كثيرة هي الوحدة. وثقيلة على قلوب الذين يشعرون بها، وعديدة وجوهها، وجليًّ ألمها.
الوحدة وانعكاساتها أمر مختلف بين شخص وآخر. كلنا شعرنا أننا وحيدون على الأقل، مرة في حياتنا، وسنكون وحيدين مرات أخرى كلما انغمسنا في المدينة.
المدينة التي تلتهمنا فيها الوحدة، فتطفو فيها العلاقات الإنسانية على السطح وتبقى عالقة هناك، حيث لا فرصة للتعمق أو الاقتراب، ولكنك محاصر بوجوهٍ كثيرة، وجوه تبقى غريبة. فلا يهمّ كم شخصاً يلتقي المرء في يومه أو عدد الناس من حوله، إذ إن الوحدة شعور ذاتي لا تبدده الكثرة، بل تعززه في بعض الأحيان، وهذا يختلف عن العزلة التي تعد التجربة الموضوعية للوحدة.
الوحدة شعور ذاتي لا تبدده الكثرة، بل تعززه في بعض الأحيان، وهذا يختلف عن العزلة التي تعد التجربة الموضوعية للوحدة.
المدينة هنا هي مرادفة للحياة العصرية التي تبدو فيها الوحدة كالقدر المحتوم. هذا العصر الذي يتفرد بسماته وتحدياته التي لم يواجهها أو يتعاطَ معها الإنسان طوال تاريخه، فالإنترنت والعولمة والفردانية والرأسماليات والسوشال ميديا خلقت صورة جديدة للمرء عن نفسه وعن العالم وعن التحديات التي عليه أن يخوضها لتحقيق ذاته. هذه كلها تجعله أكثر وحدة في نهاية اليوم وأكثر كآبة.
يقول الطيب صالح في روايته موسم الهجرة إلى الشمال: "كلنا يا بُني نسافر وحدنا في نهاية الأمر"، هذا وإن كان أحد ما لا يشك في هذا السفر الأخير الذي لا بد أن نجتازه وحيدين، غير أن السوري سافر وحده، شاداً عليه جراحه وذكرياته، قبل هذه الرحلة الأخيرة، أكثر من مرة. ترك وراءه عالماً وأحبةً وأصدقاء، وما حمل إلا وحدته المُرّة في قلبه.
كثيرون لم يصلوا، وكم من واصل لم يستقر، بل وجد نفسه في مواجهة مجتمعات غريبة عنه تماماً، خاصة المجتمعات المفرطة في ماديتها، والتي يبدو أنها تدفع أفرادها نحو الوحدة بشكل متزايد. فكيف سيواجه حقيقة الوحدة هو الذي يفتقر إلى العدة النفسية كونه قادماً من مجتمعات اجتماعية في طبيعتها من ناحية ومثقلاً بتركة الحروب وآلام الغربة من ناحية أخرى؟
هل الوحدة والغربة قرينتان؟
تعتبر العلاقة بين الغربة والوحدة علاقة وثيقة ومركبة جداً، إذ تتضاعف آثار الوحدة في الغربة ويزيد شعور الوحدة من الإحساس بالغربة أو من الوعي بها، كأن أحدهما مولد للآخر ومسبب له. حلقة مفرغة من المشاعر التي يدور المرء داخلها دون مرسى أو بر أمان. فلا هو يعود المرء القديم الذي كانه يوماً ولا هو يستطيع أن ينساه."كأن الوحدة هي نوع من أنواع النظارات التي يضعها العقل لنا فنرى من خلالها الغربة، وبذلك فقط نستطيع أن نفهم غربتنا". هكذا يصف الشاعر السوري عماد أبو أحمد في حديثه لرصيف22 العلاقة بين الغربة والوحدة. عماد الذي يعيش وحيداً في ألمانيا منذ عام 2014 بعيداً عن عائلته يخيّم عليه إحساس دائم بالفقد بسبب بعدهم عنه، فيحاول أن يعوض هذا الفقد (أو النقص) الذي يستشعره بزياراته المتكررة لإخوته الذين يعيشون في السويد حتى يشعر أنه استرد جزءاً من هويته. لكن المفارقة أنه وبعد مرور القليل من الوقت معهم تلح عليه الحاجة إلى العودة إلى بيته أو "كهفه" كما يسمّيه، إلى المكان الذي لا يرى فيه ولا يراه فيه أحد.
تتضاعف آثار الوحدة في الغربة ويزيد شعور الوحدة من الإحساس بالغربة أو من الوعي بها، كأن أحدهما مولد للآخر ومسبب له
وإن كان بإمكاننا اعتبار رأي عماد محايداً إلى حد كبير، فإن هوزان، شاب كردي سوري يعيش في ألمانيا منذ عام 2013، يميل أكثر إلى رؤية الجوانب الإيجابية في تجربتي الوحدة والغربة على السواء. إذ ساعدته الوحدة على اكتشاف نفسه وطاقاته واستثمارهما في الاتجاه الصحيح رغم المعاناة التي عاشها في البداية والتحديات التي خاضها على حد قوله: "في بداية حياتي في ألمانيا عانيت، لكني اكتشفت نفسي في الوحدة. أن تواجه نفسك، أن تكون في مقابلة مع نفسك، وتسألها كيف ستواجه الوحدة فمسألة مهمة. ولهذا قررت أن أرسم. شعرت أن الرسم حالة اجتماعية ومن خلاله يمكنني التواصل مع العالم كله وليس فقط مع الألمان أو مع السوريين".
على الجانب الآخر، لا يرى بحر، شاب سوري يعيش في ألمانيا منذ سبع سنوات، جوانب إيجابية في تجربة الوحدة التي تركته يحارب الاكتئاب والقلق، مما أثر سلباً على دوافعه وقدرته على الاستمتاع بالحياة. يجد بحر نفسه وحيداً في مواجهة العالم الجديد وحائراً فيما يفعل في أيام العطل أو أوقات الفراغ، إذ لا تسنح الفرصة دائماً للالتقاء بالأصدقاء بسبب الظروف أو الانشغالات ويتعذر عليه كذلك التواصل مع العائلة التي لا تزال في سوريا. يقول: "الأهل في سوريا عندهم إنترنت سيىء جداً، فبالكاد تنجح أحياناً المكالمات الهاتفية. أما مكالمات الفيديو فلم تعد تنجح مطلقاً. وهذا يؤثر عليّ عندما لا أجد أهلاً لي ولا أقرباء أتشارك معهم في تفاصيل حياتي".
تؤكد لرصيف22 زاناف سليمان وهي سورية كردية تعيش في ألمانيا منذ عام 2016 أن الغربة سببت في سنوات وعيها الأولى نقلة نوعية في إحساسها بالوحدة. وتشبه شعورها بالوحدة بوجود خندق معنوي وفكري يفصلها عن كل من حولها. لكنها تسعى بشكل جاد السيطرة على شعورها حتى لا يفضي بها إلى العزلة الاجتماعية تقول: "أنا أتدرب في الحقيقة على الخروج من عزلتي الفكرية والتصالح مع إحساسي المزمن بالوحدة، فتعلمت كيف أتحكم أنا بإحساسي بالوحدة عوض أن يتحكم هو بي مؤثراً على حياتي الاجتماعية. كوني مدركة أيضاً أن السرعة التي تتغير فيها ظروف حياتنا لا تقربنا بل تزيد من الدافع لتركيزنا كأفراد على ذواتنا، وتتحول بهذا علاقاتنا الاجتماعية إلى ثانويات، وهذا ليس أمراً سلبياً بالضرورة".
"أنا أتدرب على التصالح مع إحساسي المزمن بالوحدة، تعلمت كيف أتحكم بإحساسي بالوحدة عوض أن يتحكم هو بي". زاناف سليمان، سورية كردية، تعيش في ألمانيا.
التشظي بين ثقافتين
الوحدة بالنسبة للشاعر والرسام الفلسطيني السوري ورد زراع ليست شعوراً أحدثته الغربة، بل هو شعور لازمه دائماً مذ كان في سوريا. يعتبر ورد أن النظام القائم هناك سعى إلى أن يكون الأشخاص كلهم مرايا بعضهم للآخر، وفي الأصل هم مرايا لقالب هو صنعه. أي يتوجب على المرء ألا يسأل أو يفكر أو يخرج عن النمط وكل مختلف عن هذا النسيج هو وحيد. وما تفعله الغربة هو مضاعفة هذه المأساة فحسب، إذ يصبح لدى اللاجئ تقاطعية وحدة. يقول: "وهنا المشكلة لأنك تجد نفسك في الوسط، غير قادر على الدخول في مجتمع اللاجئين لأنك كنت أقلية في هذا المجتمع، فأصبحت الآن أقلية الأقلية، وغير قادر على الانصهار في المجتمع الجديد الذي يتجنبك في دوائره المغلقة، وهنا تعلق أنت في الوسط، وتصبح الوحدة مضاعفة، وحدة تربيع".كذلك الأمر بالنسبة لهوزان، فشعوره بالوحدة في سوريا كان أكثر مما هو عليه الآن، إذ لم يستطع أن يمارس هوايته أو يعبّر عن رأيه ولم يشعر أن أقرب الناس إليه قادرون على فهمه أو يتلقى منهم الدعم والتشجيع يقول بشيء من المرارة إن والدته كانت تصف منحوتاته التي كان يصنعها من الطين في فناء منزلهم الريفي بأنها "وسخ"، ويردف: "أنا حتى كنت أشعر بالغربة، كنت أشعر أنه لا بد أن ألاقي وطناً يحتويني".
بالرغم من أن هوزان وجد في ألمانيا البيئة التي يستطيع أن يكون فيها نفسه، فإنه يعيش في حالة من الصراع بين الماضي والحاضر، من عذاب الذكريات الجميلة والسيئة على السواء. لا يبدو أن الصعوبة بالنسبه له تكمن في القدرة على التحدث مع الآخرين وتشكيل علاقات وصداقات جديدة، بل في جحيم الذاكرة السورية التي تعيده للخلف، للماضي، ولكل الأشياء التي تعذبه.
هذا التأرجح بين عالمين أو ثقافتين يبدو جلياً لدى زاناف: "من ناحية أشعر بالوحدة مع المحيط الجديد بسبب غياب اللغة المشتركة أو ركاكتها التي ما زالت تشعرني بالإحباط. من ناحية أخرى، هناك الفجوة الفكرية التي ازدادت اتساعاً بيني وبين مجتمعي الأصلي الذي يراني أخسر جذوري بينما تتقدم أفكاري في اتجاه يناسب المكان والظرف الجديد".
بينما يصف عماد هذه المشاعر بشكل أكثر حدة ودقة: "أنا أعيش في ألمانيا منذ سبع سنوات تقريباً وكلما مر الوقت شعرت بالغربة أكثر برغم أنه من المفترض أنني أندمج أكثر. ولكن السبب الأساسي هو مقارنتي الدائمة للحياة هنا بحياتي في سوريا". ويضيف: "يبدو أن المرء في الغربة يخلق شعوراً من الألفة مع عزلته وغربته كما يسميه ابن خلدون الرجل الحدي.. أي يعيش على الهامش بين ثقافتين، أشعر أنني متمزق أحياناً متمزق بين هذه الثقافات وكأن جزءاً مني عربي والجزء الآخر ألماني".
"أعيش في ألمانيا منذ سبع سنوات وكلما مر الوقت شعرت بالغربة أكثر برغم أنه من المفترض أنني أندمج أكثر". عماد أبو أحمد، شاعر سوري
لكل شيخ وحيد طريقه
في محاولات تجاوز مشاعر الوحدة، يرى ورد أن الانترنت سيف ذو حدين، إذ يعتبر السوشال ميديا سبباً في تكسير الوحدة وزيادة الشعور بها في الوقت نفسه. إذ ساعدته على البقاء على تواصل دائم مع أصدقائه البعيدين، منعته أيضاً من محاولات الانصهار في المجتمع الجديد، وبهذا ظل في الفقاعة الخاصة به والتي هي فقاعة وهمية. يشرح ورد تأثير الانترنت السلبي: " منعني من اليأس، لأن اليأس إنجاز. فعندما تفقد كل شيء تبحث عن حل، فالانترنت منعني من أن أيأس أو أضطر للانسجام مع آخرين لا يشبهونني، فتركني معلقاً".حاول بحر كل شيء، من الالتقاء بأصدقائه القدامى كلما سنحت الفرصة بذلك أو حتى بناء علاقات جديدة مع الألمان، الأمر الذي لا يبدو أنه ينجح كثيراً بسبب الاختلاف الجوهري في اللغة والثقافة وطبيعة العلاقات، وكذلك محاولته الانشغال بالدراسة والتركيز على مستقبله. لكن ما يؤنس روحه حقاً هو الذهاب إلى الجامع يقول: "الجوامع في الغربة تؤدي دوراً جيداً في توفير مكان يلتقي فيه المسلمون ويتعارفون ويفيدون ويستأنس بعضهم ببعض. وأنا واحد من هؤلاء".
أما هوزان فقد وجد ضالته في الرسم: "الوحدة جعلتني أفرغ طاقتي في الرسم... اكتشفت أن الرسم هو أهم مصدر طاقة بالنسبة لي، عندما أرسم أشعر أني سعيد، وذكي، وكل شيء آخر".
"فأهرب بنفسك واستأنس بوحدتها، تبقى سعيداً إذا ما كنت منفرداً". الشاعر منصور الفقيه.
ما هي الوحدة؟ سألت. فيجيب كل من سألته على طريقته الخاصة. يقول ورد زراع: "الوحدة هي أن تكون معلقاً من دون أن توجد أي ضفة تجلس عليها".
بالنسبة للشاعر السوري باسل ضميرية: "الوحدة هي غياب الحب أو غياب المرأة". بينما يرى الشاعر عماد أبو أحمد :"أن الوحدة هي أن تكون مهزوماً، أي أن تشعر أنك مهزوم وترى هزيمتك في عيون الآخرين".
بعضهم وجد نفسه في الوحدة، وبعضهم كاد أن يضيعها ولكن في نهاية المطاف يبدو أننا جميعاً نصنع، وإن كان على مضض نوعاً من الألفة والأنس مع وحدتنا على طريقة الشاعر منصور الفقيه: "فأهرب بنفسك واستأنس بوحدتها، تبقى سعيداً إذا ما كنت منفرداً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.