في رمضان الفائت، اصطحبت أماني محمد ابنتيها لتمارينهما الرياضية. كانت درجات الحرارة في ذلك اليوم مرتفعة جداً. جلست في مواجهة الشمس عدة ساعات خلال تمرين ابنتها الكبرى على كرة السلة، وابنتها الصغرى على السباحة. حاولت مقاومة التعب، ولاحظت والدة صديقة ابنتها ما تقاومه فاصطحبتها إلى بيت أسرتها القريب من النادي. ما إن وصلت أماني حتى انهارت، فاصطحبتها والدتها وشقيقتها لمشفى قريب إذ كان ضغط دمها مرتفعاً (200/150)، فقرر الطبيب إعطاءها أقراصاً ولاصقة طبية على الصدر لخفض ضغط الدم إلى المعدل الطبيعي، إلا أنها رفضت الإفطار، فلم يتبق على أذان المغرب سوى بضع دقائق.
على الرغم من وجود الرخصة الإلهية بالإفطار في نهار رمضان للمسافر والمريض وكبار السن وغيرهم، هناك كثيرون، مثل أماني، يرفضون الأخذ بتلك الرخصة، وإن سبب ذلك ضرراً لصحتهم. بينهم من يعتبر الصوم رياضة روحية يسعى للحفاظ عليها، وفريق آخر يرى أن الله يُجازيه فيساعده على تحمل مشقة الصيام، وفريق ثالث يلجأ للنوم تقليصاً لساعات الصوم.
يقول الدكتور أحمد ممدوح، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، إنه يجوز الإفطار للمسافر في رمضان الذي تزيد مسافة سفره عن 85 كيلومتراً وكانت مدة مكوثه في الوجهة التي يتوجه إليها ثلاثة أيام غير يومي الدخول والخروج، مستنداً إلى قول الله تعالى "فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فيما أوضح الشيخ أحمد وسام، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن الله أجاز للمريض أن يفطر في رمضان وإذا كان المرض عارضاً فيقضي ما عليه من أيام بعد انتهاء الشهر، أما إذا كان المرض مزمناً فعليه كفارة مالية، موضحاً أنه في حالة ثبوت تعرض صحته للخطر بسبب الصيام يجب عليه الإفطار.
رياضة روحية
لم تقبل أماني محمد الإفطار طوال مرضها بارتفاع ضغط الدم خلال تسع سنوات. كانت البداية مع حملها في ابنتها الصغرى، أمرها الطبيب بالإفطار حفاظاً على صحتها، خاصة مع تضاعف المشقة بالمرض والحمل، لكنها أصرت على إكمال الصيام وإن تعرضت للخطر، وهو ما حدث معها بعد سنوات كما في الواقعة التي بدأنا بها هذا التقرير، تقول محمد لرصيف22 إنها تربت على الصيام منذ صغرها وتعلقت روحها به فباتت ترفض التنازل عنه.
تسعى أماني لضبط ضغط الدم طوال الفترة السابقة لرمضان فتلتزم بتناول أدويتها، وتحرص على تجهيز الجسم بصيام أيام متقطعة قبل حلول الشهر الكريم، توضح أن الصيام لم يعد مُرهقاً بالنسبة لها، وأن رفضها للإفطار لا علاقة له بالنظرة المجتمعية، فيمكنها أن تفطر قبل الخروج من البيت إذا أرادت ذلك، مضيفةً أن المرة الوحيدة التي انصاعت لأوامر الطبيب وفطرت قبل أذان المغرب بساعة إلا ربعاً، كانت في رمضان الماضي لخطورة الموقف حين ارتفع ضغط الدم لـ200/150 ولم ترغب في الإفطار. لكن الأسرة أجبرتها عليه حفاظاً على صحتها قائلة: "كان في خاطري حينها أن الدقائق المتبقية لن تضر ولم أقصد الإلقاء بنفسي إلى التهلكة".
الخوف من النظرة المجتمعية ومراعاة مشاعر الصائم شعاران يرفضهما عادل، فيقول: "نصوم بمحض إرادتنا، ونتحمل مشقة الصيام"، موضحاً أنه لا يهتم بما قد يُقال عنه في حالة إفطاره، وإذا أصيب بالتعب فلا يُحرج من تناول الطعام وسط من يعلمون بحالته
تختلف رؤية عادل عمر، 33 سنة، وهو مريض بالنوع الأول من مرض السكري، يعتبر الصيام "رياضة روحية" يحرص على ممارستها رغم إصابته بالسكري منذ 10 سنوات، وتناوله جرعات الأنسولين بانتظام، فضلاً عن نصيحة أحد الأطباء بوجوب الإفطار. يقول لرصيف22 إن الصيام هو الفريضة الوحيدة التي يؤديها حُباً، لذلك يحرص عليها ولا يُفطر إلا في حالة إصابته بهبوط (انخفاض حاد في مستوى السكر في الدم)، موضحاً أنه إذا طالت مدة الهبوط أكثر من ساعة يكون عرضة للوفاة.
تكمن خطورة الصيام على عمر في كونه أكثر عرضة من غيره لاعتلال الكلى، فليس من المفترض أن يبقى لساعات الصيام التي تقارب 16 ساعة من دون تناول المياه، موضحاً أنه تابع خلال سنوات مرضه مع أكثر من طبيب، أحدهم أمره بوجوب الإفطار حفاظاً على صحته، فلجأ لتغيير نظامه اليومي: يسهر للعاشرة صباحاً ثم ينام حتى قبل الإفطار بساعة أو اثنتين في محاولة للتحايل على عطشه، مضيفاً أن عمله الحُر يوفر له مرونة العمل ليلاً أو نهاراً، لكنه أحياناً يضطر للسفر في النهار. رغم ذلك لا يقبل على خطوة الإفطار إلا في حالة الهبوط.
الخوف من النظرة المجتمعية ومراعاة مشاعر الصائم شعاران يرفضهما عادل، فيقول: "نصوم بمحض إرادتنا، ونتحمل مشقة الصيام ونتائج ما قررناه"، موضحاً أنه لا يهتم بما قد يُقال عنه في حالة إفطاره، وإذا أصيب بالتعب واضطر للإفطار فلا يُحرج من تناول الطعام وسط من يعلمون بحالته.
يرفض محمد إضاعة فرصة الفوز بلذة الصوم وعيش طقوس رمضان كما اعتادها منذ طفولته، ويعلم جيداً أن الله منح المريض رخصة الإفطار تجنباً للمشقة لكنه "يستحي من تطبيقها" ليس خوفاً من نظرة مجتمعية، بل لأن "الأمر كله نابع من وازع ديني وأخلاقي"
النوم في مواجهة المرض
في رمضان 2019، اكتشف محمد محمد، 48 سنة، إصابته بمرض السكري، واشتد تأثيره فنحل عوده وضعفت قوته، إذ ذاك ألزمه الطبيب بالإفطار طوال الشهر لخطورة الصيام على جسده الذي لم يستوعب الإصابة بالمرض. لكنه بعد مرور 15 يوماً قضاها منزعجاً وفاقداً الإحساس بلذة الشهر المحبب لقلبه رفض تنفيذ أوامر الطبيب ليعاود الصوم محاولاً اللجوء للنوم والراحة تجنباً للمخاطر.
يرفض محمد إضاعة فرصة الفوز بلذة الصوم وعيش طقوس رمضان كما اعتادها منذ طفولته، ولا يقبل عقله التفريط في أيام يمكن ألا تتكرر مرة أخرى، يقول لرصيف22 إنه يعلم جيداً أن الله منح المريض رخصة الإفطار تجنباً للمشقة لكنه "يستحي من تطبيقها" ليس خوفاً من نظرة مجتمعية، بل لأن "الأمر كله نابع من وازع ديني وأخلاقي".
العطش والجوع بدرجة أكبر من التي يشعر بها الأصحاء هما اللذان يواجهان محمد خلال الصوم، فيعمل على ترتيب أوراقه تجنبا للإفطار. يوضح أن عمله كمحام يستوجب العمل نهاراً وفي وقت مبكر، فالمؤسسات الحكومية، بينها المحاكم، قد تؤخر العمل ساعة في نهار رمضان، فيلجأ حينها لإجراء العمل الإداري في يوم أو يومين، إلا أنه يضطر لحضور الجلسات المُحددة لارتباطها بمواعيد إلزامية، فيما يكون النوم الحل الأمثل بين صلاة العصر والمغرب، مضيفاً: "لو اضطريت أنام اليوم كله وأصحى لتأدية فرض الصلاة وأنام تاني تجنباً للإفطار حعمل ده".
بين الكابينة والمسافرين
واحد وثلاثون عاماً قضاها حسن محمد، كابتن الطيران في مهنته. يعمل طوال العام، فلا يختلف الأمر في رمضان عن غيره من الشهور. رغم تغير المواقيت وصعوبة الصوم وتوافر شروط جواز الإفطار من بُعد المسافة وغيرها، يرفض حسن استخدام تلك الرخصة، خاصة لصعوبة قضاء تلك الأيام في غير رمضان لأن طبيعة العمل واحدة، مؤكداً أن "الهمة والحالة العامة" تُشجعانه على الصيام ما دام لا يؤثر ذلك على تركيزه أو طاقته في العمل.
تبلغ ساعات الصيام في بعض الأحيان 24 ساعة لدى سفره للغرب كالولايات المتحدة الأمريكية، فلا يلجأ للإفطار إلا في حالة تأثير الصيام على العمل، يقول لرصيف22 إنه في إحدى الرحالات تحرك من القاهرة في التاسعة صباحاً وكان المغرب في الدولة المتجه إليها في شمال أوروبا في التاسعة مساءً، فأتم صيامه. موضحاً أنه يأخذ بقوله تعالى: "وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" (البقرة – 184). ومضيفاً أن حرصه على إتمام الفريضة "نابع من وازع ديني فقط، فكثير من العاملين معي والمسافرين يلجأون للإفطار وهو ما يلغي فكرة التخوف من النظرة المجتمعية".
يختلف الأمر قليلاً مع إبراهيم عبدالفتاح، 52 عاماً، مُهندس يُسافر للعمل في العراق وليبيا وأذربيجان والسعودية وغيرها. يتنقل كل عدة أعوام لمنطقة ذات طبيعة تختلف عما اعتاده من طقس في بلاده، يُصادف سفره في بعض الأحيان في شهر رمضان، إلا أنه لم يلجأ لرخصة الإفطار سوى مرة واحدة كاد يفقد فيها حياته في صحراء ليبيا.
يروي إبراهيم تفاصيل رحلته من طرابلس لمدينة أوباري، موضحاً أنه تحرك للسفر بعد صلاة الفجر ولم يتمكن من تناول وجبة السحور. استغرقت الرحلة نحو 10 ساعات في درجة حرارة 45 وهو ما أصابه بالإجهاد، إذ فقد مقاومته بعد صلاة العصر فاضطر لشرب المياه دون تناول الطعام
ست ساعات تستغرقها رحلته من بلد الإقامة الحالي لمدينته الأم في مصر، ثلاث منها في الطائرة ومثلها في سيارة مكيفة من القاهرة للإسكندرية، وهو ما يوفر له جواً ملائماً ومُريحاً لإتمام صيامه من دون جهد كبير. يقول لرصيف22 إن الأمر يعتمد على اعتياد الصيام منذ الصغر والالتزام به وهو ما يقوي الإرادة ويُعين عليه دون كلل.
الرحلات البرية هي الأكثر صعوبة في الصيام، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة، يروي إبراهيم تفاصيل رحلته من العاصمة الليبية طرابلس لمدينة أوباري جنوب ليبيا، موضحاً أنه تحرك للسفر بعد صلاة الفجر ولم يتمكن من تناول وجبة السحور، وقد استغرقت الرحلة نحو 10 ساعات في درجة حرارة 45 وهو ما أصابه بالإجهاد، إذ فقد مقاومته بعد صلاة العصر فاضطر لشرب المياه دون تناول الطعام.
في مايو/أيار 2019 كانت الرحلة الأولى لآية خلف بهدف العمل كأستاذة زائرة في جامعة الأخوين بمدينة إفران المغربية لتدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، تزامن سفرها مع شهر رمضان، كان موعد الطائرة في السابعة مساءً، أي بعد أذان المغرب بدقائق، لكنها جاءت من رحلة أخرى من مدينتها الإسكندرية للقاهرة حيث تستقل الطائرة من مطار القاهرة، فقررت أن تختبر إرادتها في إتمام الصيام.
تقول خلف لرصيف22 إن رحلة المغرب سبقتها رحلات أخرى من الإسكندرية للقاهرة لإتمام أوراق السفر والحصول على "التأشيرة" كانت جميعها في رمضان، تتحرك من الإسكندرية في الصباح الباكر وتعود إليها في موعد الإفطار، ولم تفكر في اللجوء لرخصة الإفطار رغم مشقة اليوم، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة في شهر مايو/أيار.
لم تكن رحلتها مباشرة لمدينة إفران، فاضطرت للبقاء في مطار كازابلانكا حتى وصول السيارة المخصصة لنقلها، ورغم علمها بأن موعود الوصول لإفران سيكون بعد أذان الفجر وأنها لن تتمكن من تناول وجبة سحور جيدة تُعينها على الصيام، قررت الاستمرار في التجربة لاختبار مدى قدرتها على التحمل، موضحة أن كون الأمر اختيارياً حفزها على إتمام الصيام برغم مشقة الرحلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع