إذا طلب أحدهم صنف طعام ما، من خدمة التوصيل، مرتين فقط، وأخفقت الخدمة في ذلك، وبعثت له صنفاً غير الذي طلبه في المرة الأولى، ووجد الطعام بارداً في الثانية، فإنّه لن يعود مجدداً إلى التعامل معها، ومع ذلك يستمر مشجعو الرياضات المختلفة، وخصوصاً كرة القدم، في تشجيع أنديتهم المفضلة حتى لو كانت تتجرع الهزائم الماحقة مرةً تلو أخرى. إنها العصبية في أوجها.
ما أن أطلق الحكم صافرته، معلناً انتهاء مباراة الإياب بين ناديَي الهلال السوداني والأهلي المصري الأخيرة في منافسات كأس إفريقيا للأندية الأبطال، بفوز الأهلي بثلاثة أهداف من دون مقابل، حتى قامت الدنيا ولم تقعد بعد، وذلك إثر مقاطع فيديو أظهرت مشجعي الأهلي وهم يشتمون لاعبي الهلال السوداني واصفين إياهم بـ"العبيد"، وإن كان بعض "الأهلاوية" قد أنكروا ذلك، وقالوا إن الكلمة التي رددها الجمهور الثائر المتوتر كانت "العبيط".
لكن هل يحتاج مشجعو الأهلي إلى تبرير سلوكهم العنصري؟ وهل هذه هي المرة الأولى، وقد حدثت عن طريق الخطأ، أم أن الأمر عادة درجوا عليها في مناسبات عديدة غير مباراتهم الأخيرة مع الهلال السوداني.
خلفيات مهمة
في عام 2021، انتصر الأهلي على منافسه الزمالك بهدفين مقابل هدف في نهائي منافسات دوري أبطال إفريقيا، وبرغم فوز الأهلي إلا أنّ جمهوره تعرض للاعب الزمالك المصري أسمر اللون، محمود عبد الرازق الشهير بـ"شيكابالا"، والذي أحرز هدفاً رائعاً في مرمي الأهلي في تلك المباراة، بحملة تنمر عنصرية فاضحة، إذ رفع مشجعو الأهلي كلباً أسود ألبسوه قميصاً أبيض (لون قميص الزمالك)، وهم يهتفون: "شيكا... شيكا"، وكأن الكلب الأسود هو المعادل الموضوعي لـ"شيكابالا"، حتى اضطر اللاعب إلى الدفاع عن نفسه في مواجهة جمهور شديد التعصب والاستفزاز.
يذهب عدد كبير من الجمهور الأهلي إلى المباريات مسلّحاً بالتنمر والعنصرية وبمخزون "إستراتيجي" من الشتائم البذيئة
أندية منتِجة للتطرف
سألتني هادية عبد الوهاب، خبيرة علم النفس: هل شاهدت فيلم "الخلاص من شاوشانك"Shawshank Redemption؟
لا، أجبتها.
وواصلت حديثها: "إنه يطرح دراما هائلةً، تقوم على تصوير أحوال المسجونين المُفرج عنهم بعد قضائهم فترات طويلة في الحبس، حيث تصالحوا مع وجودهم هناك ثم بدأوا يعتادونه ويعتمدون عليه، لذا يصيبهم الكثير من الارتباك وعدم الثقة بالنفس حال خروجهم إلى الحياة. أنت مشجع متعصب لكرة القدم، إذاً أنت كالرجل العجوز من شاوشانك، الذي خرج من السجن لتوّه، وخاف من موقعه الجديد. هل سيختفي شغفك بعد فوز فريقك في المباراة؟ هل ستظل تهتم به بالقدر نفسه؟ بالتأكيد قد لا تفعل ذلك".
التعصب العنيف يُعدّ أكبر مهدد لقيّم السلام والتسامح، لذلك لا تكفي مواجهته وكشفه وإدانته أدبياً، بل يجب أن نمنعه بالقانون وبالتربية في آن معاً، تضيف عبد الوهاب، وتستدرك: "لا أحد يولد متطرفاً وعنيفاً، لكنه يُصنع ويُغذى. انظر إلى مناهج الدراسة، إلى أسلوب التربية داخل الأسرة، وإلى الإعلام، وستكتشف أننا ننتج آلاف المتعصبين في ساعات قليلة، والأندية الرياضية في مصر وكذلك في السودان بمستوى أقل نسبياً، تُعدّ على رأس المؤسسات المُنتجة للتطرف والعصبية".
وتتابع: "هنالك أدوات فعالة للتقليل من هذا الجنوح، ووضعه في حده الأدنى، التعليم أهمها، ثم الإعلام والقانون والآداب والفنون والنقد، ثم تزويد الجماهير من جميع الأعمار والخلفيات بالمعرفة والقيم والسلوكيات التي يحتاجونها لنبذ التعصب العنيف، وهذه مهمة الدول في المقام الأول".
الكارثة الأكبر لم تقع بعد
خسر الأهلي مباراته الأولى (الذهاب) في الخرطوم بهدف نظيف، لذلك كانت مباراة الإياب بالنسبة له مسألة حياة أو موت، برغم أنه كثيراً ما يتعثر أكبر نادٍ في إفريقيا أمام الهلال السوداني، فتاريخ مواجهاتهما على مستوى بطولة الأندية الإفريقية يكشف عن تحقيق الأهلي 4 انتصارات، خلال 9 مباريات وخسارته مرتين، فيما انتهت 3 مواجهات بالتعادل، وتالياً ليس هناك تفوق فوق العادة، يجعل عدد كبير من الجمهور الأهلي يأتي إلى المباراة مسلّحاً بالتنمر والعنصرية وبمخزون "إستراتيجي" من الشتائم البذيئة، لو لم يكن مُعَدَّاً نفسياً لذلك.
هكذا تفسر عبد الوهاب، ما أسمته جنوحاً سلوكياً أصبح سمةً ملازمةً لمشجعي النادي الأهلي المصري، في المنافسات الداخلية والخارجية، وهذا الأمر يحتاج إلى مراجعة من إدارة النادي والجهات المسؤولة عن الرياضة بشكل جدي، وإلاّ فإنّ الكارثة الأكبر لم تقع بعد.
إستراتيجيات المواجهة
ماذا عن التعصب الذي يجعل الناس يتكدسون في الملاعب؟ ما الذي يجعلنا ننفق أموالنا على شراء قمصان تحمل اسم شخص آخر أو شعارات نادٍ ما؟ لماذا تتحكم نتيجة مباراة كرة قدم في مشاعرنا وأمزجتنا لساعات وأيام وأحياناً لأسابيع؟
يجيب الطبيب والمعالج النفسي عادل ياسين، على هذه الأسئلة، قائلاً: "دعنا نكون صادقين ومباشَرين، إن الأمور المجنونة التي نقوم بها كمشجعين، ناتجة عن إستراتيجيات المواجهة المُكرّسة في أدمغتنا منذ طفولتنا، وعلى رأسها تلك التحيُّزات النسبية التي تلقي باللائمة على أمور خارجية كلما خسر النادي مواجهةً له، مثل حكم المباراة "الظالم والمرتشي"، أو الطقس السيئ، أو الملعب الرديء، أو جمهور النادي الآخر... إلخ".
ويضيف: "هذه الإستراتيجيات هي السبب الرئيس لكل "البلاوي"، من عصبية وعنف لفظي أو فعلي، ودائماً هناك طريقة ما لتبرير الهزيمة، ودائماً هناك أساليب ملتوية وحيل بارعة للانتصار على الخصم، ودائماً هناك خرافات وسحر وهلمّ جرّاً".
الرياضة بهذه الطريقة، تحتاج إلى إعادة نظر فيها، وإلى مقاربة جديدة وجدّية، يواصل ياسين: "فالمشجع الذي يضع نفسه دائماً تحت سيطرة مؤثرات خارجية قابل لفقدان أعصابه في أي لحظة، وقابل للتلف النفسي، فالذي يجلس ساعات طويلةً في مكان محدد ووضع معيّن، وهو يدخن أو يتناول اللبّ والفول والمكسرات، لن يقبل بالخسارة، بل يحاول تعويضها، كما لا يحتمل النصر ويحاول موازنته".
ويتابع: "إن المشجع المتعصب والعنيف إنسان فاقد التوازن النفسي، ومهيّأ لارتكاب جميع حماقات الأرض في لحظة مشحونة ما. إنه إنسان خارج عن سيطرة ذاته، يتم تحريكه من المستطيل الأخضر بالـ"ريموت كونترول"، وهو في المدرجات أو مُمسمَر أمام شاشة التلفاز".
ما أتحدث عنه هنا هو الخرافات، يستطرد ياسين: "نقول لأدمغتنا إذا فعلنا هذا الشيء، فيمكننا تسخير الكون في اتجاه فوز الأهلي أو الهلال في مباراة اليوم. هذه هي طريقة عمل أدمغة المشجعين المتعصبين، وهو أمر يفعله جميع البشر ليشعروا بأمان أكبر عندما يكونون خارج نطاق سيطرتهم على ذواتهم".
لماذا رفع مشجعو الأهلي كلباً أسود ألبسوه قميصاً أبيض، وهم يهتفون: "شيكا... شيكا"؟
قصة "شيكابالا" ورواية الهلال
منذ سنوات، تراجع مستوى الناديَين السوداني والمصري الأكثر شعبيةً، بشكل لافت،
أليس كذلك؟ لماذا لا نفعل أي شيء تقريباً يسمح لنا بتكريس الشعور بالانتماء مجدداً، مثل أن نميّز أنفسنا بالاستغراق في التعصب لنادينا المبجل، المنتصر دائماً، والذي لا يُقهر؟ هذا ليس كل شيء، هكذا يمكننا تعزيز تمييز أنفسنا عن الآخرين. عندما تختار فريقك وتقف بجانبه وتلعن الآخر وتسبّه من أجله، فإن هذا يغذّي ذلك الجزء المعتم من نفسك، فتقول ربما: "ها هي الرياضة تمنح مشجعيها أهدافاً أيضاً!".
ربما الأكثر إثارةً للدهشة، هي إدانة السلوك والأفعال المشينة من الجميع بمن فيهم الذين يقترفونها، لكن بإنكارها وليس بالاعتراف بها وإدانتها، وهذا حدث في حالتَين متقاربتَين زمنياً بالنسبة إلى مشجعي النادي الأهلي المصري: مرةً في قصة "شيكابالا"، وأخرى في رواية الهلال السوداني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...