لست من معتنقي الطائفة الفيروزية، وفي أحيان كثيرة أبدّل الإذاعة هرباً من إحدى أغانيها أو حتى صوتها أو إحدى طبقاته، وأغلب الأحيان أهرب من محبّي فيروز، ولكني في أحيان أخرى -كثيرة أيضاً- أستمتع بالاستماع لها، بأغاني وطبقات أخرى.
أعرف معظم أغانيها، حتى تلك التي لا أحبها أو التي لا تعني لي شيئاً أو التي أنفر من سذاجة كلماتها، بعض الأغاني أعرفها وأحفظ كلماتها دون أن أكون توقفت يوماً عند هذه الكلمات ومعانيها وسياقها. مؤخراً، سمعت بانتباه أغنية "بكرا إنت وجايي"، التي يفترض أني أحبها إلى أن شعرت أنني مخدوعة؛ خدعتني فيروز بمطلع الأغنية وجرّتني -وأنا الملامة هنا- لأغنية لا أريد أن أحبها، وانتباهي المتأخر نغّص عليّ متعتي بالأغنية وعلاقتي بها.
أعلم أن فيروز غنت هذه الأغنية خلال مسرحية "الشخص" التي لعبت فيها دور بائعة بندورة عام 1968، وبالتالي (ربما) يفترض بي الأخذ بعين الاعتبار أن أغاني المسرحيات تكون مرتبطة بسياق أحداثها، ولكني حين أسمع أغنية أريدها مكتملة، خاصة عندما أسمع العمل (مسرحية أو فيلم) الذي كانت بالأساس جزءاً منه، كأغنية "بكرا إنت وجايي" التي حين أسمعها لا أفكر ببائعة البندورة، ولا بقصة المسرحية ولا بالظروف السياسية التي كان يمر بها لبنان أثناء عرضها، وبالتالي لا أبالي بالرسائل التي قد تكون حملتها هذه الأغنية ضمن رسائل المسرحية. حين أسمع الأغنية أفكر بالأغنية... فقط.
لست من معتنقي الطائفة الفيروزية، وفي أحيان كثيرة أبدّل الإذاعة هرباً من إحدى أغانيها أو حتى صوتها أو إحدى طبقاته، وأغلب الأحيان أهرب من محبّي فيروز، ولكني في أحيان أخرى أستمتع بالاستماع لها
وهذا ما كنت أفعله أثناء استماعي لأغنية "بكرا إنت وجايي"، لحين سمعتها بانتباه أكبر، فمطلع الأغنية كان كافياً لأن أحبها... "بكرا إنت وجايي".
أرادت الحبيبة (أقول الحبيبة لأن كلمة "حبيبي" حاضرة بكثرة) التي تغني فيروز باسمها أن تزيّن لحبيبها الريح لاستقباله عند عودته، وتجعل من الشمس مرآة وأن تضيء حكايا في كل الشوارع... لا أعرف كيف يمكن تزيين الريح ولست مهتمة بمعرفة تفاصيل هذه الزينة ولكني سأود أن أزيّن الريح لحبيبي، أو عالأقل سأودّ أن أردّد هذه الكلمات: "رح زيّن الريح".
وفي المقطع التالي تستبدل فيروز كلمة بأخرى فتقول "مارق" بدل "جايي"، فتقول: "بكرا إنت ومارق". تعجبني كلمة "مارق" ولكني أشعر بأنها لم تعد متأكدة من عودته. كان "جايي" فصار "مارق". كان "جايي" يعني لعندها، أما وقد أصبح "مارقاً" فربما من قربها فقط... وكأن التوقعات تبدلت والمشهد أيضاً. ثم تقول إنها سترسم "البيارق"!
كلمة "بيارق" ليست كلمة أود أن أغنيها أو ألفظها حتى، كلمة تنذر بالخدعة.
ما الذي حصل؟ كان يفترض أن صبية تنتظر حبيبها، لماذا فجأة أصبحت طفلة تريد أن تصبح "لعّوبة"؟
برغم "البيارق" كان من الممكن حتى الآن أن أكمل استمتاعي بالأغنية وإن على مضض، إذ ثمة شجر سيبكي عالمفارق، وإن كنت أفضّله مبتسماً. كان يمكن أن أغضّ السمع لولا أن الأغنية تتحول شيئاً فشيئاً عندما نصل للمقطع الذي يقف حائلاً بيني وبين المزيد من الاستمتاع، بل وينسف كل ما سبق. تتغيّر الموسيقى، والمفردات ونوع فرح الصبية المنتظرة لحبيبها، وتتحول الأغنية إلى مهرجان استعراضي قروي، فأصبح في قلب الخدعة: "رايتك منصوبة والذهب ميزانك!".
فرح الصبية بعودة حبيبها صار مقترناً بالانتصار، والذهب والراية. لم تعد الحبيبة تنتظر حبيباً عائداً من غيبة ما، بل هي تنتظر حبيباً منتصراً، بطل حرب متوجاً بالأوسمة. كأنه لا يكفيها أنه عائد، تريده منتصراً وبطلاً، وكأن من حقها أن تطلب منه انتصاراً، هي المنتظرة التي تشغل نفسها برسم البيارق فيما هو في ميدان المعركة. ثم تكمل: "عملني لعّوبة وحملني عحصانك!".
ما الذي حصل؟ كان يفترض أن صبية تنتظر حبيبها، لماذا فجأة أصبحت طفلة تريد أن تصبح "لعّوبة"؟ بل تريد من حبيبها، العائد والمنتصر أيضاً، أن يحقق لها هذا التحول إلى لعّوبة (ليتها كانت بلا شدة على العين) بحملِها على حصانه! هو العائد من المعركة، هو الذي من حقه -إن أراد هذا الحق- أن يستعرض نفسه على ظهر حصانه، وربما آثار الجراح على جسده وحتى الأوسمة، فبعض الرجال تهمهم هذه الإكسسوارات التافهة، وهو من ربما يحتاج أن يُحمل إلى سريره، وعلى الأرجح أن يُترك بشأنه بعيداً عن حبيبة تريد أن تتحوّل إلى لعّوبة! لا أظن أن هذا ما كان يفكر به وهو يحلم بالعودة... "لعّوبة"؟ سيريسلي؟
القصة الوحيدة التي أريدها من الأغنية، القصة التي وُعدت بها في البداية كمستمتعة لا كمشاهدة: امرأة تريد تزيين الريح لحبيبها العائد. أما رسم البيارق ورفع الأقواس واللعّوبة التي تريد أن تُحمل، فهذه ليست أغنيتي
لماذا تحوّلت الصبية التي تريد أن تزيّن الريح إلى طفلة تحلم بأن تصبح لعّوبة بأيدي حبيبها البطل؟ لماذا تريد من حبيبها أن يكون والدها؟ وكيف تسمح "لعّوبة" لنفسها أن تطلب انتصاراً من العائد وأن "يتمختر" بها في الساحة؟ (وبالساحة الكبيرة تمختر فيي وعلق الغيرة على عينيي) حقه أن يتمختر، ولكن ليس بها. يتمتخر بنفسه ولنفسه، ولكن لماذا للعّوبة وبلعّوبة؟
نتحول من أغنية عن صبية تنتظر عودة حبيبها، إلى كتاب مصوّر لفتاة مدللة تنتظر عودة والدها، وتريده أن "يعلق الغيرة على عينيها". غيرة من؟ غيرة اللواتي انتظرن ولم يعد إليهن حبيب منتصر، أم لم يعد إليهن من الأصل؟
ولكن الأغنية الخادعة تعود في ختامها لتذكرني بـ لماذا أحببتها في البداية... تستبدل فيروز "جايي" و "مارق" بكلمة "طالل"، ثم تركض الصبية، لا اللعُّوبة/ تحت شبابيك المنازل: "بكرا إنت وطالل بركض بلاقيك، وسطوح المنازل كلها شبابيك، وإنت تدل، عليي تدل... إنت وطالل يا حبيبي". استبدلتُ "وتمسحلي جبيني بالسنابل" بثلاث نقط لأني لم أحب هذ العبارة، فهي أقرب إلى البيارق والأقواس وميزان الذهب منها إلى قلبي وإلى الريح.
ربما الخدعة تكمن بأن الأغنية مرتبطة بالمسرحية، وبأن لتسمع الأغنية كما أرادها كتابها يجب أن تشاهد المسرحية. ربما هذه الأغنية بمقاطعها المتناقضة هي عبارة عن أكثر من قصة. لكني بكل الأحوال مخدوعة ومزعوجة، وأرغب بحذف كل المفردات والصور التي تتعارض من القصة الوحيدة التي أريدها من الأغنية، القصة التي وُعدت بها في البداية كمستمتعة لا كمشاهدة: امرأة تريد تزيين الريح لحبيبها العائد. أما رسم البيارق ورفع الأقواس واللعّوبة التي تريد أن تُحمل، فهذه ليست أغنيتي.
وأذكّر نفسي أن "الجايي" و"المارق" و"الطالل"، سواء على حصان أو مشياً، سواء منتصراً أو مهزوماً، سواء من حرب أو من حقل، بالذهب أو بعنق أسمر، فهو يستحق أن تزيّن له الريح. هذه أغنيتي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...