كنت بالقرب من شجرة الرمان صباح اليوم، فهي أيضاً مثلي تشعر بالملل في صباحات رمضان، كما أعتقد أننا نجحنا منذ سنوات أن نخلق بيننا لغةً سرية، كأي فلسطيني آخر يشعر بذلك الانتماء الخافت والعميق بينه وبين الأشجار، علاوةً على أن هذه الرمانة هي أقدم شجرة في البيت، وتعرفنا جميعاً، كما نعرفها وأكثر.
وبينما أنا جالس على كنبة قديمة بجوار الشجرة، تقدم نحوي ابن أخي الصغير، تبدو على وجهه المرتبك ملامح طفل استيقظ لتوه من النوم، وقبل أن أبتسم له كما يحدث عادةً، فيرد لي الابتسامة باطمئنان، وجّه لي سؤالاً بشيء من الغضب الطفولي الباهت: "لماذا لا أراك تذهب إلى المسجد؟". هكذا بدون أن يقول لي "يا عمو" في أوله ولا في آخره. مصيبة! الولد غاضب بالفعل.
فكرت أن أقول له إن من المعيب توجيه أسئلة مشابهة لمن هم أكبر منك، فكل إنسان حر في تصرفاته، فرد كهذا يكفي لطفل بعمر خمس سنوات فقط، أي أنه لا زال في الروضة، وأقصد أن أذكر الروضة لما لها من دور أساسي في هذا الموقف، ولكنني اخترت أن أراوغه، فأنا أعرف أنه طفل ذكي ولئيم أحياناً.
قلت: وماذا يعني المسجد، وما هي الصلاة؟
قال: حاجة من عند ربنا
قلت: ومن هو ربنا؟ هل تعرفه؟
قال: لا، ولكن الآنسة في الروضة قالت إنه يضع الذين لا يذهبون إلى المسجد في نار جهنم، وحتى الذين يصلون في البيوت ولا يذهبون مع "بابا" إلى المسجد فسوف يعاقبون. أنت لا تصلي في المسجد ولا تصلي في البيت يا عمو؟!
رسوخ الفكر الديني المتطرّف في مؤسسات وزارة التربية والتعليم في قطاع غزة تبعاً للواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة، أسفر عن تشكل حالة كهنوتية داخل الجامعات والمدارس وحتى الروضات
حينها فكرت أن أذهب وأحطم هذه الروضة، أن أتقدم بشكوى رسمية ضد "الآنسة" في وزارة التربية والتعليم، أن أمسك رأس ابن أخي وأغسله من هذا الهراء من الداخل، ثم تذكرت صورة الغلاف التي أضعها لصفحتي على فيسبوك "Welcome to Gaza".
وقاطعني الصغير قائلاً: أنا أحبك، أنت لطيف معي طوال الوقت، لا أريدك أن تذهب إلى جهنم. وهنا كنت أستطيع أن أسمع صوت نحيب حزين من شجرة الرمان، احتضنته وقلت: لا أحد سيذهب إلى جهنم، تلك "الآنسة" التي تروع قلب طفل رقيق مثلك هي من سيغضب الله من تصرفاتها.
وبعد أن هدأ الصغير واطمأن، حدثني أنه لم يستطع النوم جيداً، وأنه رأى كوابيساً عن النار، وعن الأوصاف التي أخبرتهم بها تلك الآنسة عن أهوال يوم القيامة وانشقاق القمر، وظهور الأعور الدجال، والصراط المستقيم ومشهد سقوط الناس عنه في النار، وأنه جاء لي في الصباح ليحذرني بشكل طفولي من كل تلك الأهوال التي تنتظرني لأنني غير ملتزم بمعيار آنسة الروضة لدخول الجنة.
الحب صلاة واللطف صلاة، والموسيقى التي أعزفها على العود هي صلاة.
لا أعلم لماذا اجتاحتني كل تلك الرغبة في الصراخ والبكاء أو التحطيم، ربما لأن ما يمر به ابن أخي هو ذاته الذي مورس علينا في طفولتنا، من ترهيب ديني ووصاية وقولبة، ووضع لمعايير الصواب والخطأ على أساس ديني صرف، ولكنني لم أرغب في أن يدخل الصغير في أي من موجات الاضطراب التي عشناها، وأن يسير على طريق التعافي من كل الأمراض والعلل التي قدمها لنا النظام الاجتماعي والنظام التعليمي في قطاع غزة، فأكملت احتضانه، وأخبرته بأن يستمر باخباري بما تقوله لهم تلك الآنسة، وأن الله طيّب ويحبنا جميعاً ولا يريد أن يؤذينا، وأن الحب صلاة واللطف صلاة، والموسيقى التي أعزفها على العود هي صلاة، وهذه القبلة التي سأعطيك إياها الآن هي صلاة لله أيضاً ليحمينا من شر الأغبياء الذين لا يعرفون الله.
فابتسم وقال لي: مثل الآنسة، صح؟ فردّت شجرة الرمان بأن تنهدت فاهتزت أغصانها، وسقط منها بضع ورقات، التقط الصغير ورقةً منها ووضعها في كفي، وذهب راكضاً وهو يضحك.
*****
إن رسوخ الفكر الديني المتطرف في مؤسسات وزارة التربية والتعليم في قطاع غزة تبعاً للواقع السياسي والاجتماعي في المنطقة، أسفر عن تشكل حالة كهنوتية داخل الجامعات والمدارس وحتى الروضات، تلك الحالة التي تتمازج مع الوعي المتدين للبنى الاجتماعية في غزة، فتفرز شكلاً فائق التعقيد بين السلفية الوهابية، والجهل والرجعية بسبب الإغلاق المفروض على قطاع غزة، داخلياً وخارجياً، هذا كله يدفع الكوادر التعليمية إلى تقديم تعليماً عاجزاً عن فتح آفاق للتأمل والابتكار والابداع عند الطلاب، بدءاً من مراحل التعليم الأولى.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، حيث أن المدرسين يعوضون ذلك العجز بالمواعظ والدروس الدينية والترهيب وتلقين الطلاب أن الفضيلة الأسمى هي الالتزام الديني، ولا يهم أن تحترق الدنيا بعد ذلك، وهنا يجدر بالذكر فرض صلاة الجماعة في بعض المدارس الثانوية على الطلاب دون موافقتهم، حيث تعتبر إدارة التعليم في غزة أن مشهد المدرسة كاملةً وهي تصلي هو تمام العلم والأخلاق والفضيلة، حتى وإن كان المشهد مفروضاً على الطلاب بالقوة.
تشرّب المجتمع الغزي التوجهات الوهابية عبر فترات، سواء في فترة عمل الفلسطينيين في منطقة الخليج العربي بداية الثمانينيات، أو فترة تمازج الفكر السلفي بفكر الإخوان المسلمين في مصر وتأثيره على الدول المجاورة
ولا يمكن لأحد أن يواجه هذا النظام الاجتماعي التعليمي الذي يسمح لآنسة في روضة أن تحدث الأطفال عن جهنم والأعور الدجال، حيث إن المواجهة تعني أنك كافر ومرتد، وتسعى لتخريب الأجيال وتمرير الثقافة الغربية، وعرقلة تحرير فلسطين، ولائحة تطول وتطول من التهم الجاهزة والتي يوافق عليها المجتمع بالطبع، إن لم يكن بإدارته، فبقوة الهيمنة العسكرية والأمنية والسياسية على قطاع غزة.
إن كل ما بمقدورك فعله هو أن تحمي عائلتك وأطفالك فقط، دون الدخول في مواجهة مع مجتمعات وأوساط تعتنق الوهابية ومنهج ابن تيمية كأسلوب حياة يومي لا جدال فيه، حتى وإن لم ينتبهوا لذلك.
فقد تشرّب المجتمع الغزي التوجهات الوهابية عبر فترات متقطعة، سواءً في فترة عمل الفلسطينيين في منطقة الخليج العربي بداية الثمانينيات، حيث كان الخليج آنذاك مرتعاً للفكر الوهابي، أو فترة تمازج الفكر السلفي بفكر الإخوان المسلمين في مصر وتأثيره على الدول المجاورة، كما وساهم الحكم الإسلامي لقطاع غزة في تعزيز استبدال المعيار الأخلاقي بالمعيار الديني، وفقاً لمنهج ابن تيمية، صاحب الفتاوى الأكثر جدلاً في تاريخ الاسلام، كفتاوى "الاستتابة وإلا فالقتل، وأحياناً القتل حتى في حال التوبة".
وهنا تصبح الأمور أكثر وضوحاً، عند الحديث عن عمق تأثير الوهابية ومنهج ابن تيمية على المجتمعات الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، وحتى بعض مناطق الداخل المحتل، تلك المذاهب السلفية المتشدّدة التي تطغى في مناطق الصراعات على أساس إسلامي ديني، كالقضية الفلسطينية، تعتبر الخروج عن النص الديني كفر، دون أي متسع للمنطق أو للاجتهاد والتحليل وإعمال العقل، فالمرجعية فقط لتفسيرات السلفيين للقرآن، وما جاءت به سنة الرسول وصحابته.
كما وأنتجت الحالة الوهابية في منطقة كغزة حالة من الهوس الديني، خصوصاً بعد ترويج الإخوان المسلمين لفكرة ارتباط تحرير الوطن بمدى الالتزام الديني، وإلا فما الذي يدفع معلمة روضة لأن تحدث أطفالها في الفصل عن جهنم، غير أنها لا تجد الخلاص إلا في الترهبن الإسلامي والانكفاء على الذات طلباً للخلاص من الله، دون أن تعرف أي خلاص تريد؟
إن ما يحتاجه قطاع غزة هو الانعتاق من الهالة الضيقة التي أسقط فيها على مدار سنين من الصراعات والتحولات السياسية والمنحدرات الاجتماعية الدينية، والمزالق الصعبة الأخرى التي عايشها باعتباره ساحة رئيسية لحروب ومعارك القضية الفلسطينية وتحالفاتها.
إن ذلك الانعتاق سيمكّن الإنسان من اتخاذ قراره بمعزل عن الفروض الاجتماعية، والرواسب الوهابية والسلفية، فبهذا فقط يمكنه أن يحفر تحولات جوهرية في الجمود الفكري والاجتماعي والإنساني الذي بات يعتبر سمة مميزة لقطاع غزة، حتى أصبح التطرّف الديني يغرس في الأطفال منذ مرحلة رياض الأطفال وذلك عبر ثقافة المجتمع والنظام الحاكم.
وهذا مؤشر مقلق حول مدى انتكاس الظروف الاجتماعية الإنسانية والثقافية في القطاع، وطول الفترة التي تحتاجها غزة للتشافي من كل الأهوال التي عاصرتها على مدار عقود من الضبابية والاستغلال السياسي والعسكري، دون إعطاء أي اعتبار لوجود شعب فلسطيني يعيش في هذا المنطقة المعروفة بقطاع غزة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع