في عام 2016، في مهرجان السينما العربية – الأول وربما الأخير- الذي حضره أهم نجوم السينما والدراما المصرية، أُعلن عن اسم مقدم الحفل "أحمد أمين". وجه غير معروف وقتها، وبلا أرشيف قوي كممثل أو ككوميديان، باستثناء ثلاث حلقات من برنامج تليفزيوني، لافتة فقط للعين الفضولية لما هو جديد في عالم الكوميديا، لكن لم يشاهدها أغلب الحضور بالطبع، ولم تكن قد حققت له شيئاً من الشهرة أو النجاح الاستثنائي، أو حتى أحاطت وجهه بنوع من الألفة، وهو ما قد أثار استغراب الحاضرين.
من تلك النقطة تحديداً، وجد أحمد أمين مفتتح مونولوجه المضحك: "ناس كتير بتسأل إشمعنى أحمد أمين اللي بيقدم الحفلة... لكن أنا متأكد إن ناس أكتر بتسأل: مين هو أحمد أمين أساساً؟".
كوميديا الغباء بالرغم من أنها تزداد ثقلاً وتبلّداً يوماً بعد يوم، وتخسر أرضاً كل يوم، إلا أنها ما زالت سائدة بوصفها خلطة مضمونة، منجية عند نفاد الأفكار.
بعدها بسنوات، ومن خلال أدوار لافتة ومركبة في مسلسل "ما وراء الطبيعة" الذي عرض على منصة نيتفليكس، ومسلسل "جزيرة غمام" الذي عُرض رمضان الماضي، تحول أحمد أمين من فئة الممثل المعروف نسبياً بخفّة ظله إلى نجم يعرفه الجميع.
بالعودة إلى الحفل وعن كون أحمد وجهاً غير معروف للنجوم الحاضرين، فقد تمكن عبر عرض نكتة ذكية نابعة من اختراق نقطة في رؤوسهم، من إذابة الثلج وجذب الانتباه إلى الوجه المغمور، ليحول اللعبة بعدها إلى منطقته الأثيرة، نقد ما حوله من خلال عين شخص عادي، مواطن طبقة وسطى نموذجي، لا يتفرّد عنهم بتمرّده، لكن بعينه الفاحصة النقدية لما يعيشه شخصياً، لمناطق المبالغة والزيف والتناقض التي تكوّنها الطبقات حول نفسها، واضطراره للانسياق لعادات لا يؤمن بها، لكنه يمارسها ويعرفها عن قرب، فالكوميديا وفقاً لتعريفه، هي أن ترتبط النكتة بالوجدان الجمعي لتلك الطبقة، وأن تأتي من حياتهم اليومية لتضرب وتراً ما، نوع من الكوميديا قد خلّد مضحكين، كنجيب الريحاني وعادل إمام وسمير غانم.
في الجزء الثاني من الفقرة، وفي تعليقه على إقامة مهرجان للسينما المصرية، قارنها فوراً بحفل توزيع جوائز الأوسكار، ليرد الأفلام والنجوم إلى عالمه، لأنه أيضاً عالمهم: سينما متوسطة مقارنة بالأفلام العالمية، ومن ذلك التناقض بين نوعي الأفلام، تمكّن من النجاح في فقرته، لقد لمس وجدان جمهوره الجمعي، والذي يعرف في العمق أنه راكم عشرات العلامات التي تحاكي السينما الهوليودية لإخفاء أنهم نجوم في سينما متوسطة، ليمنحهم على الأقل لحظات من التطهّر عبر الكوميديا لا المأساة.
خلال سنوات من عرض برنامج "أمين وشركاه"، بذل أمين مجهوداً كبيراً في مراكمة المادة التي تقوم على الملاحظة، اختبر مناطق النجاح والفشل، وراكم مادة هائلة قائمة على الملاحظات الاجتماعية، وطوّر أداءه مع فريق كتابة موهوب، ومع ممثلين يشبهونه، قادمين من عالم الهواة، وعندما صار نجماً لم يتنكّر لهم، بل استعان بهم في أول فرصة تأتيه لبطولة مسلسل كوميدي، وهو مسلسل "الصفارة"، الذي جمع فيه بين اللمستين: دخول أحمد أمين نفسه إلى عالم الاحتراف، وممثلين يتلمّسون مثله الطريق إلى النجومية بروح الهواة.
خلال سنوات من عرض برنامج "أمين وشركاه"، بذل أمين مجهوداً كبيراً في مراكمة المادة التي تقوم على الملاحظة، وراكم مادة هائلة قائمة على الملاحظات الاجتماعية، وطوّر أداءه مع فريق كتابة موهوب، ومع ممثلين يشبهونه
ربما يعود السبب إلى أن أحمد أمين دخل عالم التمثيل الاحترافي في سن متأخرة، بعد سنوات قضاها كموظف بعائلة وحياة عليه أن يحافظ على استقرارها، ليقلب حياته في مغامرة لا أحد يعرف عواقبها، بسلسلة فيديوهات ساخرة صوّرها من منزله بأسلوب بدائي كان أشهرها: "كيف تصبح شاعر عامية في 30 ثانية".
على عكس نسبة كبيرة من تاريخ الكوميديا المصرية القائمة على الغباء، يقدم أحمد أمين عبر مسلسله "الصفارة"، ومن قبل برنامجه "أمين وشركاه"، كوميديا قائمة على الذكاء؛ لأنها بالأساس تستند إلى ذكائه الشخصي وقوة ملاحظته، وهو أمر صعب ومغامر، فكوميديا الغباء بالرغم من أنها تزداد ثقلاً وتبلّداً يوماً بعد يوم، وتخسر أرضاً كل يوم، إلا أنها ما زالت سائدة بوصفها خلطة مضمونة، منجية عند نفاد الأفكار، حتى إن نجوماً لمعوا في بداية الألفية عرفوا بتقديم كوميديا ذكية في بدايتهم، عادوا للاستناد في الكوميديا على غباء البطل أو مرافقيه.
أمين في "الصفارة" هو نفسه أمين الذي قدم حفل مهرجان السينما العربية، لكن بنسخة أكثر تطوراً، استطاعت أن تبلور لنفسها طريقة أداء وخط واضح غير متذبذب للكوميديا.
أحمد أمين أكثر كوميديان موهوب ومضحك في مصر الآن، ما تبقى هو ألا يكتفي بذلك، وأن يدفعه القلق إلى مزيد من الكوميديا التي تفكر بعقل نشط، وألا يقع في فخ الكوميديا الكسولة
لم يكتف تلك المرة بالسخرية من علامات التناقض في نفسه، وفي الطبقة الوسطى، بل رصد أيضاً سلوكيات طبقات أخرى من موقف المندهش من غرابة سلوكهم غير النمطي بالنسبة إليه، وهي حتى وقت عرض الحلقات: مدير شركة ثري يعمل بلا هوادة، عالم مطربي المهرجانات، عالم البلطجية، عالم المدارس الإنترناشيونال بما يفرضه من سلوكيات استثنائية شديدة التزييف والتنافسية أيضاً، عالم الدون جوان الذي يصدم بالأجيال الجديدة.
لكل فئة من هؤلاء لغة مختلفة طورتها الطبقة داخل نفسها، أشبه بأكواد تفصل بين العوالم، ولا يمكن أن يفهمها إلا من يعيش داخلها. لغات تصعّب حتى من مهمة الكوميديا نفسها، أو كما رصد أحمد أمين في لقائه مع مقدم برنامج "سينماتولوجي" على يوتيوب، عن أن في الثمانينيات والتسعينيات كنا جميعاً، بحكم عدم توافر قنوات تليفزيونية باستثناء برامج القناة الأولى والثانية وغياب الإنترنت، نحمل وجداناً جمعياً كبيراً، لم يكن مفتتاً إلى عوالم منفصلة، فكانت تضحكنا فيه النكتة نفسها.
أكاد أجزم أن مشهد الأم التي لا تكتفي بمتابعة تدريب طفلها على لعبة كرة اليد، وهي تضغط عليه في كل لحظة بكل ما يليق أو ما لا يليق، حتى إنها تصرخ فيه بنصيحة مؤذية تجاه زميله: "دوس عليه"، أضحك مئات الأمهات على أنفسهن، وأغضب البعض الآخر حدّ اتهامه بثقل الظل، عندما قام بتعرية هذا السلوك الفج الذي يتجاوز التربية إلى تحطيم الطفل.
في قلب كوميديا أحمد أمين بالطبع شخص محافظ، كشأن شخص من الطبقة الوسطى، حتى إن الصفارة التي توفّر له فرصة تغيير مصيره وتمنحه سقفاً غير محدود للأحلام، ليس بإمكانها أن تتخيل النجاح إلا في كونه الانتقال من شقة ضيقة في حي شعبي إلى بيت واسع في حي منعزل بمغطس سباحة، لكن هذا تحديداً ما يساعده على تفكيك ورصد كل ما هو غريب حوله، كأنه مراقب محايد، يمكن له أن يستشعر بحساسية أقل تغيير وتناقض فيما حوله، دون أن يقع في فخ التنمّر وهو أساس ناجح للكوميديا، نجد مثله في عشرات من مسلسلات الستكوم في الغرب ومشاهير فن الستاند آب كوميدي والارتجال.
عالم قدمه من قبل عادل إمام في أفلام مثل "كراكون في الشارع"، دون أن يطور لاحقاً هذا الخط، الموظف الذي ما إن يرتكب فعلاً لم يعد استثنائياً الآن، كأن يشرب الحشيش بالصدفة – العادة التي لا تناسب موظف طبقة وسطى- حتى جعل منها نكتة تستوجب الضحك: "أنا شربت حشيش يا سعاد"، وتأتي الكوميديا من تقابله مع طبقة البلطجية في المقابر، ورصده لغريب عاداتهم، والضحك منهم ومن رد فعله تجاههم، دون الحط منهم.
أحمد أمين عبر خلطة التواضع والاحتراف وروح الهواة والامتنان القلق لتغيّر عالمه من موظف إلى نجم، هو أكثر كوميديان موهوب ومضحك في مصر الآن، ما تبقى هو ألا يكتفي بذلك، وأن يدفعه القلق إلى مزيد من الكوميديا التي تفكر بعقل نشط، وألا يقع في فخ الكوميديا الكسولة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...