منذ إعلان مجموعة قنوات "إم بي سي" بأنها ستنتج مسلسلاً درامياً تاريخياً عن حياة الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، حدث كثير من الجدل. يرتبط معاوية في التاريخ الإسلامي بالكثير من الإشكاليات، خاصة بسبب حربه مع الإمام علي بن أبي طالب، والتي ما زالت آثارها متقدة إلى الآن! ومع ذلك، لربما أكثر ما يتذكره الناس عن معاوية، مقولته الشهيرة: "ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة، ما انقطعت. قيل: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدّوها خليتها، وإذا خلوها مددتها".
يعد معاوية من حلماء العرب، ولكي نشرح معنى الحِلم عند العرب، نورد هذا الخبر عن الأحنف بن قيس: قال الأحنف بن قيس إنّه تعلم الحِلم من قيس بن عاصم. وعاصم كان سيد أهل الوبر، وتروى عنه قصة، هي التمام في الحِلم، فقد جيء له برجل مكتوف، ورجل مقتول، وكان في داره يحدث قومه، فقيل له: "هذا ابن أخيك قتَل ابنك"، فلم يقطع حديثه حتى أنهاه، ومن ثم التفت إلى ابن أخيه قائلاً: "يا ابن أخي، أثِمتَ بربّك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمك. ثم قال لابن آخر له: قم، يا بني، فوارِ أخاك، وحلّ كتاف ابن عمك، وسق إلى أمه (أي إلى أم أخيك) مائة ناقة دية ابنها، فإنها غريبة".
أكثر ما يتذكره الناس عن معاوية، مقولته الشهيرة: "ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة، ما انقطعت، قيل: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدّوها خليتها، وإذا خلوها مددتها"
إنه لأمر مذهل ما قام به قيس بن عاصم، فهذا هو الحلم الصافي الذي لا تشوبه شائبة، فقد حفظ القبيلة من التشتت، ووأد الثأر في أرضه. أقلنا الوأد الذي أنكره الإسلام جملة وتفصيلاً؟ نعم! فقيس بن عاصم كان وائد بنات! فهل اختل مقام الحِلم لديه؟ أبداً، فالحلم ليس فضيلة كالكرم أو الخير، يضيرها أقل بخل، حتى لو كان عاذلة تؤنب ضمير الكريم حاتم. الحلم الذي أبداه قيس بن عاصم، لا يمت بصلة إلى التعريف الذي ساد في الإسلام، بل هو حلم السياسي، الذي عبر عنه ميكافيلي بأن: الغاية تبرر الوسيلة، كما جاء في كتابه "الأمير". لقد كان الأحنف بن قيس من حلماء العرب وله الكثير من القصص التي تروى عن حلمه، وعندما سئل من الأحلم، هو أم معاوية؟ أجاب بأن معاوية هو الأحلم، وكأنه يتمثل قول المتنبي قبل أن يولد: وَلا خَيْرَ في حِلْمٍ إذَا لَمْ يَكُنْ لـَهُ /بَوَادِرُ تَحْـمِي صَفـْوَهُ أَنْ يُـكَدَّرا.
إذاً، الحلم يحتاج إلى قوة، والأحنف يعرف بأن معاوية هو خليفة المسلمين، فاستدرك أن يقع في فخ السائل وهو الضعيف أمام جبروت الخليفة، فسلم الراية إلى معاوية بأنه الأحلم.
هنا لنبتعد قليلاً عن التجاذبات الإسلامية بين مؤيد لمعاوية ومعارض له، ونذكر ما أورده مارون النقاش في كتابه "أضواء توضيحية على تاريخ المارونية"، بأنه عندما اختلفت الكنيسة المارونية مع الكنيسة الأرثوذكسية حول طبيعة المسيح، جاؤوا إلى معاوية ليحكم بينهم، فأقر رأي الموارنة ومنحهم كنائس كانت تابعة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية. وأيضاً عندما حدث الخلاف بين الموارنة واليعاقبة منحهم حق اللجوء إلى جبل لبنان. هذا هو السياسي الذي امتدت إمبراطوريته من الشرق إلى الغرب، والذي أسس أول "فرع مخابرات" في تاريخ الإسلام، وكان يسمى ديوان البريد، أمّا ناقل الأخبار، فكان يطلق عليه "صاحب الخبر". فقد حكم معاوية الأمة الإسلامية بشعرةٍ ما انقطعت أبداً.
هند، أم الخليفة الأموي الأوّل
يحكي أبو الفرج الأصفهاني في كتابه "الأغاني" أن هند بنت عتبة، أم الخليفة معاوية، كانت متزوجة من رجل يدعى الفاكه بن المغيرة، وقد كان رجلاً مضيافاً، له بيت في قريش يزوره الناس من غير إذن. وكان أن خلا البيت يوماً من الضيوف، فاضطجع الفاكه وهند، وبعد فترة نهض الفاكه لحاجة له وتركها نائمةً. وحدث أن جاء زائر، فدخل البيت فوجد هنداً نائمة، فخرج هارباً، فرآه الفاكه، فدخل على هند فضربها برجله، وقال: من عندكِ؟ قالت: ما رأيت أحداً، ولا انتبهت حتى أنبهتني. فقال: ارجعي إلى أمك.
كثرت الأقوال بحق هند، فذهب أبوها بها مع زوجها الفاكه يحتكمون إلى أحد كهنة اليمن، وفي الطريق تغيرت سيماء وجه هند، فاستفسر أبوها عن السبب، فأخبرته بأنهم يقصدون رجلاً يخطئ ويصيب، ولا تأمنه أن يسمها بصفة تكون لها مذمة بين الناس! فقال لها والدها سأختبره لك. فوضع حبة حنطة في إحليل الفرس كي يختبر صدق كهانته.
وعندما وصلوا إلى الكاهن، قال له أبو هند بأنهم قد جاؤوه لأمر، وأنه قد خبأ له أمراً يختبره به، وعليه أن يعرفه. فقال الكاهن: ثمرة في كمرة. فقال أبو هند: بيّنْ لنا أكثر. فقال الكاهن: حبة بر في إحليل مهر. فقال أبو هند: صدقت. ومن ثم عرض قصتهم عليه. فقال الكاهن لهند: انهضي غير زانية، ولتلدي ملكاً يسمى معاوية. وبعد أن ظهرت براءتها، قام الفاكه إليها وأمسك بيدها، فنثرت يدها من يده، وقالت: إليك عني، فوالله لأحرص أن يكون ذلك من غيرك. وبعد ذلك تزوجها أبو سفيان، وأولدها معاوية الذي جاء عنه في عيون الأخبار لابن قتيبة أن رجلاً قد نظر إلى معاوية وهو غلام صغير فقال: إني أظن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت هند: ثكلتٌه إن كان يسود إلا قومه!
نشأ معاوية في حضن هذه الأم التي لم تتوانَ عن أكل كبد حمزة في معركة أحُد، انتقاماً لقتلى قريش في معركة بدر، وهي التي أنشدت في معركة أحد تشدّ أزر محاربي قريش ضد المسلمين: "نحن بنات طارق/نمشي على النمارق/ والمسك في المفارق/والدرّ في المجانق/إن تُقبلوا نعانق/ونفرش النمارق/أو تُدبروا نفارق/فراق غير وامق".
وفي الحديث الذي تناول إسلامها، تتكشف أكثر نفسية هذه الأم التي ربّت معاوية، كما ذكر ابن عساكر في الحديث الذي جرى بين الرسول وبينها عندما أسلمت: "أُبَايِعُكِ عَلَى أَنْ لا تُشْرِكِي بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلا تَسْرِقِي، وَلا تَزْنِي. قَالَتْ: أَوَتَزْنِي الْحُرَّةُ؟ قَالَ: "وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلادَكُنَّ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ". قَالَتْ: وَهَلْ تَرَكْتَ لَنَا أَوْلاداً نَقْتُلُهُمْ"، ثم بايعته.
بعد أن تعرفنا على هذه الأم القوية التي ربت معاوية، هل لنا أن نفسر تسامح معاوية مع نساء دخلن عليه وهو خليفة المسلمين، وأغلظن له القول، حتى ظن السامعون بأنه سيبطش بهن، لكنه على خلاف المتوقع، استمع إليهن ولبّى طلباتهن، فهل كان هذا حلماً منه أم رأى فيهن أمه هند بنت عتبة؟
نساء لا يهبن معاوية
ذكرت كتب التراث العربي في ثنايا متونها -كابن بكار وابن طيفور- العديد من القصص التي تناولت أخبار النساء اللواتي دخلن على معاوية، وكانت له معهن محاورات لم تهادنه النساء فيها، بل أظهرن عن مواقفهن السياسية والعقائدية غير جزعات ولا خائفات، خاصة في المفاضلة بينه وبين علي، فها هو معاوية يسأل الدارمية الحجونية إن هو أجاب طلبها، فهل يحل محل علي في المكانة عندها، فقالت: يا سبحان الله، أو دونه، أو دونه. وما قصدته بأن معاوية لا يمكن له ذلك، فقال معاوية لها: "إذا لم أجد منكم عليكم/فمن ذا الذي بعد يؤمل بالحلمِ/خذيها هنيئاً واذكري فعلَ ماجد/حباك على حرب العداوة بالسلمَ".
وهذه الدارمية امرأة، أراد معاوية سؤالها لماذا أحبت علياً وأبغضته، فأجابته معددة مناقب علي التي لا يملكها معاوية؛ من مثل عدله في الرعية، وما عقد له رسول الله له من الولاية، وحبه للمساكين وإعظامه أهل الدين٫ قائلة: أما أنت يا معاوية، فقد شققتَ عصا الطاعة وسفكتَ الدماء وطلبت ما ليس لك. فقال لها معاوية: صدقت! ولهذا انتفخ بطنك، وكبر ثديك، وعظمت عجيزتك. فردت عليه الدارمية: يا هذا، بهند، والله يضرب المثل، لا أنا. ثم سألها معاوية إن كانت سمعت كلام علي، فأجابته: كان والله كلامه يجلو القلوب من العمى، كما يجلو الزيت صداء الطست. قال معاوية: صدقت! هل لك من حاجة؟ فأخبرته بحاجتها وأجابها معاوية عليها. وفي ختام المحادثة قال لها: أما والله، لو كان علياً ما أعطاك شيئاً. قالت: ولا برة واحدة من بيت مال المسلمين -وكانت تقصد أنّ علياً لن يعطيها إلا حقها- ثم أمر لها معاوية بما طلبت.
وتشبه عكرشة بنت الأطش في جرأتها على معاوية، الدارميةَ، هي التي دخلت على معاوية بعدما قطع عنها ما تستحق من بيت مال المسلمين نتيجة موقفها في صفين، والذي ناصرت فيه علياً، فقامت تخطب بالجموع المتقاتلة: "إن معاوية دلف عليكم بعجم العرب، غلف القلوب لا يفقهون الإيمان، ولا يدرون الحكمة، دعاهم بالدنيا فأجابوه واستدعاهم إلى الباطل فلبّوه....". وبعد أخذ ورد بينه وبينها عن موقفها في حرب صفين إلى جانب علي، اتهمته بأنه من ولى الفاسدين والخائنين على العراق. فقال لها معاوية مجيباً طلبها: هيهات، يا أهل العراق، فقهكم ابن أبي طالب، فلن تطاقوا. ثم أمر لها برد صدقتها وإنصافها، وردّها مكرمة إلى العراق.
ذكرت كتب التراث العربي في ثنايا متونها -كابن بكار وابن طيفور- العديد من القصص التي تناولت أخبار النساء اللواتي دخلن على معاوية، وكانت له معهن محاورات لم تهادنه النساء فيها، بل أظهرن عن مواقفهن السياسية والعقائدية غير جزعات ولا خائفات
ولا تختلف أم سنان بنت خيثمة بن خرشة، عن سابقتيها، فقد دخلت على معاوية بعد أن حبس حفيدَها مروانُ بن الحكم واليه على المدينة، متظلمة منه، فاستقبلها معاوية مذكراً إياها بموقفها منه وموالاتها علياً، وهي القائلة: "هذا علي كالهلال يحفه/وسط السماء من الكواكب أسعدُ/خير الخلائق وابن عم محمّدٍ/وكفى بذاك لمن شناه تهددُ".
فتجيبه أم سنان، بأنها كلمة صدق قيلت، لكنها تطمع فيه أن يكون خلفاً صالحاً لعلي، فيعترض أحد الحضور ويذكرها بما قالته بعد موته: "قد كنت بعد محمدٍ خلفاً لنا/ أوصى إليك بنا فكنت وفيا/ فاليوم لا خلف نأمله بعده/هيهات نمدح بعده إنسيّا".
فترد أم سنان بأنك يا معاوية ما ورثت كراهة المسلمين لك إلا من المحيطين بك، فإذا أبعدتهم عنك كسبت مودة المسلمين. وفي نهاية القصة يأمر معاوية بإطلاق الفتى من الحبس وإعطاء أم سنان خمسة آلاف درهم، وترد إلى المدينة مكرّمةً.
هذه بعض القصص عن نساء دخلن على معاوية. وفي كتاب "بلاغات النساء" لابن طيفور، العديد غيرها ذُكرت على المنوال ذاته. لا ريب في أن معاوية كان قد رأى في هؤلاء النساء وجرأتهن ما يشبه جرأة أمه هند بنت عتبة، وطموحها، لكن بالإضافة إلى ذلك، كان يعمل بمقتضى سياسةٍ أعلنها بعد أن استتب له الحكم وأزاح منافسيه على السلطة، بأن بينه وبين الناس شعرة على الرغم من رقتها ودقتها وضعفها لم تنقطع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...