تنقّل محمد صالح (45 سنة)، خلال السنوات الأخيرة، من عمل إلى آخر، من دون أن يتمكن من الثبات في أي من الأعمال تلك، بسبب ظروف الحرب وتداعياتها، إذ فُصل من مهنته الأولى سائق شاحنة في شركة المرجان المصدّرة للأسماك إلى السعودية، في بداية نشوب الحرب ووصولها إلى محافظته الحديدة، غرب اليمن.
يحكي لرصيف22 أنه عمل سائقاً لفترة طويلة في تلك الشركة التي أوقفت مؤقتاً أعمالها، مع بدء التدخل السعودي العسكري في اليمن، في آذار/ مارس 2015. ورغم أنها عاودت نشاطها، إلا أن ذلك لم يدُم طويلاً، إذ إن ظروف الحرب تسببت في إفلاسها لتغلق أبوابها نهائياً في تشرين الثاني/ نوفمبر 2015، ويصبح هو والعشرات غيره من موظفيها، عاطلين عن العمل.
مدّخراته لم تصمد طويلاً في تأمين متطلبات أسرته البالغ عدد أفرادها تسعة، فعمل في ربيع العام 2016 في مطعم شعبي في الحديدة، مقابل 45 ألف ريال شهرياً (82 دولاراً تقريباً)، بالإضافة إلى وجبة طعام يومية واحدة لأسرته.
بعدها بأشهر، ضمّ ابنه البكر إليه ليعمل معه في المطعم في غسل الأطباق، منهياً بذلك مشواره الدراسي الذي توقف عند الصف التاسع الأساسي: "كان علينا فعل ذلك لكي نحسّن وضعنا الاقتصادي، فالظروف في البلاد كانت سيئةً جداً".
في مطلع العام 2020، أغلق المطعم أبوابه وسرّح العاملين فيه، ومن بينهم محمد صالح ونجله، بسبب أزمة المشتقات النفطية، إثر احتجاز السفن النفطية في عرض البحر من قبل التحالف العربي بقيادة السعودية، وفقاً لمحمد صالح.
ويتابع: "أسطوانة الغاز كانت تباع قبل احتجاز السفن بستة آلاف ريال، وصار سعرها بعد ذلك 25 ألف ريال في السوق السوداء".
يعقد ذراعيه على صدره، ويقول بشيء من الحزن: "ساءت معيشتنا كثيراً، وأطفالي الصغار كانوا يذهبون إلى المدارس بلا مصروف ولا أكل، لهذا توجّب عليّ البحث عن عمل جديد".
في شهر تموز/ يوليو 2020، عثر محمد صالح على عمل آخر، حمّالاً في سوق الخضار والفاكهة، بأجر يومي لا يتجاوز الـ1،500 ريال (ثلاثة دولارات). وحتى هذا الأجر الزهيد صعب المنال في الأيام التي لا يجد فيها ما يحمله، حسبما يقول.
ترتسم على وجهه ابتسامة، ثم سرعان ما تختفي، ويقول: "في بعض الأيام أعود خاوي اليدين، مكسور الخاطر، بسبب عدم وجود عمل، وأصحاب الدكاكين يرفضون بيعي بالدين بسبب تراكم الديون عليّ. كثيراً ما قضينا أنا وزوجتي وأبنائي أياماً نصارع فيها الجوع".
الحرب هي السبب
قد يكون محمد صالح محظوظاً في إيجاده عملاً متدنّي الأجر، قياساً بمئات الآلاف من اليمنيين الذين لا يمكنهم العثور على أعمال. ووفقاً لليونيسيف، يحتاج 21 مليون شخص في اليمن إلى مساعدة إنسانية، بينهم 11 مليون طفلٍ، وتسببت الحرب المندلعة منذ العام 2015 بنزوح 4.5 ملايين شخص داخلياً، ونتج عنها كذلك ارتفاع كبير في معدلات البطالة وشيوع الفقر في البلاد.
وتشير تقارير دولية إلى ارتفاع مستوى البطالة في اليمن إلى نحو 60%، وهي النسبة الأعلى في المنطقة العربية التي بلغ فيها معدل البطالة أكثر من 12% في السنوات الأخيرة، حتى عدّها البنك الدولي من أفقر البلدان في العالم، وأقلها نمواً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وأشار تقرير نُشر على موقع البنك الدولي بالنسخة العربية إلى أنه "وعلى الرغم من الإصلاحات الحكومية الرامية إلى تحقيق استقرار الريال اليمني، استمر انخفاض سعر الصرف في عام 2022، إلى أدنى مستوياته التاريخية، مما أدى إلى زيادات كبيرة في أسعار المواد الغذائية ودفع المزيد من الناس للسقوط في براثن الفقر المدقع".
تفاقُم الحرب أدى إلى توقّف رواتب موظفي القطاع العام في العام 2016، في الجزء اليمني المسيطَر عليه من قبل جماعة أنصار الحوثي، بعد نقل البنك المركزي من صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن، حيث الحكومة المعترف بها دولياً.
وسرعان ما تسبب ذلك في أزمة اقتصادية كبيرة ما زالت قائمةً حتى اليوم، إذ أصبحت القوة الشرائية في أدنى معدلاتها، ووجد مئات الآلاف أنفسهم عاطلين عن العمل ويتزاحمون للحصول على الأعمال الخاصة التي أصبحت شحيحةً بدورها.
"في بعض الأيام أعود خاوي اليدين، مكسور الخاطر، بسبب عدم وجود عمل، وأصحاب الدكاكين يرفضون بيعي بالدين بسبب تراكم الديون عليّ. كثيراً ما قضينا أنا وزوجتي وأبنائي أياماً نصارع فيها الجوع"
عمر سالم (55 سنة)، من محافظة الحديدة، اختبر ذلك كله، وراح يعدد لرصيف22 الأعمال التي تنقّل بينها منذ بدء الحرب: "نجّار بناء، فسبّاك، ثم في صناعة المعجنات في مخبز". يصمت قليلاً ثم يضيف بأسى: "المخبز كان آخر مكان عملت فيه في الحديدة، فقد أغلق أبوابه في منتصف العام 2021، بسبب ارتفاع سعر القمح والسكر وعدم توافر الوقود، وأنا عاطل عن العمل منذ ذلك الوقت".
ويرى عمر أن سكان محافظة الحديدة هم الأكثر تضرراً من الحرب، وقد أُجبروا بغالبيتهم على الرحيل إلى محافظات أخرى مجاورة، لكنهم وبسبب تدني المستوى التعليمي، وعدم امتلاكهم الخبرات والمؤهلات الوظيفية الكافية، "يعملون في الغالب في مجال جمع الخردوات أو في ورش تصليح السيارات وما شابه".
الباقون في الحديدة يعيشون تحت وطأة الظرف الاقتصادي الصعب، وتظهر علامات ذلك بوضوح لدى مقبول محمد (35 سنة) الذي يمتلك محلاً صغيراً لبيع المواد الغذائية في حي "الصبالية". يقول لرصيف22 إن "القدرة الشرائية لدى الناس ضعُفت كثيراً، وصاروا يستدينون من دون أن يتمكّنوا من أداء الديون المترتبة عليهم، وتالياً لم أعد أحقق أرباحاً تُذكر، وهذا يحدث أيضاً لتاجر الجملة، فإذا لم أبِع أنا، هو لن يبيع بطبيعة الحال".
أما رمزي الدبعي (40 سنة)، فقد كان يمتلك سلسلة مطاعم شعبية في مختلف مناطق محافظة الحديدة، ولم يستطع مواجهة تأثير الحرب، فاضطر إلى إغلاق مطعمَين منها يقعان في مديرية "حيس"، غرب الحديدة، والتي شهدت معارك عسكرية ضارية وفقاً لما يقوله لرصيف22.
وبعد مرور سنتين، وتحديداً في العام 2017، أغلق فرعاً آخر في سوق الصبالية: "كنت أغلقه بشكل متقطع عندما تحدث أزمة مشتقات نفطية، لكونها تُستورَد من دول أخرى عبر البحر الأحمر، وقوات التحالف احتجزت السفن التي تنقلها لأشهر في عرض البحر".
ويلفت إلى أن سعر أسطوانة الغاز في السوق السوداء وصل إلى أكثر من 25 ألف ريال (46 دولاراً)، واستمر هذا الوضع حتى العام 2020، ما اضطره إلى الاستغناء عن بعض العاملين لديه، إلى أن سرّحهم جميعهم في بداية العام 2022، بسبب اشتداد أزمة الغاز واختفائه تماماً.
يقول وهو يشبك أصابع يديه ببعضها: "الوضع ضغط علينا بشدة، وغالبية أصحاب الأعمال توقفوا مثلي عن العمل لأنه لم يعد مجدياً، فأنا إنْ اشتريت فقط أسطوانة الغاز بخمسين وستين ألف ريال، فبكم أبيع الطعام؟ ومن سيشتري مني؟".
سوء إدارة الموارد
الخبير الاقتصادي أحمد الشماخ يقول لرصيف22 إن اليمن يمتلك الكثير من الموارد الطبيعية التي يمكن مع الاستثمار الجيد أن تدفع البلاد اقتصادياً نحو الأمام، وتالياً تحسين الوضع المعيشي للفرد.
لكن ما وقف حائلاً دون ذلك، حسب وجهة نظره، هو سوء إدارة هذه الموارد، والحروب ومعاركها التي استهدفت كل ما هو جميل في اليمن من آثار ومعالم حضارية وأراضٍ زراعية وبنية تحتية من مستشفيات ومنشآت صناعية خاصة بالغذاء، فضلاً عن حصار بري وجوي وبحري فُرض من طرفي الصراع، مما أدى إلى "حرمان 90% من اليمنيين من الحصول على لقمة العيش اليومية والدواء والتعليم والوقود".
في اليمن حالياً طبقتان اجتماعيتان، الأولى متدنية فقيرة تشكّل الأغلبية الساحقة (85%)، والثانية عليا غنية، ولم تعد هنالك طبقة وسطى بسبب الحرب وتداعياتها على الوضع الاقتصادي
ويعيب الشماخ على الحكومات اليمنية المتعاقبة وضعها سياسات وصفها بالرخوة، كانت لها "تبعات وانعكاسات سلبية وكارثية خطيرة سواء على الصعيد الاقتصادي أو الحياتي بنحو عام، والتي جعلت من النهوضين الاقتصادي والاجتماعي أمراً غايةً في الصعوبة".
ويعتقد الخبير الاقتصادي أن في اليمن حالياً طبقتين اجتماعيتين، الأولى متدنية فقيرة تشكّل الأغلبية الساحقة (85%)، والثانية عليا غنية، ولم تعد هنالك وفقاً لتصوّره طبقة وسطى بسبب الحرب وتداعياتها على الوضع الاقتصادي.
ويتهم الشماخ المنظمات الدولية بأنها لم تعمل بالمهنية التي عُرفت بها في بلدان أخرى من العالم، ويرى أن مساعداتها لليمنيين اقتصرت على بعض الاحتياجات وفي مناطق معينة، و"لم تستطِع الوصول إلى الأرياف والمناطق البعيدة، وهذا أدى إلى كوارث إنسانية".
ويشترط لتجاوز ذلك كله وضع الدولة إستراتيجيات وبرامج وخططاً طويلة الأمد وأخرى قصيرة الأمد، من أجل "تحسين هذا الوضع الإنساني الكارثي وزيادة الإنتاج واختيار المشاريع ذات الكثافة العمالية لاستيعاب البطالة التي وصلت نسبتها تقريباً إلى أكثر من 80%".
وقبل ذلك كله، يجد الخبير الاقتصادي أن على المجتمع الدولي العمل على وقف الحرب، و"إحلال السلام في أسرع وقت ممكن، لا المطالبة بالهدنة فقط، لأن هذا يؤدي إلى موت الكثير من اليمنيين".
نصف راتب كل ستة أشهر
"أسرتي كانت ستموت جوعاً لو لم أفتش عن عمل آخر". هذا ما يقوله حسن الأحمدي، وهو اسم مستعار لمدّرس لمادة الكيمياء في واحدة من مدارس محافظة الحديدة الثانوية. يوضح لرصيف22 أنه "بعد توقف الرواتب الشهرية بسبب الحرب، في العام 2016، اضطررت مرغماً مثل أغلب زملائي إلى التوجه والبحث عن أعمال أخرى، لتوفير القوت اليومي لأسرنا، مع أن ذلك كان صعباً جداً عليّ، لإدراكي بأن المتضرر الأكبر هم الطلاب".
عمل حسن في العام 2016 بنّاءً، وبأجر يومي وصفه بالزهيد، إذ لم يكن يتجاوز ألفي ريال (أربعة دولارات)، وكان يعمل يوماً ويمكث عاطلاً أياماً عدة، إلى أن سافر في العام 2019 إلى العاصمة صنعاء ليعمل حارساً أمنياً هناك في دائرة رسمية.
وبسبب عدم انتظامه في الدوام التدريسي، سُجّل منقطعاً بنحو نهائي وفُصل، ما حرمه من نصف راتب شهري، مُنح لاحقاً للمدرّسين، وبنحو متراكم كل ستة أشهر. قام بمحاولات عديدة لاستعادة وظيفته طمعاً في الحصول على ذلك، فقدّم الكثير من الطلبات واستعان بوساطات إلى أن نجحت مساعيه في العام 2021، لكن بعد تقديمه تعهداً بعدم التغيّب مرةً أخرى.
وهذا يعني وفقاً لما يقول "الاكتفاء بنصف راتب شهري لا يغني ولا يسمن، وما باليد من حيلة سوى القبول بذلك. في الأقل لديّ راتب مضمون حتى وإنْ جُمع وصُرف كل ستة أشهر، فهذا أفضل من البطالة أو العمل في مهن أخرى تستغرق طوال النهار، ولا يعرف المرء متى سيُطرد منها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...