كان الشهران الماضيان حافلين بكتابات كثيرة في الصحافة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي العربية؛ كتابات تناولت استعداد قناة MBC لعرض مسلسل "معاوية"، والذي يتناول سيرة معاوية بن أبي سفيان وتأسيسه الدولة الأموية، بالتزامن مع استعداد إحدى الفضائيات العراقية لإنتاج فيلم بعنوان "شجاعة أبي لؤلؤة النهاوندي"، ويتناول حياة الرجل الذي قتل الخليفة عمر بن الخطاب.
ارتفعت الأصوات التي تطالب بمنع عرض المسلسل أو إنتاج الفيلم، بحسب الموقع السياسي أو الطائفي، أو بحسب الموقعين معاً، لأصحاب تلك الأصوات ومن دون مشاهدتهم العملين، وهو تقليد عربي قديم سبق له أن منع كتباً ولاحق كتّاباً بحكم الشبهة، ومن دون الاطلاع على ما كتبوه، علماً أن المسلسل والفيلم المذكورَين لا يندرجان في الإطار عينه.
هذا المقال ليس معنياً بما استثاره العملان، ولا بتناول الصراع السني-الشيعي بقدر اهتمامه، وبشكل رئيس، بأسلوب إخراج القصص والحكايات والسيَر تلفزيونياً، وضمن محاذير محددة أو انطلاقاً من دوافع لتبييض سيرة فلان وتسويد سيرة الآخر، ودور الصورة والفيديو في كل ذلك.
تمثيل محظور، ولكن...
"أبدعت" المخيلة التلفزيونية والسينمائية في الشرق الأوسط في تجميل صور الشخصيات الإسلامية، صحابة وأئمة وتابعين، وضمن المسموح به من تمثيل لهذه الشخصية أو تلك، علماً أن أحداً لم يتجرأ حتى اللحظة على لعب دور النبي محمد، أو حتى على مجرد طرح هذا الموضوع.
هذا المقال ليس معنياً بما استثاره العملان "المنتظران"، ولا بتناول الصراع السني-الشيعي بقدر اهتمامه، وبشكل رئيس، بأسلوب إخراج القصص والحكايات والسيَر تلفزيونياً، وضمن محاذير محددة
ذاك أن منع التصوير والتمثيل لا يطال نبي الإسلام وحسب، بل كان يمتد ليشمل "الخلفاء الراشدين" أيضاً، وهو ما دأبت عليه مسلسلات وأفلام كثيرة من أشهرها فيلم "الرسالة" الذي أخرجه الراحل مصطفى العقاد. يخبرنا الفيلم المذكور، في بدايته، أنه حاز قبل عرضه على موافقة المرجعيات السنية والشيعية، وغني عن القول إن الموافقة تتضمن النص والسيرة النبوية المتعارف عليها، كما تتضمن منع تصوير الخلفاء، وحيث لا يمكن للمشاهد أن يحظى، طوال الفيلم، إلا بمشاهدة "ذي الفقار"، سيف علي بن أبي طالب، وهو يهوي على رأس الوليد بن عتبة في "معركة بدر".
وقعت تبدلات عدة على هذا المستوى في العقدين الأخيرين، ففي مسلسل "قمر بني هاشم"، صرنا أمام اختراق "تنويري" و"تقدمي" كبير تمثل في قدرة المشاهد على سماع صوت الخلفاء الأربعة، قبل أن يصبح تمثيلهم أمراً واقعاً وطبيعياً في مسلسل "عمر" الذي أخرجه حاتم علي.
في المقابل، تذهب المسلسلات والأفلام العربية والغربية التي تتناول يسوع المسيح، إلى تصوير وتمثيل هذا الأخير وفقاً للشكل المتخيل له والراسخ في الأذهان، وكذلك تمثيل أدوار أنبياء "العهد القديم" كلهم. وحتى في المسلسل الإيراني "عيسى المسيح" الذي بثت قناة "المنار" اللبنانية التابعة لـ"حزب الله" عدة حلقات منه قبل إيقاف عرضه، كان المسيح يمثل بذات الشكل والملامح المتعارف عليها في أفلام مثل Jesus of Nazareth وفيلم The Passion of the Christ. مع ذلك، تبقى المسلسلات الدينية الإيرانية حافلة بمفارقات وتناقضات كثيرة على هذا الصعيد.
كان الفنان والممثل الإيراني مصطفى زماني واحداً من الممثلين الذين أدوا أدوار الأنبياء في الدراما الإيرانية، حين لعب دور النبي يوسف في مسلسل "يوسف الصديق" والمدبلج بدوره إلى العربية، وهو أدى الدور من دون تغطية أو تمويه لملامح الوجه، حيث "يسمح بتمثيل أدوار بعض الأنبياء في المسلسلات والأفلام الدينية، مثل يوسف ويعقوب وأيوب وآخرين، في حين لا يسمح بعرض وجه الممثل الذي يقوم بدور الأئمة عند الشيعة، كما في مسلسل علي بن أبي طالب، ومسلسل الإمام الرضا، وكذلك هو الحال مع شخصية فاطمة الزهراء، على عكس شخصية مريم العذراء التي قامت بدورها الممثلة الإيرانية شَبنَم قلي خاني"، كما يقول زماني.
لنفترض أن معاوية وصحابة آخرين غيره لم يسلموا، ولم يغادروا "دار الكفر"؛ ما هي الملامح التي من الممكن أن يتم تصويرهم بها في أحد المسلسلات التاريخية اليوم؟
غير أن تمثيل الأنبياء في إيران ليس بلا شروط، إذ يشير زماني إلى وجود شروط مسبقة خلال قيام الجهة المنتجة بالبحث عن ممثل يقوم بدور أحدهم، وتتمثل مثلاً وليس حصراً "بأن لا يكون قد ظهر سابقاً في أي عمل درامي أو سينمائي، ولم يتم تصوير وجهه سابقاً حتى في الإعلانات، بالإضافة إلى وجوب امتناعه عن التمثيل طوال فترة تصوير المسلسل والتي استمرت لخمس سنوات، وأيضاً خلال مدة عرضه"، وهو شرط قد انطبق عليه بالفعل، فـمسلسل يوسف كان العمل الأول له، ومنطلَقاً له باتجاه أعمال أخرى ليست دينية بالضرورة.
انطلق زماني من شخصية النبي يوسف باتجاه النجومية في الدراما الإيرانية، على عكس آخرين شكلت المسلسلات الدينية نقطة نهاية لمسيرتهم، مثل الممثلة كتايون رياحي التي أدت دور "زليخا" في المسلسل المذكور، واختارت إنهاء مشوارها الفني والتمثيلي بعد هذا الدور الذي اعتبرته "قمة أدوارها".
عن معاوية وآخرين... سبحان الخالق!
بعد كم المحظورات التي أوردنا أعلاه جزءاً يسيراً منها، يمكن للنقاش أن يأخذ منحى آخر، لكنه يبقى مرتبطاً بالمتاح من الصور، وبتصوير الشخصيات التاريخية التي ما تزال "الجماهير العربية" و"الشعوب العظيمة" تتمسك بها وبالمرويات حولها، وبزيارة أضرحتها المحتمَلة والتبرك بها.
يتحدث نصر حامد أبو زيد في أحدى محاضراته حول "الفن وخطاب التحريم"، وعن تناقضات تبدو مثيرة للانتباه، حيث تظهر المانوية بـ "أبهى" صورها، من حيث تقسيم عالم الإسلام القديم إلى خير وشر مطلقَين، وهو ما يتبدّى في المسلسلات التي تصور المشركين أو المناوئين للإسلام بصور يبدون فيها، بالفعل، "أكثر حيوية من المسلمين"، في حين يظهر هؤلاء الأخيرون "وكأنهم خلقوا من طينة مختلفة بعد إسلامهم".
يمتد هذا التقسيم إلى عالم الإسلام الراهن والمعاصر، من حيث الضخ الإعلامي والبرامج الدينية والمشايخ والفقهاء الذين يملأون الشاشات، إلى جانب مسلسلات يظهر فيها من لا نَعرف شكله الفعلي ومن "لم يحالفنا الحظ" برؤيته ومعاصرته، في صورةٍ وماكياج مدهشين، و"عيون مسبلة" ونظرات وملامح يشع منها الإيمان والنور والخشوع، وهو ما تمكن ملاحظته، بالفعل، في صورة معاوية المتداولة مع إعلانات وملصقات المسلسل "المنتظر"، كما في صور آخرين ضمن مسلسلات غيره. وليسمح لنا القارئ، هنا، ببعض الخيال والتخييل والتساؤل: لنفترض أن معاوية وصحابة آخرين غيره لم يسلموا، ولم يغادروا "دار الكفر"؛ ما هي الملامح التي من الممكن أن يتم تصويرهم بها في أحد المسلسلات التاريخية اليوم؟
إنها قطعاً ملامح قريبة من ملامح أبي الحكم بن هشام وعتبة بن ربيعة وغيرهم ممن ماتوا وهم على دين آبائهم، على ما يقال. هكذا، يجب الإسلام ما قبله حتى على صعيد التصوير المعاصر، ويكفي إسلامُ أحدهم لكي ينقلب الماكياج على الشاشة ويحوّله إلى شخص آخر مختلف، شكلاً على الأقل، عن آخرين في الطرف المقابل والمضاد.
هذا نقاش سريع تناول مسألة قديمة ومتجددة، ويبدو أنها ستستمر في ظل الانسداد السياسي وفشل مشاريع التغيير وما يمكن أن تفتحه من آفاق للحوار والنقد الشجاع
أما المسلمات اللواتي عاصرن "فجر الإسلام"، فهن دائماً محجبات وبملامح نورانية تفيض هي الأخرى من الشاشة، وهذه مسألة تلاحظ في مسلسلات العالم العربي كما تلاحظ في إيران، وإن بشكل مختلف، طالما أن كل الممثلات في مسلسل "يوسف" الذي سبق ذكره يلبسن غطاء على الرأس، ووفقاً لتعاليم الثورة الإسلامية، وليس تبعاً لتقاليد "المجتمع المصري" الذي يفترض أن يوسف عاش فيه قبل آلاف من السنوات.
هذا نقاش سريع تناول مسألة قديمة ومتجددة، ويبدو أنها ستستمر في ظل الانسداد السياسي وفشل مشاريع التغيير وما يمكن أن تفتحه من آفاق للحوار والنقد الشجاع، وفي ظل التوثب الدائم للحروب الأهلية، الميدانية والكلامية، التي يشكل الدين والطائفة والتاريخ أعمدة رئيسية لها. وهي تشير، من بين ما تشير إليه، إلى استمرار تغوّل المقدس واتساع رقعة الديني ورموزه وأسْطرة تلك الرموز وعلوّ كعبها فوق البشر، على حساب ما هو بشري وأرضي يمكن الاحتكاك والتماس معه وتناوله كواقعة تاريخية.
تبدو الأخبار اليوم حول مصير فيلم "شجاعة أبي لؤلؤة" شحيحة أو شبه معدومة، في حين لم يعرض مسلسل "معاوية" حتى اللحظة. تبقى هذه تفاصيل صغيرة على أي حال، في ظل استعداد الصورة والشكل للتغيّر والانقلاب في كل موسم رمضاني، وكأن الدراما التاريخية تُزامل تلك المنطقة التي تنقلب وتتزلزل وتتبدل يومياً بشكل أسطوري، يشبه أساطير الأولين وسيَرهم وما وصل إلينا من قصصهم وبطولاتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون