قبل عقدين من الزمن تولّد اهتمامي بالفنّ التشكيلي العربي المعاصر في مكانٍ غير متوقع. كنت أتجول بصحبة والدتي ناعمة بنت ماجد ووالدي سعود بن خالد (2005-1939) على طول الضفة الشمالية لخور دبي، ووقع نظري حينها على لافتة كُتب عليها: "معرض فني: إسماعيل شمّوط وتمّام الأكحل". كان ذلك في ربيع عام 2002، والمكان كان قاعة المؤتمرات في غرفة تجارة دبي، وهو مبنى مثلث الشكل مكسو بالزجاج الأزرق أنجزته شركة الهندسة اليابانية نيكن سيكي قبل سبع سنواتٍ مضت.
لدى دخولنا المكان، لفت انتباهنا العديد من اللوحات الكبيرة للزوجين الرسامين. وقد أتاحت الطبيعة التشخيصية والمحتوى التاريخي للزوار غير الملمين بالفنون إدراك الشخوص والأماكن والأحداث، ولم يكن بمقدوري إدراك جمالية ما شاهدته حينها إلاّ بعد سنوات عدة. خلال تلك الفترة، كانت المعارض والمصادر الفنية شحيحة أمام المهتمين بالفنّ التشكيلي العربي باستثناء بعض الأماكن في دولة الإمارات-دبي مثل "غرين آرت جاليري" (تأسس عام 1995)، وجمعية الإمارات للفنون التشكيلية (تأسست عام 1980)، ومتحف الشارقة للفنون (تأسس عام 1997)، والمجمّع الثقافي في أبوظبي (تأسس عام 1981).
حامد عويس (مصر، 1919 - 2011). حماة الحياة، 1967 - 1968، ألوان زيتية على قماش، 132 × 100 سم. الصورة مقدمة من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
أما اليوم فتوجد الكثير من الكتب والمجلدات التي تتناول الفنّ التشكيلي العربي، عدا عن المصادر الإلكترونية والحسابات المتخصصة على منصات التواصل الاجتماعي، والمزادات والمعارض، إضافة إلى الباحثين وجامعي المقتنيات الفنية الذين يمكن الاستعانة بهم. ومع ذلك، لا يزال محيط الاهتمام بالفن التشكيلي العربي هامشياً إلى حد كبير. فالشباب العربي لا يميز لوحات كبار الفنانين العرب المعاصرين مثلما يميز أقرانهم الغربيون لوحة "ليلة مرصعة بالنجوم" لفينسنت فان غوغ مثلاً.
لا يزال محيط الاهتمام بالفن التشكيلي العربي هامشياً إلى حد كبير. فالشباب العربي لا يميزون لوحات كبار الفنانين العرب المعاصرين مثلما يميز أقرانهم الغربيون لوحة "ليلة مرصعة بالنجوم" لفينسنت فان غوغ مثلاً
وفي واقع الحال، يعتبر بعض العرب أن إلمامهم/ن بالفنّ الغربي دليلَ نخبوية عالمية، تماماً كمن يعتبر أنّ تحدث العربيّ باللغة الإنكليزية دليلٌ على ثقافته. ويعود ذلك جزئياً إلى عقودٍ -إن لم يكن قروناً- من الهجوم الغربي الثقافي المدعوم بالتاريخِ الاستعماري والقوة العسكرية الغربيين، بالإضافة إلى القوة الناعمة لأفلام هوليوود التي تنامى أثرها خلال السنوات الأخيرة. وحتى يتحرر الفن العربي من قيود النخبوية، لا بد من إحداث تغيير جذري في نظرة الجمهور إليه، ولهذا يتطلب دعمَ جهود الحكومات العربية -مهما كانت بسيطةً - بتغيير نابع من أنفسنا أولاً. وأودّ أن أقول للشباب العرب الراغبين بتنبي النتاج الثقافي العربي: عليكم أن تفخروا بالفنّ العربي. لا تستسلموا لانهزامية الآخرين الذين يجهلون ثقافتكم ولا يقدّرون جمالها.
إذا سُئلتم/ن عمّا إذا كان الفنانون التشكيليون العرب قد شاركوا في الحركات الفنية الغربية مثل الدادائية أو البوب أو الحركة الفوفية، يمكنكم/ن أن تجيبوا/تجبن السائلين بأنّ الفنانين العرب كانوا جزءاً من مدارس فنية عريقة مرتبطة بتاريخنا وسياقنا الحضاري. ولكم أن تذكروا بهذا الخصوص الحركةَ الحروفية التي أطلقتها الفنانة الحلبية المولد مديحة عمر في أربعينيات القرن الماضي، والتي حررت بها الحرف من الكلمة وسار على دربها العديد من فناني غرب آسيا وشمال أفريقيا.
ويمكنكم/ن أيضاً أن تذكروا/تذكرن الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد الذي استلهم نظريته الجمالية في الفن التشكيلي "البُعد الواحد" من القيم الروحانية الإسلامية. وأخبروا/أخبرن السائلين كذلك عن الفنانة السودانية كمالا إبراهيم إسحاق وبيان المدرسة البلورية، وعن الفنان التشكيلي الكويتي خليفة القطان، مبتكر نظرية الفنّ الدائري أو فنّ السركلزم. واذكروا/اذكرن له أيضاً التشكيلييْن الجزائرييْن شكري مسلي وباية محي الدين، وبيان مجموعة "أوشام" المستوحى اسمها من النقوش الحجرية القديمة عبر سلسلة جبال طاسيلي.
تحدثوا/تحدثن أيضاً عن مجموعة الدار البيضاء المغربية، وجماعة الفنّ والحرية المصرية التي جمعت بين صفوفها المسلمين والمسيحيين واليهود، وعن الفنان السعودي الراحل محمد السليم، مبتكر أسلوب "الآفاقية" الفنيّ، ولا تغفلوا/تغفلن عن لحظة التأسيس المحورية لجماعة بغداد للفنّ الحديث في عام 1951 والتي دعت الفنانين العراقيين إلى "إعادة إحياء الاستمرارية" التي فُقدت بعد حقبة مدرسة يحيى الواسطي الفنية في القرن الثالث عشر.
سلوى روضة شقير (لبنان، 1916 - 2017). التكوين باللون الأصفر، 1962- 1965، ألوان زيتية على لوح ليفي،51.4 × 81.3 سم. الصورة مقدمة من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
وإذا سألكم/ن أحدهم/ن عن تنوع الفنّ العربي التشكيلي، أخبروه/أخبرنه أنّ العالم العربي أنتج فنانين يهوداً أمثال المصري حزقيال باروخ، والمغربي أندريه الباز، والفلسطيني يوسف عبّو، والتونسي يعقوب شملا، ناهيك عن العديد من الفنانين العرب المنحدرين من قوميات مختلفة مثل الأمازيغ والأرمن والفُرس والكُرد.
حدّثوا/حدثن من يسألكم/ن عن رائدات الفنّ العربي التشكيلي مثل الفنانة الفلسطينية زلفة السعدي (1905-1988) التي تمّ عرض أعمالها في المعرض القومي العربي الأول في القدس عام 1933، أو عن اللبنانية ماري حداد (1895-1973) التي شاركت في المعرض العالمي في نيويورك خلال عامي 1939-1940، أو عن المصرية إيمي نمر (1898-1974) التي سطع نجمها للمرة الأولى في صالون الخريف الثقافي في العاصمة الفرنسية باريس عام 1925.
وعن مظاهر التضامن في الفنّ التشكيلي العربي، أخبروهم/أخبرنهم أنّ الفنانين العرب وقفوا جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين والجزائريين في نضالهم من أجل الحرية كما تجلى واضحاً في لوحة صبرا وشاتيلا للفنان العراقي ضياء العزاوي، أو لوحة مجزرة الجزائر (1956) للفنان العراقي محمود صبري، والتي لم يعد يوجد لها أثر اليوم.
كاظم حيدر (العراق، 1932 - 1985). عشرة تناجي والعدم، 1965، ألوان زيتية على قماش، 91 × 127 سم. الصورة مقدمة من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
أخبروهم/ن أن الفنانين العرب وقفوا مع شعوب فيتنام وكوبا والكونغو وجنوب أفريقيا، ويمكن لأيٍّ كان أن يدرك ذلك بمجرد إلقاء نظرة سريعة على ملصقات الفنان التشكيلي كمال بُلّاطة ولوحة الفنان إبراهيم الصلحي الجنازة والهلال التي يكرّم بها المناضل باتريس لومومبا.
وإن سُئلتم/ن عن الحبّ في الفنّ التشكيلي العربي، فاذكروا العلاقة التي جمعت بين الفنانتين إيتيل عدنان وسيمون فتّال على مدار خمسين عاماً، وتغنّوا أمام السائلين بلوحة سعد الخادم عن زوجته عفّت ناجي المعلّقة في متحفهما المشترك بالقاهرة، وعن مي مظفّر وليلي فرهود وتفانيهما في تخليد الإرث الفني لزوجيهما الراحلين رافع الناصر وكمال بُلاّطة، ولا ننسى الفنانة البريطانية لورنا سليم التي أشرفت على عمليات إتمام نصب الحرية في بغداد، والعائد لزوجها الراحل جواد سليم الذي وافته المنيّة بشكل مفاجئ عام 1961. أخبروهم عن حب جمانة الحسيني لمدينتها القدس التي واصلت رسمها حتى بعد سبعة عقود من نفيها.
وإذا سألوكم/سألوكن عن الابتكار، فتحدثوا عن المجسمات الضوئية الملونة التي أبدعتها الفنانة ناديا صيقلي في سبعينيات القرن الماضي وتبدو وكأنها ظلال منعكسة لمدينةٍ ما، وأطلعوهم/ن على أعمال رائد الفن المفاهيمي خلال الثمانينيات حسن شريف الذي نراه ضمن عملٍ له يمشي بعيداً في فضاء صحراء حتّا كما لو كان يترك الحضارة خلف ظهره.
ولا تنسوا/ولا تنسن الصور السرياليّة الدراماتيكية للمصور المصري الأرمني فان ليو في أربعينيات القرن الماضي، والذي استخدم فيها تقنياتٍ جديدة تضمنت التعرض لأشعة الشمس والتعرض المتعدد للضوء. واذكروا/اذكرن لهم/ن أيضاً سلوى روضة شقير، رائدة الفن التجريدي في لبنان، والتي يُقال إنها أقامت أول معرض للفن التجريدي في العالم العربي خلال الأربعينيات.
ليلى نصير (سوريا، 1941). الشهيدة (الأمّة)، 1978، ألوان زيتية على قماش، 160 × 140 سم. الصورة مقدمة من مؤسسة بارجيل للفنون، الشارقة
تحدّثوا/تحدثن عن الفنّ التشكيلي العربي أمام أصدقائكم وعائلتكم ومعارفكم من غير العرب. يجب أن يكون هذا الفنّ مهماً بالنسبة لكم لأنه مرتبط بسياقكم الفكري وكينونتكم. فهو تجسيدٌ لتاريخنا، ومعتقداتنا، وانتصاراتنا، وهزائمنا، وأيضاً للحركات التحررية وأرواحنا الصامدة. الفن العربي يتحدث عن أبطالنا وأحبائنا وعن حياة الرجال والنساء. إنه هويتنا التي نحن عليها الآن. فلا نسمح لأحد أن يقنعنا بخلاف ذلك. صحيح أنه من المهم معرفة لوحاتٍ مثل "جيرنيكا" و"سينكو دي مايو" و"حديقة المباهج الأرضية"، ولكن الأهم بالنسبة لنا أن نعرف أعمالاً فنية مثل "جمل المحامل" و"الصوت الأخير" و"بغداديات". وأقول الشيء نفسه أيضاً لأصدقائنا في جنوب آسيا وإيران وإفريقيا، فلديهم جميعاً أعمال فنية رائعة تستحق الانتشار والتقدير على أعلى مستوى.
الفن التشكيلي الغربي ليس بحاجة إلى رعاية، ولكن الفن التشكيلي العربي والفنانين العرب بحاجة إلى ذلك. ومن دون أصواتكم/ن الداعمة سيستمر بالتراجع إلى مراتب ثانوية
لا تسمحوا/لا تسمحن للآخرين بشرذمة انتمائكم/ن. فالفن العربي هو نتاج أمةٍ عريقة تنضوي تحت جناحها فنون مصر والمغرب والشام والجزيرة العربية. إنه فنّ يعكس جمال صحارينا وواحاتنا وجبالنا وودياننا، ويتحدث بلسان أوابدنا التاريخية ومدننا المعاصرة. وإلى جانب أهميته الثقافية والسياسية والاجتماعية، هو فنّ آسر يخص 400 مليون شخص ويغطي 8,000 ميل مربع، ولا يعرف الخبراء سوى غيضٍ من فيضه الغني.
وأخيراً، اطلبوا/اطلبن أعمال الفنّ التشكيلي العربي في المدن والدول والمناطق التي يمكن له أن ينتشر فيها. الفن التشكيلي الغربي ليس بحاجة إلى رعاية، ولكن الفن التشكيلي العربي والفنانين العرب بحاجة إلى ذلك. ومن دون أصواتكم/ن الداعمة سيستمر بالتراجع إلى مراتب ثانوية. طالبوا/طالبن المكتبات بتوفير كتبٍ عن الفنّ التشكيلي العربي، واطلبوا/اطلبن من مدارسكم أن تقوم بتدريسه، ولا تتوانوا عن المطالبة بحضوره في ثقافتكم الشعبية وأفلامكم وحتى إعلاناتكم.
من الضروري أن تتضافر جهود الحكومات والمواطنين والشركات والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام والمؤثرين عبر وسائل التواصل الاجتماعي إذا أردنا أن نحفظ لأنفسنا مكاناً في هذا العالم، وألاّ تتوه هوياتنا في غياهب النسيان كما قال أنطون شماس. لا تسمحوا لمن لا يعرف ثقافتكم أو يقدّر جمالها أن يوهن عزيمتكم. تعلموا كل شيء عن الفن التشكيلي العربي وافخروا به وتحدثوا عنه أمام الآخرين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.