ربّما لا يجوز لأيّ منا أن يتعجّب حين يصادف في شوارع مراكش وأزقتها وبين دروبها نساءً يقدن درّاجات ناريّةً. ذلك ليس أمراً غريباً، إلا إذا نظر إليه الفرد منّا بعيون غير مراكشيّة. والراجح أنّ هذه الحكاية لا تخضع لأيّ تنميط "قديم" للنساء، باسم التراث؛ فحتى لو كانت مراكش، في جزء كبير منها، مدينةً تغلب عليها الثقافة الشّعبية، إلا أنّ المرأة المراكشية تفلتت مبكراً، بدراجتها النارية، من بعض توقيعات ما يُعرف بـ"الثّقافة الذّكورية".
في كل مكان في مراكش، حتى في طابور محطة الوقود، هناك دائماً لفيفٌ من النسوة يعتلين "الموتور" كما تلقب الدراجة النارية في المدينة، لملء خزانها. مبدئيّاً، لا مشكلة في ذلك، فنحن في مراكش، "عاصمة الدراجات النارية" في المملكة.
"جزء من ثقافتها"...
تبدأ الرحلة مع نادية، التي تبلغ من العمر 26 سنةً، والتي تؤكد أنها تقود دراجتها منذ سنّ المراهقة. لكنّ نادية تعدّ قيادة المرأة للدراجة مسألةً لصيقةً بالثقافة الشّعبية المراكشيّة. تقول المتحدثة: الوضع منذ زمن مألوف، ولا يثير أي غرابة أو دهشة إلا للزوار أو الأجانب الذين يشكّلون صوراً نمطيةً عن المغرب، بأنه بلدٌ يضطهد المرأة ويهضم حقوقها.
نادية تضيفُ في حديثها إلى رصيف22، "أنّ هناك أسباباً عديدةً لظاهرة الدراجة النارية في مراكش، منها أنّها تتيح التنقل بسرعة وبكلفة منخفضة مقارنةً مع السّيارة. فالدراجة تتيح للمراكشيّ والمراكشية، بما أنهما متساويان في هذا الأمر، التحرّك بأريحية، نظراً إلى اكتظاظ الطرق، وقد تخلّص سائقوها من الاختناقات المرورية". وأيضاً، تواصل نادية، لأن "الدراجة سهلة الرَّكن وسريعة التحرك ويمكن وضعها في بهو البيت أو بالقرب من باب المنزل. الدراجات ظاهرة حقيقية في مراكش، وقد تتيح لك التجول في حارات مراكش وأحيائها، وحتى في الأماكن التي لا يمكن للسّيارة ولوجها".
كما تقول نادية: "مذ كنتُ طريّة العود، ألفتُ أن أرى الوالدة وأختي الكُبرى ومعظم نساء العائلة هنا في مراكش يقدن الدراجة النارية. هكذا كبرتُ. حين صرت قادرةً على قيادتها بشكل فرديّ، فطنتُ إلى أهميتها، فبواسطتها أذهب إلى الجامعة، وقبل ذلك كنت أذهب بها إلى الثانوية كمعظم بنات جيلي وقتها. داخل كلّ مؤسسة تعليمية في مراكش يوجدُ فضاء خاص بالدراجات النارية. وأنا في الحقيقة أُفضّل دراجتي على الحافلات وسيارات الأجرة، لأنها اقتصادية وسريعة أيضاً.
الأمر ذاته تتقاسمه آية مع نادية، إذ تقول: "علاقة المرأة المراكشيّة بالدراجة نشأت من كثرة ما هي يومية ومتداولة، وقد كبرنا معها ولا نعرف مصدرها أصلاً، ولا نسأل عن هذه العلاقة ولا نحاول تحليلها أساساً. هي مسألة طبيعيّة متأصلة في كل مراكشي سواء أكان غنياً أو فقيراً، وسواء كانت العائلة محافظةً أو حداثويةً، فالأمر سيّان بالنسبة إلى الجميع".
تركب النساء المراكشيات الدراجات النارية لأنهنّ وجدن عوامل تاريخيةً خصبةً وذاكرةً غنيةً في تعاملهنّ مع الدراجات
من ثمّ، تفسر آية (29 سنةً)، لرصيف22، كيف أنّ هذه التركيبة "العجيبة" جعلتنا نصادفُ في مراكش امرأةً ترتدي ملابس قصيرةً وتقود دراجةً، كما نصادف امرأةً ترتدي حجاباً أو نقاباً. الدراجة، بهذا المعنى، ذوّبت كلّ الاختلافات في مراكش. يندر أن نعثر على من وُلد في مراكش ويبحث عن تفسير لهذه الظاهرة. نحن نعدّها فقط جزءاً من ماضينا وحاضرنا". لكن، تقول آية أيضاً: "إنها من ناحية أخرى ظاهرة تعكسُ تمكّن المرأة المراكشية من خلق شخصية خاصة بها في المخيال المغربي عموماً".
المرأة المراكشية، وفق المتحدثة، توضح، ضمنيّاً، مدى قدرتها على الدخول إلى معترك الفضاء العام، فهي ككل مغربية تنزل إلى الأسواق؛ بيد أنّ العديد من المغربيات يرين ركوب المرأة الدراجة النارية عيباً أو شيئاً نقيضاً للوقار والحشمة.
هذا التّصور اندحر بلا رجعة في مراكش. الطريف في كل هذا أن المراكشية لا تعي لماذا تقود الدراجة بالمعنى الأيديولوجي، أي هي لا تعاند تصورات معيّنة ولا تناهض الذّكورية؛ إنما الوضع الذي تعيشه المرأة في مجتمعاتنا، جعل الجميع ينظرون إلى قيادة المرأة المراكشية للدراجة كفعل "خرافي".
سياق محفّز
مراكش مدينة سياحية بامتياز، وسائل النّقل فيها تخلق تشكيلةً حضاريةً فريدةً مقارنةً مع مدن المغرب الأخرى: "الكوتشي" (عربة تجرّها الخيول)، والحافلات السّياحية التي بلا أسقف، فضلاً عن سيارات الأجرة الكبيرة والصغيرة.
"الحضارة المراكشية العصرية والكثافة السكانية ساهمتا في قيادة المرأة للدراجة النارية في مراكش؛ فأمام هذا الكمّ من البشر، يستحيل أن تتوفر كل عائلة على سيارة. لكن من النادر جدا أن تجد بيتاً مراكشياً يخلو من دراجة نارية، حتى معظم منازل الفقراء. مراكش تتميّز كذلك بطقس دافئ في معظم فصول السنة، مما يجعل استخدام الدّراجات النارية أمراً مريحاً ومناسباً للتنقل في المدينة".
مذ كنتُ طريّة العود، ألفتُ أن أرى الوالدة وأختي الكُبرى ومعظم نساء العائلة هنا في مراكش يقدن الدراجة النارية
هكذا تفكّك يسرى (24 سنةً)، من مراكش هذه الظاهرة، مبرزةً أنّ "الطبيعة الجغرافية للمنطقة المنبسطة والخالية من المرتفعات، هي أيضاً سياق حفّز كثيراً خيار الدراجة النارية لكونها وسيلة نقل تتماشى مع الطبيعة الصاخبة لمراكش؛ فالتجول بالدراجة داخل دروب حي القصبة والأسواق العتيقة و"المْدينة القْديمة"... إلخ، هو شعور رائع لن تشعر به إلا المراكشيّة. هذا يشعرني شخصياً بالاستقرار وبالانتماء. روح المدينة تتكشّف في أحيان كثيرة على متن الدراجات النارية والهوائية أيضاً".
ثمّة، حسب يسرى، سياق حضاري خصب جعل من الظاهرة أمراً عادياً وغير مثير للاستغراب. فحين يُحكى لنا التاريخ مثلاً، يقال إنّه في البدء كانت الدراجة الهوائية هي التي تتيح للمراكشيات التحرك. الآن، العصر تجاوز الدراجات الهوائية لأنها غير سريعة ومرهقة. يمكن العودة إليها كخيار رياضي أو للحفاظ على البيئة والحدّ من الانبعاثات، لكن طبيعة الحياة اليومية المتسارعة حوّلتنا إلى آلات. فرضت علينا الذهاب إلى العمل باكراً ثمّ العودة منه في وقت الذروة. وهذا دفع المراكشيات ليصبحن صديقات وفيات للدراجة النارية، بما أنها تضمن لهنّ الأريحية والنّجاعة في التنقل.
في النهاية، تفيد يسرى بأنّه حتى الذكور داخل العائلات المراكشيّة الذين قد يزعمون، مثلاً، إظهار الوصاية أو "الحرص" على أخواتهنّ أو زوجاتهنّ أو بناتهنّ، فلا تقع الدراجة ضمن خانة الحرص لديهم، أي أننا لا نصادف في مراكش شخصاً يمنع فتاةً تقرّبه من قيادة الدراجة النارية. الجميع في مراكش يعون أن الدراجة للرجال والنساء، برغم أنّ الغلبة في قيادتها من نصيب النساء. التحرك عبر الدراجة يشكل قيمةً مضافةً، ويلعب دوراً حيوياً في تنظيم الحياة اليومية للمراكشيين، بما في ذلك شراء الأغراض المنزلية وصلة الأرحام... إلخ.
توطئة الحكاية
يحدثنا الإعلامي المراكشي والباحث في التراث المادي واللا مادي المغربي، محمد القنور، عن تاريخ استعمال الدراجة النارية في مراكش. يقول القنور: "منذ أواسط القرن الماضي، شكّل مجال مدينة مراكش فضاءً رحباً للدراجات الهوائية. نحن في مراكش نلقّبها بـ"البسكليت"، "البشْكليط"، أو "عود الريح"، أي بقوة الدّفع. في تلك اللحظة بدأت الحكاية، مع ركوب المرأة الدراجات. فقبل التطور والسهولة في التحرك والسّرعة التي خلقتها الدراجة النارية، كانت المرأة المراكشية منذ زمن مبكر جداً تركب الدراجة الهوائية وتتنقل بها".
القنور في تصريحه لرصيف22، يفيد بأنّ "الطبيعة العمرانية والتركيبة الحضارية للمدينة العتيقة خصوصاً، جعلت الأحياء متراصّةً ومتماسكةً في ما بينها، تفصل بينها فقط الدروب والأزقة. لننظر على سبيل الذكر لا الحصر، إلى حي القصبة، وحي الزاوية العباسية، وحي بن سليمان الجزولي، وحي عرصة الغزايل وحومة عرصة الملاك، وحي عرصة المسيوي، وحي عرصة الحوتة... إلخ". هذه الأحياء، وفق القنور، "تتميز كلها بتجمع سكاني كثيف جداً، وقديماً كان التنقل بين هذه الأحياء معقداً، لأن التحرك فيها لم يكن ممكناً إلا بالأقدام أو عبر الدراجة الهوائية التي كانت متوفرةً ومتاحةً حينها".
الحضارة المراكشية العصرية والكثافة السكانية ساهمتا في قيادة المرأة للدراجة النارية في مراكش؛ فأمام هذا الكمّ من البشر، يستحيل أن تتوفر كل عائلة على سيارة
لكن المثير في المسألة، أنّ الدراجة الهوائية كانت، منذ أواسط ستينيات القرن الماضي تحديداً، بمثابة أيقونة للمساواة بين الجنسَين، الرجال والنساء. لذلك فالدراجة الهوائية حين استعملتها النساء المراكشيات، كن يرتدين الجلباب والنقاب. هذه الدراجة سهّلت عليهنّ السير والتجول داخل المدينة، وحفظتهن أيضاً مما قد يتعرضن له من تحرش أو استفزاز أو تنمر، لأنهن كنّ يمررن بسرعة على متن دراجتهنّ الهوائيّة.
السؤال: هل هذه هي حسنات الدراجة كلها؟ يجيبنا القنور بالنفي، عادّاً أنّ من فضائل الدراجة الهوائية أنها مكّنت النّساء المراكشيات القديمات من الكثير من الحقوق، بما فيها الحقّ في الدراسة. فالمدارس في فترة الستينيّات كانت معدودةً وقليلةً، أي يمكن أن تكون الفتاة تقطن في حي الزاوية العباسية لكنها تدرس في حي عرصة المعاش.
هكذا، كانت المسافة بين البيت والمدرسة في حاجة إلى وسيلة نقل، لكي تضمن الفتاة حقها في التعلم. وتلك الوسيلة كانت الدراجة الهوائيّة. هذه التحركات المبكرة، منحت المراكشيّة نوعاً من الاستقلالية، ومكّنتها من التعرف على المجال وحفظ الدروب، كما فتحت أفقها على الثقافة الطرقية، أي ما يُعرف بقوانين السير اليوم. الثقافة الطرقية كانت تشكو من خصاص كبير في تلك الفترة.
أتذكر في فترة شبابي أنّ النساء كنّ يكترين الدراجات الهوائية، ويملأن ساحات المدينة العتيقة لتعلّم القيادة
أيضاً، يقدّم القنور نموذج "النساء اللواتي كن يعملن في المنازل، وكنّ يستعملن الدراجة الهوائية لكي يستطعن الوصول في الوقت إلى بيت مشغّلهنّ، وهو إما أجنبي مقيم في حي جليز أو مغربي يقطن في المدينة العتيقة... إلخ. كما كنّ يعملن في الفنادق والرياض". ويحكي المتحدث أن "من كانت تريد أن تتعلم قيادة الدراجة الهوائية وضوابطها، كانت تقصد مُصلِّح الدراجات، أي "السِّكليس"، كما نسميه نحن المغاربة. وأنا أتذكر في فترة الشباب أنّ النساء كنّ يكترين الدراجة من عنده، ويملأن ساحات المدينة العتيقة لتعلّم القيادة. كان الكراء بثمن زهيد وقتها، لم يكن يتعدى درهمين لليوم الواحد".
في النهاية، يمكن أن نأخذ كل هذا ونسقطه على الدراجة النارية بما أنها تعويض ثقافي عن الدراجة الهوائية. صارت تؤدي الأدوار والوظائف نفسها؛ تركبها النساء المراكشيات لأنهنّ وجدن عوامل تاريخيةً خصبةً وذاكرةً غنيةً في تعاملهنّ مع الدراجات، لكن هل يمكنُ أن نقيس مدى تحرر المرأة أو مدى تصالح المجتمع المراكشي، مع مجمل الصّور الميزوجينية، عبر قيادة النساء للدراجة النارية؟ وهل المرأة المراكشية التي تركب الدراجة لا تتعرّض للمضايقات والتّحرش في معيشها اليوميّ؟
هنا ربما علينا أن "ننسحب"، ونترك لعلم الاجتماع كلمة الفصل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...