"هل تصدق إن قلت لك أن أربعة أتراك لا يعرفون بعضهم البعض دفعة واحدة اهتموا لأمر إقامتي الضائعة؟"، لا، السؤال ليس مبالغة ولا هو بالسؤال التافه، وتحديداً في ظل الصورة النمطية المنتشرة عن الشعب التركي من جهة، والظروف التي تعيشها تركيا نفسها من جهة أخرى، إذ يصعب تصديق أي اهتمام بأي أمر يخصّ سوريّاً هنا والآن.
لكن هذا ما حدث، ولأشرح الأمر بصورة أدق وأكون أكثر صدقاً معكم، اختفت إقامتي فجأة، واحتل الخوف ما استطاع احتلاله من قلبي، لست هشّاً، لكن الظروف تشرح نفسها والقلق تجاوز كونه ضيفاً طارئاً ثقيلاً يمكن التعامل معه بإبر البنج المعنوية، وتحول إلى محتل أرعن وتافه ووقح، لا تنفع معه قوة ولا لين! ويترتّب على استخراج بطاقة جديدة عادة إجراءات بسيطة وروتينية، لكنه القلق اللعين.
بعد فقدانها -أي الإقامة- سألت أصحاب آخر أربعة أماكن زرتها، علّ أحدهم وجدها ورأف بحال "سوريلي" مسكين، رأيت في أعينهم التعاطف يا أخوتي. أجابوا بـ "لا" بحزن وحسرة وكأنني فقدت عزيزاً أو غالياً، لا سمح الله، ولم يتبقى سوى أن يقدموا لي العزاء.
في اليوم التالي وجدت الإقامة تحت كنبة الصالة، ولا أعرف كيف ومتى وصلت إلى هناك ! أيكون القلق تلاعب بي وأخفاها؟ إذ إنه كما الجنّ لا تعرف له موعداً لظهوره، وكما أوجاع الديسك، يهجم فجأة وبلا رحمة. أجبت نفسي بأنه ليس مهماً كيف اختفت، المهم هو انتهاء المشكلة، خاصةً أنها جاءت في ظلّ ظروف سيئة نعيشها.
تصادف أنني، ولأسباب عادية للغاية، مررت بالأماكن الأربعة مجدداً، جميعهم سألوني بلهفة وقلق بالغ وكأنني أحرّر أرضاً من محتل غاشم: "هل وجدتها"؟ ولا أخفيكم أنني اندهشت من السؤال والاهتمام معاً، وبعد أن بثثت الاطمئنان في أرواحهم ومنحتهم إجابة تسكّن قلقهم وتدعهم ينامون ليلاً بضمير مرتاح، ودعوني بابتسامة عريضة.
هل تصدق إن قلت لك أن أربعة أتراك لا يعرفون بعضهم البعض دفعة واحدة اهتموا لأمر إقامتي الضائعة؟... عن اللطف الإنساني
يا إلهي ما الذي يحصل؟ كيف أعيش في دوامة من القلق المرتبط بالانتخابات المقبلة وجو عنصري يلاحق أي سوري على هذه الأرض، سواء في الشارع أم في وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يجتاحني لطف بالغ في الوقت نفسه؟ أي سخرية للقدر هذه يمكن أن تكون؟ وأعود لأجيب نفسي: "وما حياتنا إلا سخرية كبيرة ونحن نأخذها على محمل الجدّ أكثر مما تحتمل".
هذه القصة القصيرة دعتني للتساؤل، كيف يمكن لبضع لحظات احتوت على اهتمام ولطف أن تجعل نهاري المليء بالغيوم مشمساً ودافئاً للغاية؟ وكيف تجعل صورة حياتي العامة، ذات اللونين الأبيض والأسود، فيها قليل من اللون الأزرق والأخضر؟ أتراه القحط المبين للطف والطمأنينة؟
الإجابة أبسط من ذلك، ربما تدفعنا المواقف اللطيفة مع الغرباء للابتسام، وبالتالي لتغيّر المزاج وما يتبع ذلك من هدوء يجعلنا أكثر قدرة على التأقلم من جهة، وعلى التفكير بطريقة أفضل من جهة أخرى، علماً أن لحظات اللطف قصيرة لكن مفعولها قوي يفوق مسكن "الفايكودين" و"المورفين" حتى.
يمكنكم أن تتخيلوا كيف دفعني أربعة أشخاص لا أعرفهم لأشعر بطمأنينة لموقف لطيف تعاطفوا فيه معي، ومع مصيبة كادت أن تدفعني إلى رمال القلق المتحركة.
ومن هنا أقول: ماذا لو قرّرنا، أنا وأنتم، أن نكون في أقصى حالات اللطف مع الآخر ولو لنهار واحد؟ ماذا لو ابتسمنا في وجه من لا نعرفه؟ ماذا لو لم يرد علينا أحدهم كلمة "مرحبا" بوجه متجهم أو قال "عفواً" لو شكرناه على إجابته لسؤال بسيط؟ لا أقول إن اللطف هو حلّ سحري لمشاكل الأرض، ولكن أقول إنه قادر على تحسين المزاج ولو لبضع ثوان، وهذا أمر، لو تعلمون، عظيم!
لا تسخروا مني، ابحثوا عن معنى اللطف في اللغة العربية، ونعلم كم تؤثر اللغة على حياتنا وطريقة تفكيرنا، ففي معجم المعاني الجامع، نجد معنى لطف به: رفق به ورأف، ولطّف الشيء: جعله لطيفاً ليناً، ولطّف من طباعه أي: هذّبها، أما في قاموس "الكل"، فاللطف هو "الرّفق والهدية"، عدا عن باقي المعاجم الكثيرة الخاصة باللغة العربية.
إذاً فاللطف أمر عظيم ويتعلق بالرفق والمحبة والتهذيب، في الأفلام القديمة كانوا في سوريا ولبنان ومصر يقولون كلمة "سعيدة" للسلام، هي كلمة لطيفة اختفت، وإن كان اللطف عظيماً ومهماً ومؤثراً لهذه الدرجة، فلما لا أكتب نصاً بسيطاً في مدحه ولما لا أطالب بتواجد أكبر له في حياتنا المتخمة بالتعقيد والتعب والقلق والخوف وفقدان الأوطان؟ هل تعلمون كم يمكن للطف أن يساهم في مكافحة العزلة والوحدة المفروضة علينا بشكل إجباري في ظلّ الشتات؟
في الأفلام القديمة كانوا يقولون كلمة "سعيدة" للسلام، هي كلمة لطيفة اختفت، وإن كان اللطف عظيماً ومهماً ومؤثراً لهذه الدرجة، فلما لا أكتب نصاً بسيطاً في مدحه
ليس اللطف حلاً، أكرّر، لكن يمكن القول إنه أمر تهذيبي يدفعنا لتعامل مختلف مع بعضنا، وبالتالي قد يكون، على الأقل في حياتنا، مساحة اجتماعية أفضل من تلك السياسية والاقتصادية، بل وربما يدفع لتكافل اجتماعي أكبر ومحبة أكبر، قد تدفعان بشكل ما إلى لحمة اجتماعية مفقودة وغائبة. ويحقّ لكم أن تستغربوا أن يفعل اللطف كل ذلك، وأقول رداً على ذلك: بل وربما أكثر. سيدفعنا اللطف لحفظ الودّ وردّ المواقف الجميلة والسيطرة على ردود أفعالنا التي لطالما نتساءل لما اتبعناها.
يبدو الكلام ساذجاً؟ ربما وما الذي سنخسره لو فعلنا؟ هل هناك أكثر من أننا، كسوريين وعرب وكُرد، خسرنا أوطاننا وماضينا وحاضرنا وأهلنا وأصدقاءنا؟ لا يوجد، لنكن لطفاء إذن، لنبتسم. إن في الابتسام "صدقة"، أليس كذلك يا أصدقائي المؤمنين؟
قبل أن تبالغوا في السخرية، لا أقول أن تديروا خدكم الأيمن ولا أن تردوا على الشتيمة بابتسامة وعلى المصيبة بضحكة، أقول فقط يمكننا الابتسام، لعلّه يكون الحل الأخير لفكّ خيوط حياتنا المعقدة الغارقة في تفاصيل لا تنتهي وهموم لا آخر لها.
كل ما أقوله: لنكن لطفاء وكفى!
يومكم لطيف وسعيد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...