة
تقول فلورنس بلاكلير إن موقف المودودي المتشدد كان نتيجة سياق باكستاني داخلي حدث في نهاية ستينيات القرن الماضي بسبب جدل حول المسالخ الحديثة، عندما أصدر المفكر الإسلامي الإصلاحي الباكستاني فضل الرحمن فتوى بجواز استعمال هذه المسالخ المتطورة بدلاً من التقليدية. أثارت الفتوى غضب القوى الأصولية حتى وصل الأمر إلى تلقيه تهديدات بالقتل، فيما نشر المودودي مقالاً ناقداً بعنوان "هل الجهاتكا تحل في الإسلام؟"، ويعني بها طريقة الذبح عند الهنود السيخ، مما زاد من حدة الموقف، إذ أوحى بأن قبول أساليب الذبح المسيحية يمكن أن يؤدي إلى قبول قطع الرؤوس التي يستخدمها السيخ. وجد فضل الرحمن نفسه وحيداً في المعركة، فقد فضلت الحكومة الباكستانية عدم دعمه أمام موجة الأصولية الزاحفة، ليذهب إلى المنفى في لندن بعد بضعة أشهر، في العام 1968.
وفي السبعينيات، بدأ عود الصحوة الإسلامية يشتدّ. وفي نهاية ذلك العقد أصبحت أكثر قوة من أي وقت مضى، بعد أن التحقت بها قوى سلفية صاعدة بدعم من السعودية، في أعقاب هجوم جماعة جهيمان العتيبي على الحرم المكي وانطلاق الحرب الأفغانية، لتشهد الثمانينيات ربيع الصحوة، الذي امتدّ نحو المهاجر الأوروبية، بعد هروب المئات من أعضاء الجماعات الإسلامية من سوريا وتونس ومصر وباكستان والجزائر.
ودعمت مواقف المدودي فتاوى سلفية وهابية لها وزن، صادرة عن الشيخ صالح الفوزان، في كتابه "الأطعمة وأحكام الصيد والذبائح"، والشيخ عبد الله بن حميد، مسنودةً بمواقف من مراجع سلفية قديمة. يقول بن حميد في فتواه: "أما إذا جهل الأمر في تلك اللحوم ولم يعلم عن حالة أهل البلد التي وردت منها تلك اللحوم هل يذبحون بالطريقة الشرعية أو بغيرها، ولم يعلم حالة المذكّين وجهل الأمر: فلا شك في تحريم ما يرد من تلك البلاد المجهول أمر عادتهم في الذبح، تغليباً لجانب الحظر، وهو أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر فيغلب جانب الحظر، سواء أكان في الذبائح أو الصيد، ومثله النكاح، كما قرره أهل العلم، منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب وغيرهم من الحنابلة وكذلك الحافظ بن حجر العسقلاني والإمام النووي، وغيرهم كثير".
والجدير ذكره أن مواقف شيوخ المؤسسة الدينية الرسمية السعودية، التي عبر عنها عبد العزيز بن باز ومحمد صالح بن عثيمين، كانت أقرب إلى موقف الشيخ محمد عبده.
وهنا، تشير فلورنس بلاكلير إلى أن موقف جماعة الإخوان المسلمين من مسألة اللحوم في أوروبا ظل وفياً لموقف الشيخ يوسف القرضاوي الذي كان مائلاً نحو فتوى محمد عبده، على الأقل حتى نهاية التسعينيات. لكن مفهوم المودودي عن الحلال فرض نفسه في المملكة المتحدة باكراً، إذ أُضفي الطابع الرسمي عليه من قبل رئيس الجمعية الطبية الإسلامية في لندن غلام مصطفى خان الذي دُعيَ مطلع العام 1971 لإعطاء وجهة نظر المسلمين في ندوة الجمعية الملكية للطب حول تقنيات الذبح الإنسانية في المسالخ الرسمية، وكان موقفه مستنداً كلياً إلى تفسير المودودي.
في بريطانيا ولد جدل اللحم الحلال وأنشئت معه سوقاً واسعةً أصبحت تعمّ جميع الشتات الإسلامي في العالم. بدأت المسألة في المملكة المتحدة ثقافية وسياسية في السبعينيات. أما في فرنسا، فحتى ثمانينيات القرن الماضي، لم تلعب السلطات الدينية أي دور في افتتاح محلات الجزارة الإسلامية التي يديرها مهاجرون. ويقول الشيخ عباس، عميد جامع باريس الكبير حتى عام 1989: "اللحوم سواء كانت حلالاً أم لا، تُشترى في دكان جزار مسلم أو في سوبر ماركت، ما يهم! يجب على المؤمنين التكيف مع الواقع الفرنسي. ديننا هو أسلوب حياة مرن".
كيف تصنع من الفتوى ثروة؟
تعتقد فلورنس بيرغو بلاكلير أن ولادة سوق الحلال لم تكن ذات دوافع داخلية فرضتها التفضيلات الغذائية أو الوازع الديني للمهاجرين المسلمين في أوروبا، بل كانت حصيلة تطور التجارة التي نشأت في الثمانينيات بين فرنسا والدول الإسلامية. تحوّل الشرق الأوسط ديموغرافياً واقتصادياً بفضل الطفرة النفطية، وأصبح أحد أكبر مستوردي اللحوم. وأدى صعود الحركات الإسلامية إلى حدوث استقطاب حاد بين إيران والسعودية، المتنافسين الرئيسيين على ساحة الدعوة الدولية، وصل إلى صراع رموز إسلامية. لم تعد هذه الدول تكتفي بوعود التجار بالامتثال الديني لعقيدتها، بل أرادت السيطرة على الذبح في البلدان المنتجة للحوم.
ثم أتى عقد التسعينيات، وفيه كانت الصحوة قد انتشرت في أوساط الجاليات المسلمة، وشهد تطور تجارة لحوم الحلال، إذ وجدت جماعة الإخوان المسلمين، أكبر الجماعات الإسلامية حضوراً في هذا الوسط، فرصةً للجمع بين الدين والتجارة من خلال انحيازها نحو مواقف أكثر تشدداً في التعاطي مع "طعام أهل الكتاب"، وبذلك خلقت سوقاً سوقت لها على نحو واسع من خلال شبكة مساجدها الكبيرة في الدول الأوروبية كما دعمت إنشاء هيئات ومؤسسات تابعة لها تمتلك حق منح شهادة الحلال للتجار. واستفادت أيضاً من العلاقة التجارية مع دول الشرق الأوسط، لا سيما الخليج، إذ أصبحت المؤسسات والشركات التابعة لأعضاء من الجماعة مورّداً أساسياً للحوم الحلال نحو هذه الدول.
يبدو هذا الانحياز الإخواني واضحاً في الموقف الذي عبّر عنه خالد حنفي، رئيس لجنة الفتوى في ألمانيا والأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء، وهو مؤسسة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين في أوروبا، خلال جائحة كورونا، عندما أدى ضعف حركة الاستيراد والتصدير إلى وجود ندرة في اللحوم الحلال في بعض المناطق الأوروبية بسبب قرارات الحظر ومنع الطيران على خلفية تفشي الفيروس. حينذاك أجاب على سؤال هل يمكن أكل اللحوم غير المذبوحة على الشريعة الإسلامية خاصة في الدول الأوربية؟ بالقول: "قضية الطعام والذبح الحلال ليست مسألة ثانوية في حياة المسلم. ولكنها قضية دينية شديدة الأهمية. والذي أُرجحه هو ألا يأكل المسلم في الغرب إلا اللحم والطعام الذي تمت مراقبته من قِبل هيئة إسلامية معتبرة وأعطته ختم ‘حلال’. إن مسألة الذبح واللحم الحلال تتصل بأمر الهوية بالنسبة إلى مسلمي أوروبا، والتهاون فيها يضر بهوية الوجود الإسلامي في الغرب خاصة الأجيال الجديدة، ولولا تمسك المسلمين بنظام الذبح الشرعي ما وُجدت المطاعم والمجازر الإسلامية التي تقدم وتراقب اللحم والتصنيع في أوروبا".
موقف حنفي الذي يعاكس تماماً موقف شيخه القرضاوي في سبعينيات القرن الماضي حول المسألة، وخاصة حول عدم اعتبار الطعام قضية رئيسية تتعلق بالعقيدة، يقوم على نهج تتبناه الجماعة في أوروبا، مداره ليس تشجيع المسلمين على الاندماج، بل صناعة هوية منكمشة حول نفسها، وذلك لتسهل السيطرة على الجالية المسلمة وتوظيفها في الصراعات السياسية والثقافية التي تدخلها الجماعة وكذلك للمحافظة على عملية التراكم الرأسمالي الكبيرة التي يحققها هذا الموقف الفقهي، ذلك أن اللحوم الحلال أعلى قيمةً من حيث السعر.
ويشير قول حنفي بأن "قضية الطعام والذبح الحلال ليست مسألة ثانوية في حياة المسلم" إلى إرادة واضحة في تعميق مشاعر الشعور بالذنب لدى كل مسلم لا يشتري اللحوم الممهورة بطابع الحلال، وكذلك المحافظة على حالة احتكار المعرفة الدينية التي تفرضها الجماعة، كونها مَن يقدم شهادات الحلال وخدمات مراقبة الذبح.
وهذا ليس فقط شأن الإخوان بل تقوم به أغلب الجماعات الأخرى كالتيار السلفي وجماعة مللي غوروش التركية وكذلك الهيئات الإسلامية التابعة لدول أجنبية مثل المغرب والجزائر وتركيا. لذلك أصبح "الحلال" رهناً بمعركة سياسية في المجال الديني، للسيطرة على الإسلام في أوروبا. وعكست هذه المعركة فشل تيار الإصلاح الديني، إذ توارت فتوى الشيخ محمد عبده خلف النسيان، وقد أراد من خلالها أن يفتح العالم الإسلامي على بقية العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع