هذا المقال جزء من مجموعة مقالات ينجزها رصيف22، عن العملات الرقمية والاستثمارات الجديدة، في محاولة لتقديم خريطة طريق نحو "اقتصاد آمن"، بعيداً عن احتكارات البنوك، وفساد الحكومات، والتغيرات السياسية العالميّة.
ضجّت وسائل الإعلام العالمية والعربية، نهاية العام الماضي، بالأخبار والتحليلات حين اعتُقل "سام بانكمان فرايد"، مؤسس منصة FTX لتبادل العملات الرقميّة، إذ طالته اتهامات بالاحتيال، وغسيل الأموال، وألقي القبض عليه في جزر البهاما، وسُلّم إلى الولايات المتحدة لاحقاً.
فرايد ذو الـ30 عاماً، وصاحب الشراكات المتعددة مع عدد من الشركات والبنوك والشخصيات العلنيّة التي روّجت للمنصة، كشف للعالم وجهاً جديداً للعملات الرقميّة، وهو وجه لا بد من الحذر منه حين التعامل مع هذه التكنولوجيا، ومفاده أنه لا بد من الخبراء، لا الطامعين في الربح وجمع المال والشهرة، الذين يمكن وصفهم بالهواة أو السُذّج، فحسب سام نفسه: "لم أقصد أن أكون محتالاً، ولم أكن أريد أن يحدث أي من هذا، ولم أكن بالتأكيد مؤهلاً كما كنت أعتقد".
عدم الأهلية وغواية المستثمرين وتوظيف العلاقات العامة لجذب المال والربح السريع، شأن شديد الأهمية في ما يخص العملات الرقميّة، إذ يمكن للأموال بأيدٍ غير "خبيرة" أن تتبخر، ناهيك عن توظيف التكنولوجيا نفسها في سبيل "الاحتيال"، كما حصل مع تطبيق "I Earn Bot" للتبادل، الذي فجأةً اختفت أموال المستثمرين فيه.
هذه الفضائح الماليّة لا تقتصر على "العالم"، إذ شهدت المنطقة العربيّة فضائح مشابهةً، نحاول هنا قراءة أحداثهما لرصد كيفية عملهما، ومحاولة الحذر في حال تكرر الأمر.
BinancesFund: اللعب على الاسم
راهنت منصة BinancesFund، التي نشطت في لبنان، على تشابه اسمها مع اسم المنصة الشهيرة Binance، وهذا أول ما يثير اللبس، فالشركة لا علاقة لها بعملاق العملات الرقميّة. الأمر إذاً غير مطمئن. عام 2021، فوجئ الكثير من المستثمرين في المنصة بتلاشي أموالهم، وبلغت الخسائر "300 مليون دولار"، وهو رقم مشكوك فيه، لكنه لا ينفي خسائر الكثيرين.
أغوت شركة هوغ بول، في مصر، المستثمرين عبر راتب شهريّ، وادّعت أنها مختصة بتعدين العملات الرقميّة، أي أن المستثمر لا يشتري عملات، بل يعدّنها، وهنا الخدعة؛ استئجار معدات التعدين مُكلف، ولا يمكن أن يتم بـ200 جنيه مصري، تُسترد بعد أسبوع أو أكثر مضاعفةً
مارس الفاعلون في المنصة "خدعة بونزي"، أي ببساطة، إقناع المستثمرين بدايةً بوضع مبالغ صغيرة، يحصلون بعدها على "ربح" شهريّ. هذا الطُعم أو الغواية معروفان في هذا النوع من الخدع، وهنا التنبيه الأول؛ يجب أن تسمح الشركة للمستثمر بسحب أمواله كلها دفعةً واحدةً مهما بلغ حجمها، وفي حال رفضت أو ترددت، لا بد من القلق الشديد، وهذا شرط أيضاً في تداول العملات الرقميّة. وجود الوسيط، لا يعني أنه "بنك"، والنقود لا تتلاشى هكذا، ولا بد من إمكانية لاستعادتها.
ما أن يزداد مبلغ الاستثمار الذي يضعه الشخص، حتى تزداد المخاطرة، إذ ادّعت المنصة أنها "تضارب" بأموال المستثمرين، في حين أشير لاحقاً إلى أن الأمر ليس إلا مضاربات وهميّة، وهنا التحذير الثاني؛ عادةً يمكن تتبّع المضاربات والمحافظ وحركة العملات ضمنها، في حال غموض الموضوع، ونحن أمام خدعة. فسؤال: "أين ذهبت النقود وكيف تستثمر؟"، لا بد أن يكون ذا إجابة واضحة وموثوقة، وهذا ما حصل. ما أن عجز المساهمون عن التحويل والتتبّع، حتى تلاشت الأموال، ولم يعد بإمكان أحد تتبّع المعاملات الرقميّة.
Hoggpool: أنت شريك لا مستثمر فحسب
أغوت شركة هوغ بول، في مصر، المستثمرين عبر راتب شهريّ، وادّعت أنها مختصة بتعدين العملات الرقميّة، أي أن المستثمر لا يشتري عملات، بل يعدّنها، وهنا الخدعة؛ استئجار معدات التعدين مُكلف، ولا يمكن أن يتم بـ200 جنيه مصري، تُسترد بعد أسبوع أو أكثر مضاعفةً.
ما لفت الانتباه أيضاً في الشركة، هي الحملة الإعلامية التي أطلقتها. هناك موقع للشركة، وصور لمقرّاتها، والأهم ابتداع تكنولوجيات وهميّة، وإن لم يكن الفرد مطّلعاً فقد تنطلي عليه الخدعة، كماكينات للتعدين، ذات صفات غريبة (ماكينة بـ10 دولارات تربح دولاراً واحداً في اليوم، وأخرى بـ30 دولاراً، ينتج عنها ربح قدره 54 دولاراً بعد شهر ونصف شهر).
هذا الغموض في طبيعة "الاستثمار" الذي تقترحه هوغ بول، هو ما يثير الريبة؛ فما هي هذه الماكينات الرخيصة -علماً بأن التعدين عام 2023، أي في العام نفسه الذي فُضح فيه احتيال الشركة- تكلف أرخص واحدة منها 1،500 دولار، وتصل إلى 4،000 دولار، ولا تعِد بالمبالغ التي ادّعتها هوغ بول؟
تحاول الإمارات العربية المتحدة، أن تكون الرائدة في مجال العملات الرقميّة، وقد ترافق ذلك مع صرامة القوانين الخاصة بالأمر، فحين البحث عن الفضائح أو عمليات الاحتيال، نراها قليلةً
كانت هوغ بول، أذكى في تعاملها مع العملاء المحتملين من غيرها، وورطت مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي لكسب الشعبيّة، ودفعت أرباحاً أوليّةً للمستثمرين/ الشركاء، أي تصرفت كـ"شركة" ذات تأثير وعلاقات عامة لأجل المصداقيّة.
الخدعة التي استمرت لثمانية أشهر، انتهت بفضيحة راح ضحيتها نحو 850 ألف مشترك، وخسارة ما يقال إنها 300 مليون دولار، واختفاء الشركة وكليّاً، ويكفي أن نقرأ محضر ضبط مقرّ الشركة في القاهرة لتتضح الخدعة: "عقب تقنين الإجراءات تم استهدافهم، وأمكن ضبطهم وفي حوزتهم 95 هاتفاً محمولاً، و3،367 خطاً هاتفياً محمولاً، وتسعة أجهزة مودم رسائل جماعية وسبعة حواسب آلية، زيادةً على 39 شاشة كمبيوتر ومشتملاتها، وثلاث سيارات ومبالغ مالية من عملات محلية وأجنبية بلغت نحو 600 ألف جنيه (19.5 آلاف دولار أميركي)، بالإضافة إلى 41 كارتاً ائتمانياً لبنوك في الخارج".
استفادت الشركة الوهمية من المحافظ الإلكترونيّة، التي تُملأ من مصر ثم يُرسل ما فيها إلى "الخارج"، وهنا الخدعة: الوعد بالربح. كان بدايةً تحايلاً على القانون المصري الذي يمنع تعدين العملات، فادّعت الشركة استئجار تقنيات تعدين في "الخارج"، وتحويل الأرباح إلى مصر، ثم توزيعها على المستثمرين/ الشركاء.
استفادت هذه الشركة في خديعتها من عنصرين اثنين؛ غياب الثقافة الرقمية والمعرفة بأسلوب عمل العملات الرقمية لدى شريحة واسعة من الناس، وثانياً الاستفادة من حملات التسويق ووسائل التواصل الاجتماعي، لجذب الانتباه، وإغواء الضحايا بطريقة سهلة ومضمونة للربح.
الإمارات العربية المتحدة: صرامة القانون
تحاول الإمارات العربية المتحدة، أن تكون الرائدة في مجال العملات الرقميّة، وقد ترافق ذلك مع صرامة القوانين الخاصة بالأمر، فحين البحث عن الفضائح أو عمليات الاحتيال، نراها قليلةً. إحداها مثلاً تورط فيها العام الماضي أحد أفراد العائلة المالكة مع ألمانية مطلوبة من الـFBI، وأخرى عن إحداهن التي "نصبت" على مستثمر عربيّ. يأتي هذا الحذر في ظل كثرة المستثمرين، والقوانين الصارمة تجاه عمليات الاحتيال، إذ تم الترويح بدايةً لمنصة "Chainabuse" المرتبطة بأكبر منصات التبادل العالميّة من أجل التبليغ عن عمليات الاحتيال، كما فرضت غرامات تصل إلى مليون درهم إماراتي، والسجن خمس سنوات لمن يساهم في عمليات الاحتيال.
لا يوجد أسلوب دقيق أو وصفة سحرية لاكتشاف أو رصد عملية الاحتيال قبل التورط فيها، لكن يمكن القول إن هناك بعض الخطوات أو الأمور التي يجب الحذر بخصوصها
موقف السلطات الرسميّة
يختلف موقف السلطات الرسمية من العملات الرقميّة والاحتيال، باستخدامها من بلد إلى آخر، كما قرأنا سابقاً، فالإمارات سبّاقة في تقنين الموضوع، وملاحقة المتهمين، وفي السعودية هي غير ممنوعة لكن هناك تحذيرات من التداول بها.
أما في مصر، فالعملات الرقميّة ممنوعة، وهذا ما يتضح في أسلوب التعامل مع المتهمين بقضية احتيال هوغ بول، عبر إيقاف محافظ المتهمين المشتركين في خدمة "فودا فون كاش"، والجدل حول طبيعة التهمة وهل هي "نصب أم احتيال؟"، والعقاب المفترض.
العملات الرقميّة في لبنان ممنوعة، وفي سوريا لا حاجة إلى منعها أو السماح بها، كون سوريا خاضعةً لعقوبات تعزلها عن النظام العالميّ، ويتم التداول عبر وسطاء خارجيين، وهي محظورة في الأردن، وممنوعة في الجزائر، وفي المغرب أيضاً، لكن هذا المنع ترافقه محاولات للتقنين وضبط عمليات التبادل، وإطلاق عملات محليّة رقميّة، في محاولة لاستعادة البنوك المركزيّة سلطاتها على "المال".
كيف نرصد الاحتيال؟
لا يوجد أسلوب دقيق أو وصفة سحرية لاكتشاف أو رصد عملية الاحتيال قبل التورط فيها، لكن يمكن القول إن هناك بعض الخطوات أو الأمور التي يجب الحذر بخصوصها.
- التفاصيل مهمة: كل التفاصيل الخاصة بأي منصة استثمارية مهمة. يجب أن تعرف كل شيء، ويجب أن يكون كل شيء موثّقاً ويمكن متابعته لحظةً لحظة، والأهم، استخدام منصة بلوك تشاين التي تخبرنا بدقة عن مدى موثوقية كل منصة ومقدار التبادلات فيها وكيفية عمل التحويلات ومصيرها.
- لا تصدق الوعود المضمونة: كأي استثمار، اقتصادي، زراعي، أو صناعي، لا يوجد ربح مضمون، كل من يؤكد ربحاً مضموناً ودائماً، لا تثق به.
- التسويق المبالغ فيه: كل عملية تسويق مبالغ فيها مشكوك في أمرها، ولا يمكن حشر الفرصة بأنف المستثمرين، واتساع جهود التسويق وتكرارها أيضاً مدعاة للشك.
- من هو فريق العمل؟ يجب أن تعرف أفراد فريق العمل كلهم، وتتأكد من هوياتهم ومن وجودهم، ولا يكفي اتصال هاتفي أو موقع إلكتروني، فكل شيء يمكن تزويره، والأهم عند كل فرصة، أن تسأل الخصوم لا الأصدقاء فحسب، فهناك دوماً عدو أو منتقد لأي فرصة استثمارية، وفي حال غياب "الخصوم" عليك بالشكّ.
- الإجراءات التقليدية للوقاية: لا تشارك بيانات الدخول إلى محفظتك، وراقب منصة التداول دوماً وأخبارها، واستثمر في ما تفهم فيه فقط، ولا تصدّق الإعلانات الاستثماريّة. والأهمّ، أن تقوم بالبحث والتحقق، وما يبدو أنه خدعة أو احتيال، فهو خدعة أو احتيال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...