[[audio id=91808 title=]]
ما أن دقت الساعة الثانية عشرة ليلاً، معلنةً دخولي سنّ الثلاثين، حتى بادرتني صديقتي بأسئلة من قبيل: "شو حاسس؟ شو تغيّر؟ أكيد فيه شغلات كتيرة عم تفكر فيها"، على الرغم من أني توقعت مثل هذه الأسئلة، لكني لم أستطع الإجابة حينها، واكتفيت بأني ربما صرت ناضجاً أكثر.
أؤيد الفكرة التي تقول إن العمر لا يهمّ. المهم بالنسبة لي، هو ما تفعله خلال عمرك الحالي، وألا تتوقف فيه عن تعلّم أشياء جديدة، مع القيام بأشياء تدهشك مهما كلّف الأمر. مثلاً، في عمر العشرين، كنت أقترح على أصدقائي في منتصف ليالي كانون الأول/ ديسمبر، الباردة، أن نذهب إلى مصيف صلنفة في ريف اللاذقية من دون أن نملك ما يكفي من المال، وكانت تُعدّ النقطة الأبعد والأبرد التي في الإمكان الوصول إليها بالنسبة لنا، لكنها الأكثر متعةً من دون الاكتراث لما سيحدث لاحقاً. وفي سن السابعة والعشرين اقترحت على نفسي السفر إلى شبه القارة الهندية، منتقلاً من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، المكان الأكثر دهشةً في العالم. في الثلاثين بدأت أفكر أيضاً في الذهاب إلى مكان جديد، أو الانتقال إلى حالة جديدة تصيبني بجرعات مضاعفة من الدهشة.
في الثلاثين، تصبح الرؤية أوضح، وتتكشف الغيوم بعد أن تجمّعت لسنوات طويلة كأنها هاربة من العصر المطير، ولها ثأر قديم مع سنوات عمرك الفائتة، فتعمدت أن تبللها طوال تلك المدة كلها. فجأةً، تصبح السماء أكثر زرقةً. في الثلاثين، تبتعد الطيور الصغيرة تلقائياً خوفاً على ريشها الغض من عيارات فشك التجارب التي تحملها في جعبتك، معتقدةً أنه يلزمها المزيد من ساعات الطيران لتحسب نفسها على فصيلة الطيور. هي معركتها في إثبات الهوية، فلا تعبث. هذا فيما تقترب الغزالات أكثر، إذ تراودها فكرة أنّك أصبحت صيّاداً رحيماً بعد أن أدركت هي أنك تستمتع بمشيتها أكثر من تنقّلها مسرعةً هرباً من شعيرة نيشانك.
في الثلاثين، تبدو الطرق أوسع، ومرايا السيارات أنظف. لا يزعجك شاب يقود سيارته مسرعاً، ويطلق زماميره لتفسح له المجال ويتجاوزك. فقط تبتسم بهدوء وتهمهم: "ستصل، ستصل عاجلاً أم آجلاً"، ثم ترفع صوت الموسيقى
في الثلاثين، يصير للأغاني وقع أجمل، إذ تحبّ اللحن أكثر، وتغدو الكلمات أحلى، ثم إنّك تبحث عن اسم الكاتب، وتقرأ سيرة حياته، وكم يملك من الأولاد، ومن كانت حبيبته الملهِمة لكلمات أغانيه، فتشكرها. في الثلاثين، تبدو الطرق أوسع، ومرايا السيارات أنظف. تقول إنّ الجسم الذي تراه فيها هو نفسه في الحقيقة لا أبعد أو أقرب؛ لا يزعجك شاب يقود سيارته مسرعاً، ويطلق زماميره لتفسح له المجال ويتجاوزك، ولو أن الازدحام لا يسمح بذلك. فقط تبتسم بهدوء وتهمهم: "ستصل، ستصل عاجلاً أم آجلاً"، ثم ترفع صوت الموسيقى.
في الثلاثين، يهمّك نوع الخشب في العود، كما اهتمامك بعيارات الوتر، وتخطط لاكتساب القدرة على التمييز بين المقامات، حتى أنك تبحث عن اسم العود في الإنكليزية وتجده نفسه. يا للأصالة! "سأورث ولدي هذا السحر"، تقول لنفسك وأنت تنظر في المرآة، حيث لا مجال لإحصاء عدد الشعرات التي تحلّت بلون فضّي يتداخل مع شرايينك، فتصير جوهرةً نادرةً يعرف اسمها تجار المجوهرات، وقيمتها حبيبتك الأولى.
في الثلاثين، يصيبك هدوء فريد، لا يعلم خبراء الجيولوجيا كلهم أي بركان خامد يستريح في أحشائك، بعد أن صرت تلتزم بالمزيد من الصمت، ولا متنبِّئو الأرصاد الجوية متى تهبّ رياحك، ومتى يتعب ستار النافذة المفتوحة من الرقص. لا تكترث لكل مدّعي الوطنية وترَّهات السياسيين. تتفقد علبة السجائر وتنظف المنفضة، ثم تجلس لتستقبل تصريحاتهم من دون أن تزداد شدة الضغط على أعقاب السجائر عند إطفائها.
برغم أنّها تكبر في العمر معك، إلا أنّك في الثلاثين تقترب من عمر والدتك عاماً إضافياً، وتعطي اهتماماً أكبر لوجع رأسها، حين تفوتها قيلولة بعد الظهر، وتراجع كل الكلمات التي قالتها خلال حياتك، ثم تقرر إهداءها أغنيةً كانت قد غنّتها لك حين أصابتك حرارة شديدة في الليل، قبل عشرين عاماً.
في الثلاثين، تميّز الكحل الذي نُقِشَ مع ابتسامة، من الذي وُضِع على عجل ومالَ. لا تهمّ درجة لون الحمرة أو طعمها، "الغلاس بتكفّي وبتوفّي"، ثم تضرب بكفك على جبينك قائلاً: "السرّ في الشفاه نفسها أيها الأحمق"
في الثلاثين، يرتدي معنى الانتصار حلّةً جديدةً. كل المعارك التي قرأت عنها، في ملحمة جلجامش حيث "إنكيدو" لا يتوجه لنزال أحد، ويقرر معاشرة المزيد من الجميلات، أما "فياسا" فيكتفي بتأمل الحسناء عكس ما جاء في ملحمة المهابهاراتا، من دون أن يتزوجها، وينجب منها مؤسس الحكمة والملك في بلاد الهند، بالتأكيد كانت لدى القدر خيارات بديلة لتأسيس تلك الحكمة. لذلك تقرر الانتصار على شيء واحد هو أنت، بعيداً عن أي أذى تستطيع إلحاقه بشخص مسيء، وتنقض قانون نيوتن الثالث: "لكل فعل رد فعل يساويه في الشدة ويعاكسه في الاتجاه".
لا يتحول الحب إلى معنى آخر في الثلاثين. التغيّر الوحيد أنّك لا تسعى إلى ارتشافه دفعةً واحدةً بعد أن سال من الفردوس قاصداً روحك الظمأى، فلا تسكر دقيقةً ولا تموت دهراً، وتبقى كما أنت برغبة أكبر في العناق الطويل الذي لا يُعرَف فيه من يُعانق الآخر، وتُقبِّلها على جبينها فيزهر اللوز من خدّيها، وينبت العشب من بين أصابعها، وتزداد حلاوة المانغو في أماكن أخرى.
في الثلاثين، تميّز الكحل الذي نُقِشَ مع ابتسامة، من الذي وُضِع على عجل ومالَ كقطعٍ ناقص يتناهى مع رسمة الحاجب إلى ثقب أسود يبتلع كل مغازليه. لا تهمّ درجة لون الحمرة أو طعمها، "الغلاس بتكفّي وبتوفّي"، ثم تضرب بكفك على جبينك قائلاً: "السرّ في الشفاه نفسها أيها الأحمق"، وتشتم كل القمصان البيضاء التي ارتديتها.
في الثلاثين، لا تجد مغريات في الفتيات أكثر من الرائحة. الجميلات يتعطرن، ويضعن كحلاً فقط؛ يتقنّ تشكيل الجدائل، ويصبح طوق العنق أهم من حجم النهدين، والغمزات أهم من لون العينين، والمشية أهم من نحول الخصر، والأغنية أجمل من كل كلمات الغزل. في الثلاثين، تكتب أسماء من أعطوك المحبّة الخالصة على ورقة، وتضعها تحت وسادتك لتنام مطمئناً، لا يوقظك بعدها أيٌّ ممن أعطيتهم ثقتك ولم يبادلوك إياها. ممتلئ أنت بالمحبة، ولا مكان لسواها فيك.
في الثلاثين، تملك خياراً بين أن تعود عشر سنوات إلى الوراء، أو أن تتقدم عشراً إلى الأمام، فتختار عمرك نفسه، وترتّب الكتب بحسب سماكتها لتحمل ما سيتكدس فوقها من أوراق خططت عليها ماذا ستصير لاحقاً، فتصبح الطاولة أرتب والخطط أقل تعقيداً. وحدها أمامك ملاحظة بالخط العريض ممهورة باسمك الكامل وتوقيعك، كما على جواز السفر: "أريد أن أبقى هادئاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.