أحصيت أمس، في صحيفة الأهرام، أكثر من عشرين مقالاً في الشؤون الرئاسية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والقانونية والإعلامية والدولية، كتبها "كتّاب" من أجيال وتيارات مختلفة. ومن بين نحو مئة وخمسين مقالاً، كل أسبوع، تتصدر كتابات الكاتب المصري صلاح سالم أهم مقالين أو ثلاثة. كتابة رائقة ومؤرقة، باقية وسارية المفعول، تردّ الاعتبار إلى فن المقال الذي انسحق أمام الابتذال اليومي.
من حقه أن أقول له: "أحسنت". ولا أظنه سيتوقف كثيراً أمام الكلمة إلا كمجاملة لطيفة، تمنحه شيئاً من الرضا، وبعض الاطمئنان إلى مساره الشاقّ، ونجاح رهانه، شأن أي كاتب له قضية، يقول كلمته ويمضي. وآخر كلامه كتاب "تأملات في الوضع البشري".
بدأتُ قراءة كتاب "تأملات في الوضع البشري" بتحفزّ؛ فلا أحب العناوين الضخمة التي تقول كل شيء ولا تقول شيئاً. وبانتهائي من القراءة، رأيت عنوان الكتاب دالّاً ودقيقاً. وأشفقت على مؤلف تأثرت نفسه بآثار فيروس كورونا، فاستعجل كتابة عشرة تأملات، أقرب إلى وصايا ومراجعات تاريخية ودينية وفلسفية وحضارية ومستقبلية.
بعد قراءة الكتاب (425 صفحة كبيرة القطع)، انتبهت إلى عنوانه الفرعي "الأسئلة الكبرى للوباء الكوني". لكن المؤلف لا يكتفي بطرح الأسئلة، وإنما يقدم اقتراحات وإجابات. وما قدمه في هذا وذاك يُحرج أساتذة الفلسفة في الجامعات المصرية، أولئك الذين لا نلمس لهم آثاراً معقولة، تماماً كما نفتقد جهود المئات من أساتذة النقد الأدبي.
بدلاً من "التسامح الديني" يُفترض تبنّي التسامح الإنساني، فتأويل الدين يخضع للأهواء وحظوظ الخيال
عناوين التأملات/الفصول العشرة هي "في جوهر الشرط الإنساني"، "في الخطيئة والخلاص والنزعة الإنسانية"، "في الإصلاح الديني والأفق العلماني"، "في الديمقراطية الليبرالية وتحدياتها"، "في جدل الدين والتنوير"، "في مغزى التاريخ ومنطق التقدم"، "في الحقيقة والهوية والاختلاف"، "في تكنولوجيا التحرر والاغتراب"، "في الأصولية الدينية والعنف العبثي"، "في الأسئلة الكبرى للوباء الكوني". أما الخاتمة، وعنوانها "من المجتمع المدني إلى الفضاء الكوكبي"، فتنتصر لمفهوم الأخلاق الكونية، المُثل العليا التي تجسد أعلى تمثيلات المشترك الإنساني، وتتأسس "على المبادئ الكلية للعقل البشري... ما يؤكد أن الأخلاق ليست قصراً على أرباب دين بذاته، بل هي معلَم على إنسان بذاته، يستطيع الارتقاء إلى مستوى طبيعته الجوهرية".
هل كانت فصول الكتاب نفسها بهذه المثالية؟ أترك الإجابة قليلاً لأشيد بجهد الكاتب الكبير، وتحيته على هضم تاريخ الأفكار، بأناة تتجاوز الصبر على المكاره. بالنسبة إلى صلاح سالم لا أظن التفلسف إلا رياضة روحية تبدو في الكتاب (الصادر عن دار العين بالقاهرة) عصفاً ذهنياً ممتعاً، وأرى كل فصل نواةَ كتابٍ مستقل، خصوصاً "مغزى التاريخ ومنطق التقدم"، للمزيد من الشرح بالأدلة والوقائع التاريخية لمنطق التاريخ وفذلكاته، هل يخضع صنعه وحركته للبطولة الفردية؟ أم للمجتمع الذي يمثل قاعدة الهرم لقاطرة التاريخ؟ لنتخيل العالم من دون أدولف هتلر؛ هل كان يمكن تجنّب إزهاق أرواح العشرات من الملايين وتدمير المدن، في الحرب الأوروبية الثانية؟
ورث هتلر طموحات نيتشه الاستعلائية، واستلهمت النازية فلسفة هيغل، بأعشابها الشمولية والعنصرية، بل إن هيغل في رأي المؤلف "وضع البذور التي نبتت منها النازية". وهنا أعود إلى ثنائية الفرد والشعب، أيهما يصنع التاريخ؟ في السياق الألماني بعد الهزيمة في الحرب الأوروبية الأولى، ربما كان المسرح جاهزاً لظهور فرد كاريزمي يقود الأمة الجريحة، ويوهمها بالتفرّد، ويعدها بسيادة العالم، وتصادف أن كان أدولف هتلر.
الأمر نفسه تقريباً بالنسبة إلى إيطاليا في صعود موسوليني، ولتركيا التي انتظرت قائداً سيمنح نفسه لقب أتاتورك، ليصير الضابط مصطفى كمال أباً لشعب انهارت جدران دولته، وأصبح مهيأً لقبضة لا تسمح بالترف الديمقراطي، مهما تتذرع بالتشبث بأذيال العلمانية.
في النازية والفاشية والكمالية، كانت الدولة وحشاً لا يسمح بالحرية الفردية، ومع هذه الأنظمة الثلاثة يندرج النموذج الستاليني، لولا انتصاره مع الحلفاء. بدا الزعماء الأربعة حرّاساً للوطنية، واليوم تعيد تركيا الأردوغانية تقديم تاريخها التأسيسي الدامي كأمجاد عظيمة، في وصل للحاضر بالبدء العثماني، مثلما "تجسّد الأصولية الإسلامية بامتياز أسطورة العود الأبدي، حيث يسود الحنين المفرط لعصر تأسيس الدين/ الدولة/ الحضارة الإسلامية".
انتهينا من الإخوان، وأفقنا على قول ولي الدين يكن: "مساكين هم أنصار الحرية، يأتون ليفكوا عنها إسارها، فيقعون في الأسر"
وكانت الثورات العربية المنطلقة من تونس، في كانون الأول/ديسمبر 2010، فرصة للخروج من الإرث الاستبدادي، لولا سيطرة الإخوان "على مسار الربيع العربي، مع حلفائهم من السلفيين والجهاديين الأكثر رجعية وتطرفاً... والبادي أنها تصورت الانتخابات مجرد حيلة لحصد ثمرة ناضجة لها وحدها".
يقول المؤلف إن جماعة الإخوان "تنكرت فعلياً لمفهوم الدولة الوطنية، واستنكرت صراحة مفهوم العلمانية". والحق أن الإخوان ليسوا وحدهم المعادين للعلمانية، مصطلحاً أو أداءً سياسياً. العلمانية سقف عالٍ لا سبيل إليه إلا عبر قبول مصطلح "المدنية". وقد انزعج الأزهر واليمين الديني، عام 2014، من نص دستوري يقرّ بأن مصر "دولة مدنية". رفضوا المصطلح، واستبدلوا به في ديباجة الدستور أن مصر "حكومتها مدنية".
الإخوان والأزهر والقوى السلفية بأطيافها ليست استثناء، فالخطاب السياسي المصري دال على سيولة يتشابه فيها الفكر والممارسة، فليس النظام مدنياً، أو عسكرياً، أو دينياً، وإنما هو خليط من ذلك كله، وفي ظله "تجري محاولة قمع التعددية السياسية والفكرية".
انتهينا من الإخوان، وأفقنا على قول ولي الدين يكن: "مساكين هم أنصار الحرية، يأتون ليفكوا عنها إسارها، فيقعون في الأسر". يلحّ المؤلف على الحرية الفردية، الحلم المنشود. ولا يؤمن بهذا الحق كهنة العقيدة والوطنية، كلاهما يمتلك سلاح التكفير. التكفير الوطني يشير بأصابع الاتهام إلى الخيانة، والتكفير الديني يرفع شعار الإخراج من الملة.
ولم يتجاوز الغرب شموليته إلا "عندما تحرر من حرّاس العقائد بالإصلاح الديني والعلمانية، ومن جنرالات السلاح بنظريات العقد الاجتماعي والديمقراطية، بعد طول معاناة وسير حثيث على طريق آلام أدمى قدميه وأفقده الكثير من الأرواح". حرقنا مراحل الحداثة، بالاستعمال المفرط لمظاهر التحديث، لكننا نقطع مراحل الحداثة السياسية خطوة خطوة.
أكرر السؤال: هل كانت فصول الكتاب بمثالية الخاتمة الخاصة بالأخلاق الكونية؟ من هذه البانوراما ألتقط إشارات توحي بأن المؤلف ينطلق من زاوية المسلم المؤمن، ففي استعراضه لتاريخية الخطيئة والخلاص يتناول رمزية "الفداء الإلهي لإسماعيل عليه السلام"، ويحدد من هو الذبيح.
لكن القرآن يخلو من نص قطعي يحسم الخلاف، وفي العهد القديم أنه إسحق. وفي تعريفه للعلمانية أنها قد تعني "أنسنة المتعالي وربما تدنيس المقدس... عبر إهداره"، وهذه إشارة تتجنى على جوهر العلمانية التي تقف على مسافة واحدة من الأديان والمذاهب، وتحمي المؤمنين وغير المؤمنين، ولا تنشغل بهزيمة المقدس. ويقول المؤلف: "يفرض علينا... التأكيد على ضرورة الإيمان الروحي والعلمانية المعتدلة معاً".
ويرى أن "الجزء الكبير من الإلحاد العربي نتاج نقص عقلانية، يتغذى، ضمن روافد عديدة، على تلك الفجوة التي لا بدّ وأن الكثيرين قد لاحظوا وجودها بين المثل العليا التي يدعو إليها الإسلام كدين، وبين الوقائع المزرية التي أنتجها تيار الإسلام السياسي إبان فترة حكمه...".
العلمانية سقف عالٍ لا سبيل إليه إلا عبر قبول مصطلح "المدنية"
ويرفض ملاحقة الملحدين، "ونطالب بالتسامح مع الإلحاد كموقف فكري، يتكرّس لصاحبه الحق في الحياة والتفكير والتعبير دون افتئات على حريته أو بغي على دمه وماله، طالما عبر عن موقفه بإنسانية ومسؤولية، انسجاماً مع روح الشريعة". أي شريعة؟ ألا يستطيع مانح صكوك التسامح أن يسحبها ما دام هو من يحدد معيار الإنسانية والمسؤولية في التعبير عن الموقف؟
الموقف الجذري الإنساني ينهي بينية مراوغة لن ترضي الطرفين. لا معنى للتسامح الديني المشروط، كما يقول أيضاً: "يتسامح الإيمان الروحاني المعتدل مع الإلحاد شرطَ أن يكون إلحاداً إنسانياً يشعّ بمحبة البشر، والإلحاد مع الإيمان شرط أن يخلو من الاستعلاء والكهانة".
أستغرب هذا التسامح المنقوص. هل يمارس الإلحاد سلطة على المؤمنين؟ وأي سلاح خطير يملكه الملحد وعليه إلقاؤه، ليحظى بالتسامح؟ بدلاً من "التسامح الديني" يُفترض تبنّي التسامح الإنساني، فتأويل الدين يخضع للأهواء وحظوظ الخيال. منطق التسامح الديني يختزل قضية كبرى فتكون "الحرب بين اليهود من جانب والعرب مسيحيين ومسلمين في فلسطين من جانب آخر. لقد فشل الجميع في بلوغ حال التسامح".
تبنى ابن خلدون نظرة أصولية في سوْق الناس إلى الإسلام "طوعا أو كرهاً"، وفقاً لمحمد أركون. وتبنى ديكارت مفاهيم لاهوتية: "يكفينا نحن معشر المؤمنين أن نعتقد بطريق الإيمان بأن هنالك إلهاً، وبأن النفس الإنسانية لا تفنى بفناء الجسد، فيقيني أنه لا يبدو في الإمكان أن نقدر على إقناع الكافرين بحقيقة دين من الأديان، بل ربما بفضيلة من الفضائل الأخلاقية، إن لم نثبت لهم أولاً هذين الأمرين بالعقل الطبيعي".
ثم قال كيركيجارد: "الوجودية الحقة هي المسيحية، أو هي بتعبير أدق صيرورة الإنسان مسيحياً". وبعد حديثه عن ارتباط العنف بالأصولية يقول صلاح سالم إن الله "يأمرنا أن ندعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة".
إلا أنه، بعد رصد تاريخ العبودية، يقول: "التجربة الإسلامية في التعامل مع قضية العبودية لم تكن رجعية تماماً، ولكنها في الوقت نفسه لم تكن تقدمية تماماً كما يُتوقع من الدين الخاتم للتوحيد، ومن شريعة تقوم على العقل وتُبنى على الإرادة وتخلو من الكهانة والوصاية، كان منتظراً منها حسم مسألة العبودية نهائياً... ولذا يمكننا الاعتراف بأن قضية الرقّ تمثل الثغرة الأكبر في جدار الرؤية الإسلامية للوجود، وإدراكه التقدمي لحركة التاريخ". وتوجد ثغرة أخرى لا تحظى باهتمامه، ويفخر بها شيخ الأزهر والجهاديون: "لا بدّ من التمييز بين الجهاد كما مورس في عصر تأسيس الإسلام والقرون التالية عليه، وبين ظاهرة العنف الجهادي الراهنة".
الغزو غزو، يجب أن يُسمى باسمه، لا أن يجري البحث عن مسوّغاته، من نشر دين أو قيم حضارية. في تموز/يوليو 2014 خُيّر المسيحيون في الموصل، عبر مكبرات الصوت في المساجد، بين اعتناق الإسلام ودفع الجزية والمغادرة من دون أمتعة، ومن لم يلتزم مصيره القتل. أي منطق في أن يقتحم جيش بلداً، ويفرض ديناً على أهله، أو يلزمهم بإتاوة؟ أن تتم تحت راية الكتاب المقدس إبادة الهنود الحمر، ولم يكونوا هنوداً ولا حمراً؟ ما لم تنجزه الأديان فعله التطور الأخلاقي البشري، وأنهى الرقّ. وأعجب أخيراً لقول المؤلف إن الغرب لم ينشر "المكونات الأساسية للحداثة". نحن المرضى نرفضها، ونستمتع بالتحديث، والروح جاهلية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...