يوميات كاتب صائم ما بين فناجين قهوة فارغة وأفكار متزاحمة ودراما تجارية رديئة.
تتهادى الساعات الأخيرة من شهر شعبان وتصطف بطيئة، تنتظر قدوم الهلال الجديد. اعتدت أن أنتظر ذلك اليوم على أريكتي أتتبع ما سوف يخبرنا به رجال الدين عن قرب حلول شهر رمضان.
وفي كل رمضان، يتخذ الشهر ملامح تتكرر كل عام، ونأمل ألا تعيد نفسها ثانية.
1- التخطيط يفشل
أُفاجأ مثل الجميع بقدوم الشهر على الرغم من معرفتي بقدومه فلكياً، وأفشل دائماً في التخطيط مسبقاً لما سوف أنجزه من كتابة. أحاول دائماً أن أجدد قائمة أحلامي، أتأمل كومة الكتب التي صففتها على المكتب، وبعض مشاريع الكتابة المؤجلة منذ زمن، أشعر بتأنيب الضمير، أقرر أن أنجزها كلها في رمضان، وهذا لا يحدث أبداً.
"هذه ليست معاناة يا عزيزي، على الأقل لديك وقت لكتابة أي شيء، إذا أردت أن ترى المعاناة الحقيقية فجرب أن تكون كاتبة أنثى في رمضان"
الشهر خارج كل الطقوس والحسابات. ممزق أنا بين رغبتي في الحصول على جرعات روحانية مكثفة، وبين إنهاء قدر أكبر من الرواية التي تطل أوراقها المبعثرة من ملف أبيض مغبر، ملقى على جانب مكتبي. أحب الكتابة بالقلم الأزرق، وإن كنت أكتب على الكمبيوتر المحمول في بعض الأحيان. أتأمل الأوراق البيضاء، أضع بضعة سطور على الصفحة الخاوية، أحاول أن أتلمس حروف الهجاء، وكأنني طفل في المرحلة الابتدائية، يكتب موضوع تعبير، لأول مرة في حياته. رأسي فارغ تماماً، لا توجد به أية أفكار.
2 - مشهد اليوم الأول
يمر ظهر أول يوم ثقيل، وتصحبه أول نوبة من اعتلال المزاج، إذ أشعر بانسحاب الكافيين من جسدي، ورغبتي العارمة في تناول فنجان من القهوة. أتأمل الفناجين الفارغة من اليوم السابق، والتي نسيتها زوجتي على المكتب. تتسلل بقايا القهوة إلى أنفي، وأنظر إلى قاع الفنجان في لذة محرمة، أحاول أن أتذكر أسماء أبطال الرواية، أو الأحداث التي كتبتها مُسبقاً، وتلك القبلة المحرمة التي كان البطل سيتذوقها من حبيبته، أغمض عيني قليلاً. أرجئ الأمر كله، وأكتب على ورقة بيضاء: اللهم إني صائم.
يداهمني الوقت في رمضان، إذا أردت أن أكتب شيئاً وجب علي الاستيقاظ في الصباح الباكر، كما اعتدت حتى أتمكن من الكتابة، كما هي العادة في الصباح الباكر، حيث القطفة الأولى للأفكار والإبداع، قطفة عسل شهية، وطازجة، وخالية من المشوشات اليومية.
ولكن تلك الطقوس تختلف كثيراً في رمضان، إذ يتعارض ذلك كثيراً مع مواعيد السحور التي توجب علي أن أظل مستيقظاً لفترات طويلة حتى ألحق صلاة الفجر، ولذلك أستيقظ متأخراً ولا أتمكن في بداية الشهر أن أنفذ برنامجي بدقة، لكنني أنتظم مع مرور الأيام.
3 - أحلام يقظة الصيام
أحلم أنني أسير في شوارع وسط البلد في القاهرة مبكراً، واضعاً كومة الأوراق والجرائد تحت إبطي، أرتدي بذلة رمادية صيفية من لون واحد، كتلك التي كانت تلبس في ثمانينيات القرن الماضي، أتنفس هواء القاهرة البارد في سعادة، وأسير واثق الخطى، وأجلس في مقهى ريش، أو جروبي، أرتشف رشفات من فنجان قهوتي المصنوعة بمحبة، استمر في كتابتي حتى الظهر، وأنهض عائداً إلى منزلي.
أحلم أني أسير في شوارع وسط البلد في الثمانينيات، أتنفس هواء القاهرة البارد، وأرشف رشفات فنجان قهوتي بمحبة... أسمع صوت زوجتي فأفيق من أحلام يقظتي، تذكّرني بكل ما علي من التزامات، تضع أمامي قائمة من الطلبات التي يجب إحضارها
أسمع صوت زوجتي فأفيق من أحلام يقظتي، تذكّرني بكل ما علي من التزامات، تضع أمامي قائمة من الطلبات التي يجب إحضارها على الإفطار، أنظر إلى مكتبي البسيط ومكتبتي المكافحة، مع صوت موسيقى مهرجانات تأتي من الشارع.
دائماً يراودني هذا النوع من أحلام اليقظة، خاصة في رمضان.
4 - سؤال كل سنة: لماذا لا تكتب مسلسلات؟
يفضل الكاتب أن يتفرغ دائماً للكتابة والإبداع، وبالطبع للقراءة التي تمده بمخزون من الأفكار، وتحفظ توازنه الإبداعي دائماً.
سلوكيات انعزالية للكاتب تتعارض مع طقوس شهر رمضان التي يفضل دائماً تجمع العائلات وتناول الطعام وشراء الاحتياجات، ومشاركة الأسرة في مشاهدة التلفاز ومراعاة الارتباط بالعمل اليومي، والتوازن بين كل ذلك يشكل ضغطاً كبيراً على الكاتب.
لك أن تتخيل معاناة كاتب الرواية والقصة في ذلك الشهر الفضيل، الذي تنحصر اهتمامات محيطه بين ولائم الطعام ووصفات الأكلات المتعددة الثقافات، والتي تقدمها قنوات الطعام المحلية والأجنبية، والتي جعلت المستهلك في لهاثٍ دائم حتى يغطي تلك الاحتياجات المكلفة.
أجلس بين الأهل في الأيام الأولى من شهر رمضان، بعد الإفطار، يتحلق الجميع حول الأعمال الدرامية، تلك المنحوتات التجارية البحتة التي صارت مقولبة وتخلو تماماً من الإبداع. سيسألني أحد جهابذة الأسرة ذلك السؤال الذي سئمت من الإجابة عليه، "لماذا لا تكتب مثل تلك المسلسلات، بدلاً من الكتابة على الأوراق التي لا نفهم منها شيئاً؟ الروايات الضخمة المملة".
قديماً كنت أرهق نفسي في الإجابة بأن "كتابة الرواية شيء وكتابة المسلسلات التجارية شيء آخر، أعرف الكثير من كتاب السيناريو، وممن يعملون في الكتابة الدرامية بحكم عملي ككاتب، لقد صارت تجارة منفصلة، ولا ترتبط بكاتب واحد، ولا تعتمد على الإبداع بل على ضخامة الإنتاج، وكثرة الكتاب، فمعظم الأعمال الآن تكتب وتصنع داخل ما يعرف بورش العمل.
لكن تلك الإجابة لن تكون مقنعة أمام طوفان الأموال المتدفقة والعروض السخية التي تقدم للكتّاب، والتي يعتبرها الذين هم من حولي، وفي المجتمع الكبير أيضاً نجاحاً خارقاً. ويقارنون سريعاً بين حالتك المادية وحالة أولئك، لذلك تعلمت أن أحتسي قهوتي في هدوء، أهز رأسي وأبتسم فقط، ثم أستأذن لضيق وقتي. "اللهم إني صائم".
وللكاتبات معاناتهن الخاصة
تساءلت هل أنا وحدي الذي يمر بتلك المتغيرات في شهر رمضان، هل يشاركني زملائي من الكتاب بعضاً من تلك المشاعر والتجارب؟
أجابتني زميلتي الروائية (م .ح.) التي تتخصص في كتابة أدب الرعب، ضاحكة: "هذه ليست معاناة يا عزيزي، على الأقل لديك وقت لكتابة أي شيء، إذا أردت أن ترى المعاناة الحقيقية فجرب أن تكون كاتبة أنثى".
تقريباً بدأت أرى، ولكنني تماديت في تصنع الجهل، وسألتها "ما الفرق؟".
ردّت: "إذا كانت الكاتبة زوجة وأُمّاً، ليس لها أي اختيار آخر سوى المطبخ، لا وقت لديها للكتابة".
لكن زميلي الكاتب (م.ع.) أخبرني أيضاً أنه لا يجد وقتاً للكتابة في رمضان، إذ تتعارض ظروف الكتابة مع عمله الرسمي في إحدى الشركات، وبالتالي يتوقف عن الكتابة في رمضان.
عدت مرة أخرى سائراً فوق كوبري قصر النيل في الصباح الباكر، أسير وأحمل أوراقي تحت إبطي، وأنا مستمتع جداً بنظرات الإعجاب من الجميع، لكن هذه المرة أيقظتني زوجتي قائلة: "قم للإفطار ، إنه أذان المغرب".
"اللهم إني صمت، وعلى رزقك أفطرت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...