شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"لا أريد سيارةً... أريد بودكاست"

حياة

الأربعاء 19 أبريل 202303:28 م

في الماضي، كان تحصيل الثقافة أمراً صعباً، إذ إن عملية الوصول إلى المعرفة لم تكن باليسر الذي هي عليه اليوم، وكان كُل شيء تقريباً محصوراً في الكتاب، والفئة التي تصل إليه كانت محدودةً نوعاً ما، أما الآن، فالواقع تغيّر كثيراً في عصر الكتب الإلكترونية وقنوات اليوتيوب وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، إذ لم تعد للجهل حجة، ومن يملّ من قراءة الكتب، أمامه عدد لا محدود من قنوات اليوتيوب التي تقدّم المعلومة بشكل مبسط، وأصبحت تُدخل النكتة والكوميديا في شرح الحقائق العلمية والاجتماعية والطبية، من دون أن يؤثر ذلك على دقة المعلومة بشكل نقدر من خلاله على إيصال فكرة النسبية، إلى من لم يفهم في المدرسة أنّ قانون السرعة هو المسافة على الزمن.

ولعل آخر وسائل نشر المعرفة، البودكاست، هذا الصوت المتأني والمتمهل الذي يرافقنا أينما ذهبنا. أصبحت الثقافة لا تتطلب سوى سماعتين وبرنامج بودكاست، الذي حوّل الوقت الضائع الذي نقضيه في السفر إلى وقت ثمين يزيد من ثقافتنا، ويُوسّع مداركنا، وقد يغيّر حياتنا ويقلبها رأساً على عقب، ويحسّن من مستوى صحتنا النفسية والعقلية، ويقلّل من مستويات القلق والاكتئاب، ويعزز مهارات التأقلم لدينا.

يقول مستشار الصحة العقلية الإكلينيكية في واشنطن دان بيتس، في مقالٍ له على موقع "psychology Today": "وجد التحليل التلوي لـ22 دراسةً مختلفةً، أن العلاج بالبودكاست له فوائد إيجابية في تقليل استهلاك الكحول، ووجدت دراسة أخرى أنّ العلاج بالبودكاست قلل من الاكتئاب والقلق، إلى جانب عدد من الأعراض النفسية الأخرى، مع زيادة مهارات التأقلم لدى مرضى السرطان. ووجد التحليل التلوي الذي قارن العلاج بالبودكاست بمجموعة تحكم ومجموعة من الأشخاص الذين يحصلون على خدمات الصحة العقلية، أنّ العلاج بالبودكاست كان فعّالاً في الحد من الأعراض بشكل مشابهٍ لفعالية علاجات الصحة العقلية".

بحر من الأفكار المتنوعة

تقول ثناء علي (28 عاماً)، التي تقطن في سقوبين المتاخمة لمدينة اللاذقية، وتُدرّس في أحد المعاهد الخاصة التي تُعطي دورات تقوية للطلاب: "لقد كنت أحلم باقتناء سيارةٍ أرتاح فيها من معاناة انتظار وسائل النقل العامة، وما فيها من ابتزاز وتحرش وسط الزحام والتدافع، ولأنّ اقتناء السيارة كان بعيد المنال فكّرت في حلول أخرى من منظور آخر مختلف تماماً، فأصبحتُ أضع السماعات في أوقات انتظار 'السرفيس'، وأغوص في قنوات البودكاست لأجد فيها أفكاراً لطالما أدهشتني وأخذتني معها بعيداً عن الزحام الذي كنتُ أتوه فيه كل يوم".

الجِدّة في الأفكار وتنوعها على قنوات البودكاست، انعكستا إيجاباً على تفكيري وتغيّرت نظرتي إلى العالم من حولي، وإلى ذاتي، في تلك الأوقات المقرفة والمزعجة التي كنت أقضيها في الانتظار

وتضيف: "الجِدّة في الأفكار وتنوعها على قنوات البودكاست، انعكستا إيجاباً على تفكيري وتغيّرت نظرتي إلى العالم من حولي، والأهم من ذلك تغيّرت نظرتي إلى ذاتي في تلك الأوقات المقرفة والمزعجة التي كنت أقضيها في الانتظار، تارةً تحت المطر وتارةً تحت أشعة الشمس".

وتضيف: "معدّلي الجامعي يقارب 75% في السنة الأولى من الجامعة، ولكن بعد إدمان البودكاست في وسائط النقل ازدادت مهاراتي في تنظيم الوقت وفهمت قدراتي الذهنية والنفسية بشكل أعمق وأصبحت أقدر على إدارة الضغوط الحياتية التي أتعرض لها، وانعكس على معدلي الجامعي، إذ قفز في نهاية السنة الثانية إلى 84.3".

بعد أن كان حلم ثناء اقتناء سيارة تريحها من عناء المواصلات، أعادت التفكير ملياً في هذه الرغبة، فهي لو اشترت سيارةً ستخسر كل هذا التطور والنمو الذي أعطتها إياه ساعات الانتظار والسفر وهي تستمع إلى البودكاست. تقول: "صرخ صوت في داخلي: لا أريد سيارةً... أريد بودكاست".

الكثير من الأسئلة المرهقة

تقول كريستين موسى (27 عاماً)، وهي طبيبة متخصصة في طب الأطفال وحديثي الولادة وتعمل في أحد مشافي اللاذقية: "دخل البودكاست إلى حياتي مبكراً مقارنةً مع أصدقائي، إذ بدأتُ الاستماع إليه قبل دخولي إلى الجامعة، ولقد أضاف إليّ الكثير وزرع لدي الكثير من المفاهيم والأفكار الجديدة والمفيدة، ولكن وصلتُ إلى نقطةٍ أصبح فيها مزعجاً لي".

تروي أن البودكاست "عزز حالة فرط التفكير التي كنت أعاني منها منذ أن بدأ وعيي يتشكل، وفي كل مرة أستمع فيها إلى إحدى حلقات البودكاست التي كنت أنتقيها بدقة، كنت أخرج بجواب واحد وعشرات الأسئلة الأخرى، وهذا ما كان يزيد الشك في داخلي تجاه الكثير من المفاهيم التي كنت أعدّها مبادئ ثابتةً".

حين تُفكر كريستين في أي قرار قبل اتخاذه، غالباً ما تضع في عين الاعتبار جانباً أو جانبين أو ثلاثةً وربما أربعةً على الأكثر، لكن الطريقة السهلة التي أتاح فيها البودكاست عدداً هائلاً من المعلومات وعدداً غير محدود من وجهات النظر، خلقت المزيد من التشويش في رأسها، إذ كانت تتابع الاستماع إلى "بودكاست شلة" الذي يتضمن مجموعةً من الأصدقاء يناقشون قضيةً ما من وجهات نظرهم المختلفة، وتقول: "لأن دماغي أرض خصبة للأفكار الجديدة ووجهات النظر المغايرة، فقد انتقل تعدد الآراء هذا إلى داخل رأسي في كل صغيرة وكبيرة".

وتضيف أنه حين جاء موعد مفاضلة الاختصاصات الطبية، راحت تفكر في عشرات الجوانب المتعلقة بكل اختصاص، وتفاصيل الحياة التي ترافقه، وكيف سيؤثر ضغط العمل المتعلق به على زوجها وأطفالها، وما هي تجهيزات عيادة كل اختصاص؟ وسعرها في السوق؟ ومتى ستصبح قادرةً على شرائها؟

في كل مرة أستمع فيها إلى إحدى حلقات البودكاست التي كنت أنتقيها بدقة، كنت أخرج بجواب واحد وعشرات الأسئلة الأخرى، وهذا ما كان يزيد الشك في داخلي تجاه الكثير من المفاهيم التي كنت أعدّها مبادئ ثابتةً

تقول: "غرقتُ داخل رأسي ولم أستطع السباحة إلى برّ الأمان، وسقطتُ في فراشي باكيةً؛ ست سنوات من دراسة الطب، وأنا أنتظر اللحظة التي سأصبح فيها طبيبةً، وعندما أتت تلك اللحظة عجزت عن الاختيار، وبدأت أتسول الأسئلة حول كل اختصاص، وفي النهاية لم أعد أريد الوصول إلى إجابات لأنها كانت تقودني إلى أسئلة أكثر".

تتابع كريستين في روايتها: "كنت أود أن أجد شخصاً يقول لي بثقة عمياء: ادخلي هذا الاختصاص وأقتنع بكلامه، لأنهي معاناة الاختيار هذه. دخلتُ اختصاص الأطفال وحديثي الولادة وتعرفت إلى الكثير من الأطباء، وسألت الجميع خلال السهرات والمناوبات سؤالاً واحداً: كيف اخترتم هذا الاختصاص؟ وكان جواب الأغلبية بسيطاً جداً لا يتعدى جانباً أو جانبين. ثم أتبعه بسؤالٍ آخر: هل تستمع/ ين إلى البودكاست؟ وكان جواب الأغلبية لا، وأغلبهم لم يقرأوا كتاباً خارج مجال الطب ومن قرأ فيهم كان قد قرأ روايةً أو اثنتين في حياته كلها".

تقول: "لقد وصلت إلى استنتاج بسيط قد لا يخص الجميع، وربما لا يخص أحداً سواي. لقد فتح البودكاست مدارك متعددةً في دماغي أتعبتني أكثر مما أراحتني، وكما قال لي طبيبي النفسي: أنت شخصية دقيقة في حياتها وتفكيرها إلى درجة تؤذين معها نفسك في كثير من الحالات، وبناءً على رؤيته هذه طرح عليّ أن أخفف من الاستماع إلى البودكاست لأنه وجد فيه كثافة معلومات وأفكاراً تُعطى بشكل سهل وبسيط، وهذا ما كان يغذّي فرط التفكير الذي كنت أعاني منه أصلاً".

الدهشة خارج السياق

يقول علي ديوب (35 عاماً)، وهو خريج هندسة ميكانيك، من سكان قريةٍ على أطراف مدينة جبلة السورية: لقد حاولت في ما مضى قراءة الكتب، لم أكن أكمل 50 صفحةً، حتى أُصاب بالملل، كنت بحاجةٍ إلى أيام وربما أشهر حتى أنهي كتاباً واحداً لكي أكوّن فكرةً واحدةً، وفي جوّ الفكر الواحد والرأي الواحد، الكتب التي تحمل أفكاراً جديدةً تساعدك على أن تعيش حياةً أفضل بنسبة قليلة جداً، والمتوفر منها يساعدك على أن تكون عبداً للأفكار الرائجة والسائدة في المجتمع، دينيةً كانت أو اجتماعيةً أو سياسيةً، وأي كتاب يخرج عن هذا السائد يقع في مقصلة الرقابة ويموت قبل ولادته، هذا ما كسرته الكتب الإلكترونية، ثم أتى البودكاست ليكسر ما تبقى من أنياب الرقابة، ويبطل حجة الملل التي كانت تمنعني من قراءة الكتب".

يستذكر علي، الأيام الأولى من تنزيل برنامج البودكاست وكيفكان منبهراً بالكم الهائل من الأفكار الجديدة التي لم يسمع بها من قبل، فكان يُشغّل البودكاست قبل النوم وبينما يستقلّ وسائل النقل، وحين كان يعمل في الأرض، يقول: "كنت أضع هاتفي المحمول على جذع شجرة قريبة في محفظة سميكة تؤمّن له الحماية اللازمة، وتسمح للصوت بأن يخرج منه بوضوح، وكنت أعدّ قائمة التشغيل مساءً وأنا متحمسٌ للاستيقاظ صباحاً، لكي أعمل وأستمع. لقد كانت لذةً عقليةً وفكريةً، لم أشعر بها في حياتي، فمن تعوّد على ثقافة تكرر الأفكار التقليدية والكلاسيكية ستدهشه أي فكرة تخرج عن السياق".

هذه البيئة التي أصابها التصلب والعقم، وبات حلم التغيير فيها أشبه بحلم إبليس بالجنة. لقد جرّ البودكاست إلى حياتي الكثير من الكآبة

يضيف: "أذكر تماماً كيف كان البودكاست يزيد من عدد ساعات عملي في الأرض، فبعد أن كنت أقضي ساعتين في إزالة الحشائش الضارة، وجمع الحطب اليابس وتقطيعه وتقليم أشجار الزيتون وغيرها، أصبحتُ أقضي أربع ساعات أو أكثر قبل أن يصيبني التعب وأعود إلى المنزل على دراجتي النارية، وأنا أراجع ما سمعته في ذهني وأعيد ترتيب الأفكار وأربطها بطفولتي وشبابي ومدرستي وعائلتي، بقيت على هذه الحال سنتين جمعتُ فيهما ما لم أكن أحلم بجمعه من معرفةٍ وثقافةٍ، ولو اعتمدتُ على الكتب لقضيت عمري كله في تحصيلها".

صحيح أن علي، مسرور بما وصل إليه من خلال الاستماع إلى البودكاست، ولكن يسأل: "ما الفائدة إن كنتُ عاجزاً عن تطبيق أي فكرة جديدة في البيئة المحيطة أو حتى المنزل الذي أعيش فيه؟"، ويضيف: "هذه البيئة التي أصابها التصلب والعقم، وبات حلم التغيير فيها أشبه بحلم إبليس بالجنة، فلقد جرّ البودكاست على حياتي الكثير من الكآبة، فما هو أشد بؤساً من أن تنظر إلى أهلك وهم يصرّون على اعتناق الأفكار القديمة التي كانت السبب في المستنقع الذي وقعنا فيه جميعاً، وأن تراهم يسارعون إلى ما يؤذيهم وينبذون ما يفيدهم، ويتبعون من يضحك عليهم بالكلام ويصرخون في وجه من يحاول مساعدتهم. إنها كآبة الحقيقة".

يتساءل الطبيب والاستشاري في الأمراض النفسية رفيف المهنا حول دور الوصول السهل إلى المعلومات والأخبار وتأثيرها على حياتنا، ويتناولها بطريقة فلسفية عميقة ومميزة، فيسأل: "هل تخفف المعلومة/ الخبر" من القلق أم تزيده؟ هل ترتاح فعلاً الأم التي تتبع تحركات أبنائها كل ساعة عبر الهاتف النقال؟ هل صار الشخص مدمناً على المعلومة والخبر، وصار يتناولهما كمريض كحولي يخفف من حاجته الآنية السطحية من دون التخفيف من الحاجة الحقيقية العميقة؟".

يقول: "نعم، هناك شيء ما يربط المعلومة/ الخبر بالقلق، وأظن أن كل وسائل الإعلام والتواصل، تعتمد على هذه الآلية في جعل كل الناس عبيداً لرغبتهم في المعرفة، وخصوصاً تلك المعرفة المسكّنة لحظياً لا أكثر. فكلما ازدادت المعرفة والمعلومة والخبر، توقف الإنسان عن ابتكار وسائل عميقة للوصول إلى السلام والاطمئنان، وعالم المعلومات جعلنا أفراداً معتمدين لا أحراراً، نعيش مع ذواتنا في سباق محموم حول الجديد وكأن كل معلومات الكون تخصنا وأي نقص في أي معلومة سيكون له تأثير على صورتنا أمام أنفسنا وأمام الآخرين".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard