شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
هل كانت مصر جنة؟... مشاهد طائفية في زمن التعصب الوسطي

هل كانت مصر جنة؟... مشاهد طائفية في زمن التعصب الوسطي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 18 مارس 202211:00 ص

تستريح الذاكرة الانتقائية باختيار واقعة، وترديدها. ويحلو للعقل الكسول الإلحاح على الشائع، فتذهب بقية تفاصيل المشهد إلى النسيان. وكلمتا "الزمن الجميل" شعار غير موضوعي من ثمار هذا الكسل؛ حنين كاذب لا يختلف عن انحياز أغرار إلى زمن كان فيها آباؤهم تملّية في الوسايا، وأجراء أشبه بأقنان الإقطاعيات.

في ذلك الزمن وقعت حوادث طائفية يجب دراستها، والاعتراف بوجود آفات في الجذور، ولا يصح تجاهلها والتركيز على ثمار ضارة نضجت بتفاعلات التلقيح بالهواء الفاسد، إضافة إلى الجينات الوراثية. وهذه إضاءة على ثلاثة مواقف في النصف الأول من القرن العشرين، كان أبطالها أو ضحاياها كلّاً من جرجي زيدان، والشيخ محمد المهدي، ونجيب محفوظ.

جرجي زيدان

مجلة "الهلال" من آثار جرجي زيدان، ثمرة "عقل شامي" طليق يرى "أرض الله واسعة"، ولا يتواكل فيتباكى على فرص ضائعة، ويكره أوهام الاستقرار البليد، أبرز سمات "العقل الزراعي" المستكين في خوفه من عاقبة المغامرة.

يذكر الدكتور عبد المنعم إبراهيم الجميعي في كتابه "الجامعة المصرية القديمة 1908ـ1925... دراسة في الوثائق" أن زيدان (1861ـ1914) "أول من اقترح إنشاء جامعة في مصر". نشر زيدان اقتراحه في "الهلال"، شباط/فبراير 1900، داعياً إلى إنشاء كلية لتثقيف الشبان بدلاً من إرسالهم إلى أوروبا، "وبيّن الحاجة إليها في تعليم الشعب معنى الحرية والاستقلال، كما طالب بتشكيل لجنة لجمع الأموال لها عن طريق الاكتتاب".

يبلغ التطرف الجهول بالبعض حد تطبيق مبدأ "كفِّرْ  تسلم"، ومن المساخر أن يكون الضحية شيخاً ينقلب عليه السّحر، ويتم اتهامه بالردة كما جرى للشيخ محمد المهدي، أحد أساتذة طه حسين

تحت عنوان "مدرسة كلية مصرية هي حاجتنا الكبرى" ناشد الصحف المصرية المشاركة والتضافر لاستنهاض همم القادرين على التبرع. وتكررت دعوته في مقالات أحدها عنوانه "المدرسة الكلية المصرية أو الجامعة المصرية"، حثّ فيه على أن تكون العربية لغة التدريس.

ويسجل الجميعي تبني الزعيم مصطفى كامل للفكرة، في تشرين الأول/أكتوبر 1904، في صحيفة "اللواء"، لكنه لم يُشر "في كتاباته إلى أن جرجي زيدان هو صاحب هذه الفكرة، كما أن الكتابات المعاصرة لهذا المشروع لم تشر إلى هذه الفكرة، بل نسبت الفكرة إلى مصطفى كامل ونقلت عنها الكتابات التي تعرضت لذلك الموضوع فيما بعد". فماذا جنى صاحب الفكرة بعد أن صارت حقيقة عام 1908؟

زيدان مؤلف روايات الإسلام، ودراسته "تاريخ التمدّن الإسلامي" بأجزائها الخمسة. تلقى عام 1910 خطاباً من الجامعة، ليقوم بتدريس مادة التاريخ الإسلامي. وكيل الجامعة إبراهيم نجيب باشا طمأنه بأن أعماله ستشفع له عند الرأي العام. وفي الاختبار رسب الرأي العام، وأخضع الجامعة لإرادته، بعد انتقال القضية إلى الصحف، عنواناً لمعركة فكرية تتساءل: هل يجوز لغير المسلم في البلاد الإسلامية أن يدرِّس التاريخ الإسلامي؟

كتبت صحيفة "المؤيد" أن مجلس إدارة الجامعة اجتمع واستقر على أنه "لا يليق لغير المسلم تدريس مادة التاريخ الإسلامي". خسرته الجامعة، وعلق المنفلوطي: "كأنما لم يكفهم أن يروا بينهم مسيحياً متسامحاً حتى أرادوا منه أن يكون مسلماً متعصباً".

الشيخ محمد المهدي

التعصب الذي آذى جرجي زيدان بسبب دينه يحتاج إلى وقود يغذي شعلته، لا فرق بين خصم مختلف في دين وآخر لا يعجبنا رأيه. ويبلغ التطرف الجهول بالبعض حد تطبيق مبدأ "كفِّرْ تسلم"، ومن المساخر أن يكون الضحية شيخاً ينقلب عليه السحر، ويتم اتهامه بالردة كما جرى للشيخ محمد المهدي، أحد أساتذة طه حسين، ولم يكن بينهما ودّ، وقد انتقده طه حسين عام 1915، فغضب وطالب بإلغاء عضوية طه حسين من البعثة إلى فرنسا، لولا تدخل أحمد لطفي السيد واعتذار طه حسين. وبعد استقبال السلطان حسين كامل لأعضاء البعثة قبل سفرهم، صلى الجمعة في مسجد قصر عابدين، يوم 31 أيلول/ديسمبر 1915.

في عام 1934 مسّ نجيب محفوظ شرٌّ طائفي. خطأ غيّر مسار الفن الروائي، وقفز به إلى الأمام عقوداً بإنجاز فردي يفوق جهود جيل من المبدعين

في ذلك اليوم خطب الشيخ المهدي، وامتدح السلطان حسين الذي "جاءه الأعمى فأكرمه وبفضله عليه تجلى، وما عبس في وجهه وما تولى". فغضب المصلون مما ظنوه إساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم،. ورأى البعض بطلان صلاة الجمعة، فشرع في صلاة الظهر ورفض وكيل مشيخة الأزهر الشيخ محمد شاكر أن يصافح الشيخ المهدي، وخاطبه بصوت غاضب: "لا أصافحك، ولا أضع يدي في يدك. فاخرج من هنا فإنك مرتد لتعريضك بالنبي صلى الله عليه وسلم".

واحتج الشيخ المهدي، وأوضح أنه كان يريد ذكر مناقب جلالة السلطان. إذا كان الشيخ قد ارتد، فما الذي يثبت دخوله الإسلام مرة أخرى أكثر من الصلاة؟

نجيب محفوظ

وفي عام 1934 مسّ نجيب محفوظ شرٌّ طائفي. خطأ غيّر مسار الفن الروائي، وقفز به إلى الأمام عقوداً بإنجاز فردي يفوق جهود جيل من المبدعين. أنهى محفوظ دراسة الفسلفة في جامعة القاهرة التي افترض سعد زغلول أنها "لا دين لها إلا العلم".

كان الثاني على دفعته، وتقدم إلى الجامعة بطلب للسفر إلى فرنسا في بعثة لدراسة الفلسفة، والرجوع للعمل في هيئة التدريس بالجامعة. وشكلت كلية الآداب لجنة لاختيار طالبين، واستبعدت محفوظ ظنّاً أنه مسيحي، وحرمته حقه في استكمال دراساته العليا، وبدء الطريق الأكاديمي.

كانت مصر تغلي في ظل دستور إسماعيل صدقي المنقلب على دستور 1923، والجامعة مشغولة بدين طالب بعثة.

جرجي زيدان مؤلف روايات الإسلام، ودراسته "تاريخ التمدّن الإسلامي" بأجزائها الخمسة، تلقى عام 1910 خطاباً من الجامعة، ليقوم بتدريس مادة التاريخ الإسلامي. وكيل الجامعة طمأنه بأن أعماله ستشفع له عند الرأي العام. وفي الاختبار رسب الرأي العام

مشاهد التعصب ضد جرجي زيدان والشيخ المهدي ونجيب محفوظ لم يعلنها مسؤول في الدولة. يتوارى السياسيون دائماً وراء بيروقراطية وظيفية تحتمل عنهم الآثام، وليس من مهام رئيس الوزراء أن يجابه فيلماً أو كتاباً.

وفي نوبة ارتباك سياسي قرر رئيس الوزراء المصري المهندس إبراهيم محلب، في نيسان/أبريل 2014، وقف عرض فيلم "حلاوة روح"، وتضمن القرار المرتبك عرض الفيلم على هيئة الرقابة على المصنفات الفنية "لاتخاذ قرار نهائي بشأنه". الهيئة نفسها التي وافقت على السيناريو، ثم صرحت بعرض الفيلم. وكان سعد زغلول سباقاً، عام 1925، إلى الهجوم على كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، ووصف مؤلفه الشيخ علي عبد الرازق بأنه "جاهل بقواعد دينه".

وفي العام التالي أثيرت قضية كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، وتظاهر طلاب الأزهر أمام البرلمان، وخرج إليهم رئيس البرلمان سعد زغلول قائلاً: "هبوا أن رجلاً مجنوناً يهذي في الطريق فهل يغير العقلاء شيئاً من ذلك؟ إن هذا الدين متين وليس الذي شك فيه زعيماً ولا إماماً حتى نخشى من شكه على العامة. فليشك ما شاء، ماذا علينا إذا لم يفهم البقر؟!".

خطاب دال، يصف أكبر مسؤول في البلد كاتباً أعزل بالجهل أو الجنون، ثم يتركه لمن يتولون أمر عزله كما جرى للشيخ عبد الرازق، أو لمحاكمته لولا أن محمد نور، رئيس النيابة، حفظ التحقيق، لأن "القصد الجنائي غير متوفر".

أفلت طه حسين عام 1926، وأجرى تعديلات في الكتاب وغير عنوانه، ليصدر في العام التالي بعنوان "في الأدب الجاهلي". وفي عام 1932 قدم نائب في مجلس النواب استجواباً إلى وزير المعارف محمد حلمي عيسى جاء فيه أن طه حسين "الرجل المعروف بمصادمة آرائه لنصوص القرآن الكريم والعقائد الدينية. وقد ظهر عداؤه للإسلام في كثير من تعاليمه وآثاره... وكيف تسمح أن يكون ذلك الرجل عميداً لكلية الآداب بالجامعة المصرية بعد أن افتضح أمره، وضجت الأمة كلها من خطر تعاليمه وآرائه التي لا تقل عن خطر دعاة التنصير في البلاد؟". وفي 20 آذار/مارس 1932 قرر مجلس الوزراء فصل طه حسين من وظيفته.

طاب فصل العميد لشاعر مجهول خاطب رئيس الوزراء إسماعيل صدقي:

يكفيك أن أنقذت دين محمد

من شرّ طغيان اللئيم المفسد

لو أن شرع الله يجري حكمه

لقضى بإعدام الشقي الملحد

أقارن موقف سعد زغلول في قضيتي علي عبد الرازق وطه حسين بتعليقه على خطابات افتتاح الجامعة، 21 كانون الأول/ديسمبر 1908، قائلاً: أحسنها "تلاوة وإلقاء ومعنى وعبارة خطبة عبد الخالق ثروت". وأسوأها خطب رئيس الجامعة (الأمير أحمد فؤاد) والخديو (عباس حلمي). "وأثقلها على السمع وأبعدها عن الموضوع خطبة أحمد زكي لأنه تكلم فيها عن الإسلام ومجده بأمور متكلفة ليس من اللياقة إلقاؤها في افتتاح جامعة لا دين لها إلا العلم".

ويقول الجميعي إن زغلول كتب خطبة الخديو، ثم "هاجمها واتهمها بالسوء وبأنها تغيرت كثيراً عما كتبه"، ولما طلب إلقاء خطبة، بصفته أحد المؤسسين وناظر (وزير) المعارف العمومية، "فإن طلبه كان نصيبه الإهمال".

تلك مشاهد، لا أعادها الله، من مصر في العهد الليبرالي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard