بين الوصيّ على الدين ومحتكر الوطنية صراع لا ينتهي. يعقدان هدنة أحياناً فيجهزان على عمل إبداعي. الأول يراه غير أخلاقي، والثاني يتهمه بأنه غير وطني. كلاهما يحمّل الآداب والفنون فوق طاقتها، ويثقلها بأعباء من خارجها.
في الآداب والفنون، كلما حشر مفهوم الأخلاق ضاقت الرؤية. مساكين والله مَن يبددون أعمارهم في الخوف على الدين أو الوطن من فيلم أو رواية. لو منحهم الله، أو مناهج التربية الوطنية القاتلة للخيال، شيئاً من البصيرة لعرفوا أن العمل الجيد أخلاقي بالضرورة، ووطني أيضاً. غير الأخلاقي متهافت، مصطنع، يدغدغ مشاعر دينية ووطنية وشعبوية عارضة، ويحظى بثناء رسمي وجماهيري، وينتهي الغرض من صنعه، فيذهب إلى النسيان.
إشادة رجل الدين بعمل، لأنه "أخلاقي"، تنطوي على اتهام أعمال أخرى بأنها لا أخلاقية. لماذا يقتصر وصف "الوطني" على العمل الدرامي ذي الطابع العسكري؟ لا حصر لأعمال أشرفت عليها لجان، وعقدت لها اجتماعات، واستهلكت ميزانيات مفتوحة. وقد تذكر في مناسبة، وعلى استحياء تعرض، ثم تنتظر إلى العام التالي أو تنسى.
بين الوصيّ على الدين ومحتكر الوطنية صراع لا ينتهي. يعقدان هدنة أحياناً فيجهزان على عمل إبداعي. الأول يراه غير أخلاقي، والثاني يتهمه بأنه غير وطني. كلاهما يحمّل الآداب والفنون فوق طاقتها، ويثقلها بأعباء من خارجها
لا أحد يبحث عن أي من الأفلام المصنوعة عن حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. ولا يخفى على المتابع اهتمام عبد الفتاح السيسي بمضمون الدراما. يريدها امتداداً لدور الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، ويستدعي حضور الإعلام والثقافة في زمن جمال عبد الناصر. الفرق بينهما نوعي، في الوعي. الأخير يبدو عقدة، من التصنيع إلى الدراما.
روى الشاعر أسامة عفيفي واقعة بطلها رمسيس يونان أحد مؤسسي حركة الحداثة في مصر. لم يكن الكاتب الفنان التشكيلي الرائد يؤمن بدور سياسي للجيش؛ فعادى الثورة في بدايتها. وكان يعمل في الإذاعة الفرنسية، وبوقوع العدوان الثلاثي عاد إلى مصر. وقرر له فتحي رضوان وزير الإرشاد منحة تفرغ ظلت تتجدد، حتى تولى الوزارة ثروت عكاشة فأنهاها؛ بحجة أنه لا يقدم أعمالاً بناء على تفرغه. وعلم عبد الناصر، فأيقظ عكاشة من نومه. قال له: "رمسيس يونان فنان كبير، وله أن يفنّ في الوقت الذي يحلو له". بإيمان شخصي بالتجربة بادر التشكيليون بأعمال باقية عن السد العالي. أين منها "ثلاثية توشكى" لأحمد نوار؟
فتحي رضوان، المثقف الكبير، آمن بأن الفن الوطني هو الإنساني. الروح الإنسانية تضمن له البقاء، وتتحدى الزمن. ولم تأخذه سكرة فيلم "بورسعيد". في نيسان/أبريل 1957 عُرض لصلاح أبو سيف فيلم "الفتوة"، بمشاركة زكي رستم وتحية كاريوكا أمام النجم الشعبي فريد شوقي. وتحمس فريد شوقي لإنتاج فيلم "وطني" ردا على العدوان الثلاثي (البريطاني الفرنسي الإسرائيلي).
غير الأخلاقي متهافت، مصطنع، يدغدغ مشاعر دينية ووطنية وشعبوية عارضة، ويحظى بثناء رسمي وجماهيري، وينتهي الغرض من صنعه، فيذهب إلى النسيان.
وفي تموز/يوليو 1957 عُرض فيلم "بورسعيد" لعز الدين ذو الفقار الذي مثّل شخصية جاسوس، وحشد المنتج كبار "النجوم" للمشاركة: فريد شوقي، شكري سرحان، رشدي أباظة، أحمد مظهر، هدى سلطان، ليلى فوزي، حسين رياض. أبرز الفيلم كفاح مواطني بورسعيد، وبسالتهم في رد العدوان، حتى انتصار الإرادة الوطنية.
ذهب الممثل الذكي إلى وزير "الإرشاد القومي"، وتباهى بإنتاج فيلم "وطني"، دفاعاً عن قضية عادلة. فتحي رضوان كان صريحاً صراحة تليق بمثقف يرى أبعد وأعمق من محنة عابرة، لحظة في عمر الوطن. قال لفريد شوقي: "يجب أن تفتخر بأنك قدمت فيلم الفتوة!". وفي اختبار الزمن صمد "الفتوة"، واحتل مكاناً بين أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية؛ لأنه فيلم إنساني، لا يسعى إلى التملق.
يصْدق إخلاص صناع فيلم لفكرة ما، واشتغالهم بمزيج من الطموح والقلق، ثم يكتشفون أنهم صنعوا فيلماً عظيماً. ومهما يكن صدق صناع الفيلم "الوطني"، فلا يخلو الأمر من شعور بالتكلّف، وإجراء الحسابات، ومراعاة التوازنات والمواءمات، القاتلة أحياناً.
الإنتاج المتهافت، خوفاً أو طمعاً أو كليهما، مثير للسخرية. باختفاء الصدق يحضر الافتعال مكشوف الوجه. في عام 1962 أخرج حلمي رفلة فيلم "ألمظ وعبده الحامولي". أظهر الخديو إسماعيل فظاً داعراً جاهلاً. لا أتهم المخرج بتقديم شهادة إخلاص للعهد الجديد، لكنه قدم فيلماً ربما الأسوأ لحسين رياض في دور الخديو. صورته الذهنية، كما يقدمها الفيلم وكما قرروها في المناهج الدراسية، أنه رمز للتبعية، وأول من أغرى "الآخر" ولمح إليه بإمكانية التدخل في شؤون مصر، تمهيداً للاحتلال، بعد أن أغرق مصر بالديون، إرضاء لشهواته وحبه للشهرة. وبعد ثلاثين سنة أعاد الكاتب الناصري محفوظ عبد الرحمن الاعتبار إلى الخديو في مسلسل "بوابة الحلواني".
خارج الثنائي الوصي على الأخلاق والوطنية أصوات يفترض ألا ينطلق أصحابها، المثقفون، من هاتين الزاويتين. البعض، في الاختبار، لا ينجح. يهزمه المجاز، فيقرأ الإبداع بمعيار "الخبرة الحية"، لا الطاقة المفجرة للتأويل
خارج الثنائي الوصي على الأخلاق والوطنية أصوات يفترض ألا ينطلق أصحابها، المثقفون، من هاتين الزاويتين. البعض، في الاختبار، لا ينجح. يهزمه المجاز، فيقرأ الإبداع بمعيار "الخبرة الحية"، لا الطاقة المفجرة للتأويل.
جرى الغضب مع نشر رواية يوسف إدريس "البيضاء" نهاية الخمسينيات، وحين أعاد نشرها بعد ثلاثين عاماً. اتهموا إدريس بالتحامل على الشيوعيين، والاصطفاف مع السلطة الناصرية التي اعتقلت قياداتهم. وقبل أزمة "البيضاء"، استنكر مدرس الفلسفة زكي نجيب محمود على الإبداع شطحاته، تعليقاً على الديوان الأول لصلاح عبد الصبور "الناس في بلادي". وكتب دراسات ساخرة، منها "ما الجديد في الشعر الجديد؟"، "ما هكذا الناس في بلادي". ونشرها في كتابه "مع الشعراء".
محمود بدأ بوصف قصيدة "الناس في بلادي" بالقطعة الفنية. ثم انصرف عن التقييم الفني إلى السخرية من الشاعر: "اسمعوا وعوا، أيها القرّاء، وإذا وعيتم فانتفعوا". لعل أحد المشتغلين بالنقد الثقافي ينتصر للناقد الذي قرأ الحمولة الاجتماعية والحيوية للقصيدة.
هذا النقد، الذي يمثله زكي نجيب محمود وقليلون من المثقفين، معارضة لفظية، لا تنتقص جدارة المبدع، ولا تؤدي إلى عنف لفظي أو سلوكي يمارسه هتّـيفة باسم الدين أو الوطنية. لهذين الفريقين مشجعون، جاهزون لنصرة قادة لا تناقش أحكامهم. صنفان من القادة يعرفان سيكولوجية تابعين مستعدين للتضحية بالأنفس، في سبيل الدين أو الوطن. اختلافهما رحمة، وتصالحهما خطر. أي مصير إذا اتفق الكاب والعمامة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع