"بتسلِّم عليكن الماما وبتقلكن ألف صحّة وهنا".
قبل بضع سنوات، لم يكن صوت يعلو على هذه العبارة (مع اختلاف اللهجات) قبل دقائق من أذان المغرب إذ يتبادل الجيران أطباق الطعام في واحدة من ألطف العادات الاجتماعية التي لا تهدف فقط إلى توطيد المحبة وإنما كذلك إلى التكافل الاجتماعي والتراحم وتجنّب هدر الطعام.
تشتهر هذه العادة في بلاد الشام، وتحديداً سوريا ولبنان باسم "السكبة"، وإن كانت تُعرف أحياناً بـ"القرضة" (من الإقراض). في حين يُطلق عليها البعض في فلسطين اسم "الفقدة" من تفقّد أحوال الجيران والمحتاجين. وهي أيضاً "الصحن/ الطبق الدوّار" في دول عربية أخرى بينها مصر.
لا يُعرف على وجه الدقة أين ومتى ظهرت هذه العادة التي تنشط في شهر رمضان إلا أن المؤكد أنها آخذة في التضاؤل في السنوات الأخيرة لعدة عوامل اجتماعية واقتصادية، بينها ضعف الروابط بين الجيران وتشتت العائلات وطغيان المظاهر ومشاركة صور الموائد بدلاً من مشاركة الطعام نفسه، وبدرجة لا تقل أهمية بسبب ارتفاع أسعار الغذاء وتأزُّم الأوضاع الاقتصادية وإيلاء الأهمية لإطعام الفقراء أحياناً.
في سوريا: "ما عاد في شي ينسكب"
من حسن حظ السوري إياس شاهين، وهو باحث معماري شاب، أنه نشأ في عائلة تقدِّر عادة السكبة وتحرص على استمراريتها، بخاصة خلال شهر رمضان، نظراً لأن عائلته الكبرى تسكن متجاورة في إحدى ضواحي العاصمة السورية دمشق. يقول إن والدته تطبخ كمية معيّنة للأسرة وتخصص كمية أخرى "للسكبة" بينما يستقبلون أطباقاً مختلفة من طعام السكبة من بقية الأهل.
"بتسلِّم عليكن الماما وبتقلكن ألف صحّة وهنا"... الأزمات الاقتصادية وأسعار الغذاء الجنونية تهدد "السكبة" أو "الصحن الدوار". هل ما زلتم/ن تشاركون/كن الطعام مع الجيران في #رمضان؟
يلفت إياس إلى أنه في بعض الأحيان يتحول الطقس الاجتماعي إلى "منافسة" على من طعامه "ألذ"، معبراً عن سعادته بحالة تنوع الأصناف التي تخلقها "السكبة" ويستحيل في رأيه أن تتمكن عائلة واحدة من إعدادها في يوم واحد بعيداً عن العزومات. "كل يوم لدينا مائدة رمضانية متنوعة جداً"، عقّب.
صورة مائدة عامرة بأطباق السكبة شاركها معنا إياس
لكنه لا ينفي أثر الأوضاع الاقتصادية وارتفاع أسعار الغذاء على هذه العادة التي لم تعد الكثير من العائلات تتمسك بها. يوضح: "الأوضاع أثرت أكيد. بعض العائلات ما عاد عندها قدرة لإعداد نفس نوعية وكمية الأطباق. لكن الأكيد أنو العادة لسا موجودة".
على النقيض، يقول مواطنه عبد الرحمن (35 عاماً)، وهو موظف بشركة خاصة، إن السكبة كانت رائجة في محيطه حتى سنوات ما قبل الحرب (عام 2011)، وبدرجة أقل في السنوات الأولى للحرب. "هاي السنة ما بذكر إجانا سكبة. السنة الماضية يمكن مرة أو اتنين من بيت عمي. آخر ثلاث سنين خفّت كتير عن السنين اللي قبل"، يقول لرصيف22.
وبينما يشير إلى أن السكبة راجت قديماً لقرب المنازل والألفة بين الجيران والأهل، يوضح أن هناك أسباباً اقتصادية واجتماعية لتراجع هذه العادة النبيلة، بدايةً من ضعف الحالة المادية الذي جعل المائدة الرمضانية "فقيرة وشحيحة ولا بتبيض الوجه" بحيث "ما عاد في شي ينسكب". علاوة على السفر ضمن العائلة، وعدم الاهتمام بـ"إقامة المائدة" أو إعداد طاولة غنيّة بأصناف الطعام لأن الأبناء والأخوة على الأغلب سافروا.
رغم ذلك، لا يتحسّر عبد الرحمن على غياب هذا الطقس الاجتماعي الذي يرى أنه "أصغر تفصيل ضاع بالحرب. هاي أقل وألطف الخسارات أنو تخسري عادة رمضانية وتفتقدي إلها قدام عظمة ما عشناه… بوقت بيتنا ما عاد موجود ورفقاتنا وإخواتنا وأهالينا".
يردف أيضاً: "بدي كون منصف مع نفسي، هي العادات مع تقدم الزمن عم تخف. الحرب ممكن عجّلت وسرّعت من اختفائها. بس اليوم التقدم التكنولوجي غير ونمط الحياة وأشكال المدن والبيوت… كلها (أمور) ساهمت إنو هاي العادات تتغير".
"الفقدة"، "القرضة"، "السكبة"، "الطبق الدوار" أسماء مختلفة لعادة اجتماعية نبيلة تنشط في شهر #رمضان في الدول العربية. لكن تحوّل هدفها أخيراً من غرس الألفة بين الجيران والمحافظة على عدم هدر الطعام إلى "هدف أخلاقي إنساني"
في مصر: الفقراء أولى والأموال أهم
تخجل سارة أحمد (اسم مستعار بناءً على رغبة المصدر)، وهي صحافية مصرية وأم لطفلين، إذ تقول لرصيف22 إنها توقفت عن مشاركة أطباق الطعام مع جيرانها.
وتشرح: "كنت أشارك الطعام باستمرار مع المعينة المنزلية وهي تسكن معي في نفس العمارة، لأنها غير ميسورة الحال. اضطررت للتوقف عن ذلك تماماً الآن بسبب الظروف الاقتصادية. أحاول التعويض عن ذلك بمنحها بعض المال - أحياناً 100 أو 200 جنيه (بين 3 و7 دولارات) - لأنني أشعر أن الفلوس أهم بالنسبة لها".
وتضيف سارة أنها قديماً، كانت تُعد صينية معكرونة بالبشاميل لها وأخرى للمعينة المنزلية مع فراخ بانيه، وكانت الوجبتان تكلفان نحو 250 جنيهاً (نحو 8 دولارات) تقريباً. الآن، مثل هذه الوجبة تكلّف أكثر من 500 جنيه (نحو 16 دولاراً) حتى مع تقليل البروتين والدجاج.
تلفت إلى أنها ليست الوحيدة في ذلك وإنما "عموماً، مفيش حد لسه بيعمل كده إلا لو مرة كل فين وفين مثلاً". وتزيد بأن المعينة المنزلية أخبرتها أن أسرة ثرية أخرى تعمل لديها توقفت عن توفير وجبة الإفطار لها، متذرعةً بارتفاع أسعار الطعام.
مع ذلك، تستدرك بأن الأسر "المقتدرة" باتت أيضاً تفضل إطعام الفقراء من الجيران لـ"كسب الثواب"، لافتةً إلى تزايد المبادرات التي تقوم على وضع الأسر الطعام الفائض عن حاجتها أو الذي تريد استقطاعه من طعامها اليومي للمحتاجين أمام المنزل حيث يقوم شباب متطوعون بأخذه وتوزيعه على الفقراء.
في لبنان: الكبار وحدهم يتمسكون بها
بينما لم تعد "السكبة" تمثل عند الشاب اللبناني سيلفان ناصر إلا ذكريات مرتبطة بجدّته الراحلة وشقيقاتها وجيرانها، يقول إنها توقّفت بوفاتهن على حد وصفه. تُصر علياء علي (اسم مستعار بناءً على رغبة المصدر) التي تجاوزت الستين من عمرها على أن هذه العادة ما تزال موجودة في بعض مناطق لبنان. تقول لرصيف22: "هاي العادة دارجة عنّا عادةً برمضان وبغير رمضان. نحنا كمنطقة/ قرية بالجبل، نحنا عنّا عاداتنا ومنضل عليها تقريباً. إحنا منحب هيك بين الجيران والأهل يكون في مبادلة (بالطعام). قلّت شوي؟ مزبوط على الوضع اللي عم بيصير بس إنو بعدا ولو قليلة. وما بيهم أي طبخة بإمكانك توزعي منها بلحمة أو بلا لحمة أو شي. يمكن خفّت بالمدينة وبالنسبة للجيل الجديد هاي التقاليد القديمة بس بعدا بينّا".
تضخم أسعار الغذاء 138% في لبنان و105% في سوريا... برنامج الأغذية العالمي يقول إن المنطقة العربية استقبلت شهر رمضان "في ظل أزمة أمن غذائي متفاقمة بسبب ارتفاع معدلات تضخم الأسعار وانهيار العملات المحلية، ما يؤثر على ملايين الأشخاص"
في اليمن: الأزمات تهدد "الهوية"
اليمن أيضاً يعرف "تبادل الأطباق" و"الضيَّف" وبخاصة في رمضان، بحسب الباحثة في علم الاجتماع هيفاء طاهر التي تُشير في حديثها لرصيف22 إلى أن المجتمع اليمني مشهور بـ"السخاء وإكرام الضيف" كـ"عادة متأصلة في الهوية اليمنية" منذ القدم.
تقر طاهر بأن هذه العادة "قلت بسبب الأوضاع الاقتصادية لأن أغلب الشعب لا يتقاضى رواتبه مع الغلاء الفاحش في الأسعار. لكنها لم تندثر"، منبهةً إلى أن العديد من الأسر الثرية باتت تشارك الطعام مع جيرانها الأسر الفقيرة دون أن تنتظر طعاماً في المقابل كما كان جارياً في السابق.
وتشرح أن "هذه العادة كان لها بعد اجتماعي في السابق وباتت ذات بعد أخلاقي وإنساني بالدرجة الأولى في الوقت الراهن بمساعدة الفقراء والمحتاجين".
وتوضح طاهر أن الفقر والأزمات الاقتصادية "يمكن أن يخلخلا مثل هذه العادات الجميلة في المجتمع، وتقليل التكافل والود أيضاً"، مردفةً: "عندما يصبح الفرد مشغولاً بالبحث عن قوت يومه وقوت أسرته وتسديد ديونه لن يعد قادراً على الاهتمام بالآخرين أو التفكير فيهم حتّى"، ما قد يتسبب برأيها في ارتفاع معدل الجريمة والعنف في المجتمع بسبب عدم العدالة.
أسعار الغذاء تهدد الألفة الاجتماعية
ونهاية آذار/ مارس 2023، حذّر برنامج الأغذية العالمي (WFP) من أن "منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تستقبل شهر رمضان في ظل أزمة أمن غذائي متفاقمة بسبب ارتفاع معدلات تضخم أسعار الغذاء وانهيار العملات المحلية، مما يؤثر على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء المنطقة، ولا سيما أولئك الذين يعيشون في البلدان التي تواجه الصراع وعدم الاستقرار".
"الفقر والأزمات الاقتصادية يمكن أن يخلخلا مثل هذه العادات الجميلة في المجتمع، وتقليل التكافل والود أيضاً... عندما يصبح الفرد مشغولاً بالبحث عن قوت يومه وقوت أسرته وتسديد ديونه لن يعد قادراً على الاهتمام بالآخرين أو التفكير فيهم حتّى".
وعدّد البرنامج أسباب أزمة الغذاء في المنطقة، مشيراً إلى ارتفاع معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية بشكل كبير في ظل عجز موازنة خانقة والمستويات العالية من الدين العام وانخفاض قيمة العملة والمستويات الخطيرة من التضخم في العديد من البلدان.
وفق WFP، تتجاوز معدلات تضخم أسعار الغذاء في خمس من دول المنطقة الـ60%، بما في ذلك لبنان (138%) وسوريا (105%). علاوة على تخطي معدل تضخم أسعار الغذاء السنوي في إيران وتركيا ومصر الـ61%، ما يجعل من الصعب على العائلات تحمل تكاليف المواد الغذائية الأساسية مثل الخبز والأرز والخضر.
ويُعد اعتماد غالبية دول المنطقة على استيراد السلع والمنتجات الغذائية جرّاء عدم كفاية الإنتاج الغذائي المحلي، أحد أبرز أسباب الأزمة إذ يتركها فريسة لتقلبات أسعار الغذاء العالمية، والتي زادتها الحرب في أوكرانيا سوءاً، لا سيّما أنها أعقبت اضطرابات سلاسل التوريد التي سببها وباء كوفيد-19. علماً أن أسعار المواد الغذائية العالمية عند أعلى مستوياتها منذ 10 سنوات.
في هذا الصدد، أوضح كبير الاقتصاديين ببرنامج الأغذية العالمي عارف حسين أن "اعتماد المنطقة على الواردات الغذائية يعني أن الملايين من الناس - وخاصة الأشد فقراً - معرضون للخطر عندما تتسبب الصدمات الداخلية أو الخارجية في ارتفاع أسعار المواد الغذائية. باتت الأسر غير قادرة على توفير ما يكفيها من الغذاء اليومي بسبب ارتفاع معدل التضخم في أسعار المواد الغذائية وانهيار العملات وركود الدخول".
وتُشير بيانات WFP لشهر شباط/ فبراير 2023 إلى أن أربعاً من أصل 15 دولة على قائمة مراقبة العملات الخاصة ببرنامج الأغذية العالمي تنتمي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن بينها لبنان ومصر وسوريا وإيران التي شهدت انخفاض قيمة العملات المحلية على نحو راوح بين 45٪ و 71٪ خلال الأشهر الـ12 الماضية.
الجدير بالذكر أن عدد الأشخاص الذين يعانون انعدام الأمن الغذائي في المنطقة ارتفع بنسبة 20% في غضون السنوات الثلاث الأخيرة ليصل إلى نحو 41 مليون شخص.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 4 ساعاتالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت