خلال السنوات الأخيرة، شهدت صناعة الأفلام والمسلسلات عالمياً تغيرات عدة أمام الكاميرا وخلفها بفعل صعود خطاب التنوع والشمولية. إذ تبنت شركات الإنتاج الكبرى مجموعة من السياسات تستهدف تمثيل المجموعات المضطهدة والمهمشة على الشاشة وتصحيح الصور النمطية المترسخة عبر عقود طويلة. ورغم وجود تحفظات على هذا النهج المقيد للعملية الإبداعية، فإن ثمة إيجابيات يمكن تلمسها، منها الاهتمام بصورة كبار السن وحكايات العمر الثالث.
يتماشى ذلك مع واقعنا اليوم، فعمر المرء بات أطول مما مضى، ولا يمكن اختزال الحياة وإيقافها عند سن معيّنة. لذا كان من المنطقي الاتجاه نحو تقديم قصص درامية معنية بهموم وأحلام كبار السن، تتأمل ما يفعله الزمن بالإنسان، وترصد تحديات الشيخوخة، متحررة من الأحكام المسبقة، ومراعية التباين بين البشر.
هذا ما أقدمت عليه جملة من المنصات الرقمية الشهيرة، على رأسها منصة نتفليكس التي أنتجت مسلسلات، مثل: The Kominsky Method "منهج كومينسكي"، و Grace and Frankie "جريس وفرانكي"، يحمل بعضها نقداً صريحاً لمبادئ الصوابية نفسها.
ومع أن المنصات العربية تخضع لمعايير واعتبارات مختلفة، فإنها ليست بمعزل عن التحولات الفنية الكبرى في العالم، إذ نجد مسلسلين على منصة "شاهد" ضمن الموسم الرمضاني الحالي، يقدمان كبار السن بتجاربهم الثرية وأزماتهم المختلفة ضمن قالب سردي لا يضعهم على هامش الحدث، وإنما يدمجهم في نسيج الدراما.
اختبارات الحياة لا تعترف بالسن
تمكنت ورشة "سرد" ومؤسستها الكاتبة مريم نعوم من كسب ثقة المشاهدين منذ تدشينها في منتصف العقد الماضي. إذ قدمت مجموعة من مسلسلات ناجحة، تناقش غالبيتها قضايا معاصرة تمس الحياة اليومية، وتتمرد على مفاهيم وأفكار مغلوطة في المجتمعات العربية ضمن إطار درامي مؤثر.
وكأن هذه السيناريوهات تستوعب الخطابات العالمية الرائجة ثم تتجاوزها لصالح حبكات أكثر ملائمة للمشاهد الشرقي، وإن كانت محصورة في عوالم الطبقات العليا.
فمثلاً، فإن التوعية بالاضطرابات العصبية وضرورة الاستعانة بالطب النفسي هما محور الحكاية في مسلسل "خلي بالك من زيزي" الذي أخرجه كريم الشناوي، أما منح المرأة حقها في اختيار الحياة الأنسب لها، فقد كانت التيمة الأساسية في جزءَيْ "ليه لأ؟!" لمريم أبو عوف. كذلك حضرت مشاكل المراهقين وصراعاتهم مع السلطة الأبوية في مسلسل "مين قال؟" لنادين خان.
هذا العام تتعاون سرد للمرة الثانية مع الشناوي في مسلسل "الهرشة السابعة" الغائص في علاقات الحب والزواج، ليفككها ويطرح من خلالها أسئلة حول الأسس التي تبنى عليها العلاقة الناجحة، وكيفية صمودها أمام المشكلات اليومية، وشكل الأدوار داخل البيت في هذا العصر.
يقدم العمل نموذجين للعلاقات الزوجية الشابة، لكن يمد خيوط حكايته لتشمل نماذج من مرحلة عمرية متقدمة تجعلنا ندرك أن الحياة ستظل تفاجئنا باختباراتها حتى النفس الأخير.
يمنحنا المسلسل فرصة التقرب من مجموعة شخصيات، ترتسم تجاعيد الزمن على وجوهها، وتكشف حواراتها عن معرفة بالحياة.
لا تنحصر الأدوار في كونها مجرد جزء من عالم الشخصيات الرئيسية، وإنما لكل منها رحلته الخاصة التي تخدم الفكرة الأساسية، فالعلاقات كلها معقدة على اختلاف ظروفها، تمر بمنعطفات كثيرة قد تعصف باستقرارها، ولا ضمان للاستمرارية إلا ببذل جهد حقيقي من الشريكين.
هذا ما نصطدم به في بداية الحلقات مع الثنائي هناء وإبراهيم (عايدة رياض ومحمد محمود). فمنذ ظهورهما الأول على الشاشة في تجمع عائلي، يمكنك ملاحظة حجم الخلافات المتراكمة على مدار ثلاثين عاما من الزواج.
شد ولين، شجارات طويلة تتفجر من كلمة عابرة وهدنات مؤقتة لا تذيب مشاعر الضيق والاستياء، وبعد مواجهة طويلة، يكشف فيها كل منهما عن نظرته للعلاقة، وما قدمه من أجل استمرارها كل هذه السنوات، ثم ينتهي الجدال إلى الاتفاق على الطلاق.
مشهد رقص السيدات الثلاث معاً في ليلة عيد الحب، أصبح مشهداً مألوفاً في دراما كبار السن، إذ تستدعي لقطة مشابهة في "خلي بالك من زيزي" حين رقصت الشقيقتان، صفاء الطوخي وسلوى محمد علي، وابنتاهما على أنغام خوليو إغلاسياس
ينتمي إبراهيم لجيل من الرجال تربى على كتم مشاعره، لا يولى اهتماماً لكلمة الحب والامتنان التي يحتاجها الشريك، بل يعتبر أن تحمل مسؤولية الأعباء المادية، وتلبية احتياجات البيت هما الدليل العملي عما يعتمر في القلب.
أراد إبراهيم لزوجته أن تتفرغ لرعاية شؤون البيت، وحرمها من العمل، فشعرت أن أحلامها تسربت من بين يديها، ولم تعد قادرة على لعب الدور المفروض عليها باقي حياتها، فقررت أن ترحل في النهاية.
يُنحي صناع المسسل الظروف المادية التي كثيراً ما تعوق النساء في عمر هناء عن طلب الانفصال، وينتصرن لفكرة التمرد على الواقع، والإصرار على عيش حياة أفضل. فنرى هناء تسعى وراء حلمها وتتخذ خطوات نحو تصميم الملابس على استحياء، ورغم شعورها بالحنين من حين لآخر، تدرك أنها الآن أكثر راحة وتصالحاً مع ذاتها. أما هو فقد ساعده الانفصال على اكتشاف أولوياته من جديد، كما جعله يدرك أخطاءه ويسعى إلى تصحيحها هرباً من الوحدة.
والحقيقة أن البحث عن رفيق للحياة يبدد أشباح الوحدة يعتبر من المشكلات المتكررة عند تناول قصص كبار السن. لذلك، يثار بشكل مختلف من خلال قصة فيفي (حنان سليمان) في المسلسل.
تمثل ملامح شخصية فيفي تحدياً للعديد من الصور الذهنية الكسولة المرتبطة بالمرأة المتقدمة في السن. فهي أرملة محبة للحياة، ومنفتحة على جديد العالم من حولها، لا تجد صعوبة في التأقلم مع تطورات التكنولوجيا مثلما يظهر كبار السن عادة في الدراما. وتسعد بالحصول على ساعة رقمية، وتنطلق في تسجيل الفيديوهات على تطبيق "تيك توك"، كما تحرص على مشاركة متابعيها صور عيد ميلادها.
لكن رغم محاولات ملء الحياة تجتاحها الوحدة، ويمنحها القدر فرصة البدء من جديد مع رجل يحبها. ومن خلال هذا الخط الدرامي يتطرق صناع المسلسل إلى تعامل المجتمع عموماً، والأبناء خصوصاً مع زواج الأم، وبالتأكيد ينحازون للنهاية السعيدة التي تنطوي على رغبة حقيقية في تغيير الواقع.
ولأننا نتحدث عن العلاقات بتشابكها وتعقيداتها، يقدم لنا العمل نموذجاً لعلاقة انفصال ناجحة هما ماجي وهلال (ميريام جوهر وأحمد كمال). لا يخبرنا السيناريو سبب انهيار الزواج بين الرجل المصري والسيدة الفرنسية، لكننا نستشف من بين السطور تباين طباعيهما وأسلوبيهما في الحياة.
ماجي الشغوفة بالسفر ورحلات التخييم في الصحراء مقابل هلال الذي هجر الناس وقرر العيش في مزرعته عائداً للأصل والجذور، ورغم حفاظهما على علاقة الود والاحترام من أجل ابنهما، تضعهما الحياة في اختبار صعب حينما يكتشفان أن لديه ابنة مراهقة من علاقة عابرة.
يهتم السيناريو برسم العلاقات بين الأبناء والآباء، والدور الذي يلعبه كل منهما في حياة الآخر بصورة تساعدنا على فهم ماضي الشخصيات ودوافعها، لكنه لا يحصر الكبار في موقف الناصح والمرشد، بل يمنح الجميع مساحة اختبار الواقع والتصادم معه. وبكاميرا حميمية تتأمل الوجوه، وتحتضن التنوع على اختلاف أشكاله سواء من غزا الشيب رأسه أو من يحاول إخفاء خطوط الزمن، استطاع الشناوي أن يقدم صورة نابضة بالحياة لكبار السن كاشفة عن مخاوفهم وأحلامهم وتطلعاتهم.
ويبقى المشهد الأكثر تعبيراً عن خيارات صناع المسلسل هو مشهد رقص السيدات الثلاث معاً ليلة عيد الحب، في صورة تستدعي لقطة مشابهة في "خلي بالك من زيزي" حين رقصت الشقيقتان (صفاء الطوخي وسلوى محمد علي) وابنتاهما (أمينة خليل ونهى عابدين) على أنغام خوليو إغلاسياس.
قد تبدو تفصيلة كليشيهية، لكنها تظل خياراً محبباً لدى صناع العملين للاحتفاء بالحياة واستمراريتها.
كامل العدد: العمر لا يقاس بالسنوات
لم يكن من المسلسلات اللافتة قبل انطلاق الموسم، ولكن "كامل العدد" استطاع جذب كثيرين مع مرور الحلقات وانخراطه في موضوعه المقتبس عن فيلم "عالم عيال عيال".
يقدم المخرج خالد الحلفاوي والكاتبتان رنا أبو الريش ويسر طاهر عملًا ينتمي إلى الكوميديا الرومانسية إذ يحفل بلحظات من البهجة والحميمية والدفء بين شخصياته المنتمية لأجيال مختلفة.
نحن أمام حكاية زواج رجل وامرأة، لدى كل منهما عدد من الأطفال، وفي خلال سعيهما لتكوين أسرة واحدة نشهد صراعات كثيرة بين الأبناء والآباء والأجداد، بمعالجة عصرية تتطرق إلى قضايا مختلفة دون تعمق مثل التجسس الإلكتروني والتنمر.
بنت الكاتبتان عالماً ثرياً في تفاصيله، لكل شخصية فيه حكايتها الخاصة، ويحتل كبار السن مكانة مميزة بداخله. يفتتح المسلسل أحداثه على شخصية حياة (إسعاد يونس) الجالسة أمام المرأة تتأمل دبيب العمر على ملامحها، محاطة بصور وملابس تعود لزمن فات، حلمت فيه بالنجومية لكن خابت آمالها. تعيش في أوهام مجد لم يتحقق، وتمارس وصايتها على المحيطين بها، يجبرها الواقع على الخروج من فقاعة الأوهام مع عودة أحفادها من أمريكا، ثم مرور زواجها بأزمة.
تجد نفسها في مواجهة الحقيقة، وعندها تتمكن من العودة للأضواء، ولو بشكل مؤقت، على مسرح مدرسة حفيدتها، حيث تمارس ما تحب وتغتنم لحظة سعادة حقيقية بعيداً عن عداد السنوات.
رجل "رائق" يحقق حلمه في أن يعيش نمط حياة داخل مزرعته، وامرأة بعد عمرها المديد تشرع في تحقيق حلمها بأن تكون فنانة، وأخرى محبة للحياة بعد طلاقها، وتتأقلم بسهولة مع "تيك توك" و"انستغرام"... هل بات المعمرون يمتلكون فرص البدايات، والمغامرات، والتجريب؟
مد الجسور بين حكايات الأجيال ينعكس أيضاً على شخصية تيمور (أحمد كمال)، الرجل الرائق الذي يعيش في مزرعة بعيدًا عن زحام المدينة، يمارس فيها هوايته في الزراعة والاستماع بالموسيقى الشرقية مستأنساً بزيارات صديق عمره وابنتيه وأحفاده.
تتماس الشخصية في تفاصيلها مع شخصية هلال التي يؤديها أيضاً كمال في "الهرشة السابعة"، فهما نموذجان للباحثين عن حياة هادئة ونقية تتيح لهم فرصة التلذذ على مهل بمتع الدنيا بعد سنوات من اللهاث وراء العمل.
يقول أحمد كمال في أحد الحوارات: "الشخصية مكتوبة بشكل مميز واحترافي، ونادراً ما نجد كتاباً يهتمون بتفاصيل شخصيات الممثلين من كبار السن، وهذه مشكلة نعاني منها في الدراما بشكل عام، لأن المجتمع قائم على التنوع السكاني وليس حكراً على أعمار بذاتها".
يتمتع تيمور بخفة ظل وروح منطلقة تكره الواجبات الرسمية، وتمقت حضور العزاءات وزيارات المشافي التي يفرضها السن على صاحبه.
قد تبدو هذه تفصيلاً مثيراً للضحك، لكنه يعبر عن شريحة من كبار السن تواجه مشكلة في التعامل مع حقيقة الموت، وتعجز عن تقبل خسارة الأحباء واحداً تلو الآخر، ولأن تيمور متشبث بالحياة، ويؤمن أن ما زال في العمر بقية للتجريب والاستكشاف كما يقول في حديثه مع حفيدته، يختبر الحب من جديد ويخوض مغامرات كي يثير إعجاب حبيبته فاتن (ألفت إمام).
وكما وضعتنا الأحداث في بدايتها داخل حكاية حياة، تنتهي بحفل زفاف تيمور وحبيبته محاطين بالأبناء والأحفاد. فالكبار هما البداية والنهاية ومن خلالهم نبحر في هذا العالم.
لكن في مقابل طاقة تيمور الإيجابية، لدينا صديقه مجدي الذي يقحم سيرة الموت في أي حديث مهما كان. حرص صناع المسلسل على ترسيخ هذه الفكرة على امتداد الأحداث لكونها نقطة خلافية مضحكة بين الصديقين، بالإضافة إلى أنها تعبر بشكل صادق عن طبيعة شخصية مجدي. فهو رجل مسن لم يتزوج، عاش وحيدًا مع قططه، ومع تقدمه في العمر استسلم لليأس وبات ينتظر الموت خائفًا ألا ينتبه أحد لرحيله.
بشكل عام، يقدم المسلسل نماذج وتنويعات مختلفة لحيوات كبار السن على مدار حلقاته، فيتعرض لأمراض الشيخوخة، والمراهقة المتأخرة التي تهدد العلاقات الزوجية، ونظرة المسن لنفسه وللعالم من حوله. ويمر كذلك على مواضيع مهمة ببساطة دون افتعال أو ابتعاد عن قصته الأساسية.
يتشابه "الهرشة السابعة" و"كامل العدد" في تجنبهما للظروف الاقتصادية المؤثرة على واقع المسنين، والتركيز فقط على الجوانب الاجتماعية والنفسية، الأمر الذي يؤثر بدرجة ما على التماهي معهما. ويتشاركان أيضًا في تناولهما الإيجابي لكبار السن على الشاشة، وصياغتهما حكايات تحاول التقرب من مرحلة عمرية لطالما نظرنا إليها على اعتبار أنها النهاية، رغم أن أصحابها لا يزالون قابلين للقراءة والاكتشاف.
بشكل عام، يقدم المسلسل نماذج وتنويعات مختلفة لحيوات كبار السن على مدار حلقاته، فيتعرض لأمراض الشيخوخة، والمراهقة المتأخرة التي تهدد العلاقات الزوجية، ونظرة المسن لنفسه وللعالم من حوله. ويمر كذلك على مواضيع مهمة ببساطة دون افتعال أو ابتعاد عن قصته الأساسية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...