شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"هل أنا حقاً أنا؟! "... عن البلاد التي منحتني جوازاً وسلبتني البيت الذي أهرب إليه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمشرّدون

الاثنين 21 نوفمبر 202204:48 م

عند كتابتي هذه الكلمات سأكون قد أنهيت أحد الكتب التي ستبقى في ذاكرتي للأبد "سأتحفظ على عنوانه" لكنني قرأته واقتنيته بدافع القهر والحاجة لسماع صرخات الغياب.

كيف يغيب الإنسان عندما يوجد جسده ويتفاعل بصوته وعينيه؟ وهل نوجد نحن حقاً عندما تكون روحنا في أرضٍ أخرى؟ أعلم أنني أطرح الكثير من الأسئلة وأنت يا صديقي القارئ تريد الزُبدَة من هذه المدونة. حسناً لا تستعجل فحديثنا سيكون قصيراً.

اسمي إياد، يقول لي أبي أنه اختار هذا الاسم تيمناً بأحد القادة الفلسطينيين وقد ربطني بلقبه أيضاً "أبو علي".

كانت جدتي وهي إحدى الشاهدات على النكبة تناديني ” حمودة".

لا أعلم الرابط بين اسمي وحمودة لكنها حتى ساعاتي الأخيرة في دمشق بقيت تناديني بنفس الاسم.

بدأت رحلتي مع اللاانتماء منذ لحظة ولادتي بسبب كوني شخصاً من ذوي الاحتياجات الخاصة، فكان التنمر صديقاً فظاً و قد رفضني مجتمعي مبكراً.

 بدأت رحلتي مع اللاانتماء منذ لحظة ولادتي كونني اقترنت بوصمة جسدية كشخصٍ من ذوي الاحتياجات الخاصة، فكان التنمر صديقاً فظاً وكنت أشعر أن مجتمعي ذاك قد رفضني مبكراً. 

خاف والداي عليّ من كرة القدم رغم حبي أن ألعب بمركز المهاجم أو هكذا ظننت. كنت أريد أن أواجه العالم فركبت دراجة صممها لي والدي عند أحد حدادي دمشق المشهورين لأن دراجتي كانت تلقب بالدبابة لأنها ضخمة جداً بسبب دعامات المساعدة التي لا تشبه في شكلها عجلات المساعدة التقليدية. 

بسبب ذلك تحولت لراكب الدبابة وكنت أقود عصابة من أولاد حارتنا وشعرت أنني أمتلك إرادتي من عجلاتي الأربع. رغم هذه الرحلة الطفولية الغريبة بقيت أشعر أنني أريد أن أحكي للعالم عني، عن لفظي للمكان، اشتياقي لزمن يقبلني، فلجأت في مراهقتي للغة وبدأت بكتابة الشِعر بعمر المراهقة. 

أعتذر لسردي هذه التفاصيل لكنها ستعرفك بي لأقول لك لماذا وصلت لشعوري المُلِح بالهرب من العالم رغم أنني لست جباناً. 

وصلت إلى أوروبا في عمر السابعة عشرة وكنت بحالة المصدوم، كيف لا وأنا لا أزال متعلقاً بفكرة العودة للمخيم "مخيم اليرموك". كان تعلقي بالمخيم قهرياً مثلي كمثل الكثير من شبابه الذين وصلوا إلى أوروبا أيضاً، فتعريفي بنفسي كان يبدأ في اللغة السويدية عن كوني أنتمي إلى أرضٍ صغيرة امتلأت في وقت ما بكل أحلامي وآمالي لكنها لم تكن الوطن. 

كنت أركب دراجة صممها لي أحد حدادي دمشق المشهورين وكانت تلقب بالدبابة لأنها ضخمة جداً بسبب دعامات المساعدة، وبسبب ذلك تحولت لراكب الدبابة وكنت أقود عصابة من أولاد حارتنا

بدأت حياة السويد تأخذ شكلها الرتيب شيئاً فشيئاً وفي عمر التاسعة عشرة شُخَّصت بمتلازمة اكتئاب المراهقين، ولسوء حظي عندما اتقنت اللغة السويدية كانت أُولى جلساتي مع معالجي النفسي.

 كان المجتمع العربي عموماً الذي أجبرت على الانخراط به لا يشبهني بالمرة. بدأت محاولاتي بالانخراط أو على الأقل محاولة التأقلم مع المجتمع الذي اختارني ولم أختره من خلال مشروع فرقة مسرح. 

كنت ولا أزال أعشق المسرح والإخراج وكمراهقٍ يأكل الورق مع مشاعره فكان المسرح هو المكان الأمثل لينجيني من الاكتئاب. أعلم أنني كنت أنانياً بسببي هذا، بيد أنني وددت بشدة أن أحكي عني وعن كل من لم يستطع الكلام عن أفكاره من خلال فكرتي تلك. ولم أنجح! ومع ذلك بقيت تلك الفكرة تزاولني حتى لحظة كتابة هذا الكلمات.

 صديقي القارئ، أعلم أنك ستستغرب، بيد أن مشكلتي لم تكن اللغة ولم يكن اختلاف أفكاري عن المجتمع السويدي هو ما قادني لفكرة اللاانتماء. بل هي محاولاتي المستمرة كي أقول: "أنا هنا!".

 مشكلتي لم تكن مع اللغة ولم يكن اختلاف أفكاري عن المجتمع السويدي هو ما قادني لفكرة اللاانتماء. بل هي محاولاتي كي أقول: "أنا هنا! ".

 وعلى الرغم من جهود المعالجين معي بقي شعوري بالهرب مزاولاً لي مع رشة قلق والقليل من المزاج المتقلب. أعيش في السويد منذ تسع سنوات وسأتخرج من إحدى جامعاتها بشهادة تختص بالعلوم الإنسانية والدراسات الثقافية. 

أذهب وأبتسم لأصدقائي وأعود باحثاً عن جواب لسؤال آخر "هل أنا حقاً أنا؟!" في الحياة هنا تعلمت أن أحترم مساحة الآخرين وأن أستمع بأذنين، فالسويديون يقولون." لديك أذنان وفم واحد" ومن تلك الجملة بدأت قناعاتي بالترسخ شيئاً فشيئاً. 

مع مرور الأيام، فقدت الشعور بالوقت. فالمراهق الذي وصل إلى السويد أضحى بالغاً يهرب من العالم بوجبة الأوراق والقليل من مشاعر الحب.

كان الحب جزءاً من رحلتي نحو الوحدة، فاخترته ولم يخترني مراتٍ ومرات لألجأ لحب شيء آخر ألا وهو الأفلام. بدأت بالأفلام التي تتلاقى مع حالتي النفسية، وقعت بحب كافكا ودوستويفسكي وفان غوخ. 

بدأت رحلتي الثانية مع الأفلام كمهرب جديد ومحاولة لتلوين روحي، فغرقت بالفن السابع وقرأت سيناريوهاته كطفلٍ فضولي. 

عشت كي أشاهد الأفلام والآن أريد أن أصنعها من بقايا لغتي وروحي. أعيش اليوم مع نفسي في منزلٍ يعج بالحب، فوالداي يحبانني جداً وكذلك إخوتي يبحثون عني عندما لا يجدون الأجوبة عن العالم، أما أنا فأصبحت كائناً رمادياً تراني يوماً مشرقاً كشمس آب ومرات أخرى تراني هارباً وحيداً كخريفٍ طويل. بقي القلق يفرض علي أقنعةً لطيفة مغلفة بابتسامتي ولغتي المخلوطة بالكلمات الفصيحة، فأسمع أصدقائي يرددون: "أنت مفلسف يا أخي". وأقابل تلك الجمل بقناع آخر وهو الكوميديا السوداء فأخترع سيناريوهات "ظريفة" أقول بها أفكاري دون أن أقول أنها أفكاري. 

 أعطتني بلاد الشمال الجواز الأحمر وأول هوية "كمواطن" له حقوق وعليه واجبات، لكنها سلبتني مكاني الذي أهرب إليه من العالم. فهل أنا حقاً أنا؟!

إنها سخرية بلاد الشمال تهبك القلق وشعور الرمادية وتغدق عليك "بالأمان المزيف".

إن بلاد الشمال يا صديقي أعطتني الجواز الأحمر وأول هوية "كمواطن" له حقوق وعليه واجبات، لكنها سلبتني مكاني الذي أهرب إليه من العالم. فهل أنا حقاً أنا؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image