يُعدّ الدكتور ناظم القدسي حالةً فريدة بين الحكام العرب، فهو من القلائل جداً الذين كانت حياتهم قبل الرئاسة مليئة بأحداث ومناصب مهمة، لا تقل أهمية عن الرئاسة بحد ذاتها. وهو من القلائل أيضاً الذين تدرجوا في العمل السياسي قبل الوصول إلى الحكم، نائباً ثم سفيراً فوزيراً فرئيس حكومة، ثم رئيس برلمان وصولاً إلى انتخابه رئيساً للجمهورية سنة 1961.
وهو من القلائل أيضاً الذين عاشوا سنوات طويلة بعد الرئاسة. الرئيس محمد علي العابد، مثلاً، عاش ثلاث سنوات بعد مغادرته الحكم (1936-1939)، والرئيس هاشم الأتاسي قضى خمس سنوات بين الرئاسة والوفاة (1955-1960)، وشكري القوتلي تسع سنوات (1958-1967). أما ناظم القدسي فقد عاش طويلاً؛ من 1963 ولغاية وفاته في عمّان سنة 1998، أي ما لا يقل عن خمسة وثلاثين سنة، عمل خلالها على جمع أوراقه وخطبه ومذكراته وصوره، بطريقة علمية لم يفعلها غيره من قبل. وهذا ما سهّل على أولاده ترتيبها ونشرها في موقع جميل حمل عنوان "المكتبة الرئاسية للدكتور ناظم القدسي"، أُطلق مؤخراً في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته.
ما وراء الموقع
يحتوي الموقع على ما يزيد عن خمسة آلاف وثيقة، بين مكتوبة ومرئية ومسموعة، وُزّعت على الأبواب التالية: وثائق، خطابات، مذكرات ورسائل، جرائد ومجلات، فيديوهات، صور، برقيات، بطاقات تهنئة، دعوات، ووثائق شخصية. ثم يأتي الصيد الثمين في "محاضر مجلس النواب"، في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته، وهي مهمة جداً لأن النسخ الأصلية منها، المحفوظة في أرشيف البرلمان في دمشق، دُمّرت في أحد مستودعات الريف خلال سنوات الحرب الأخيرة. وطبعاً يتيح لنا الموقع -أو المكتبة الرئاسية- مشاهدة الرئيس القدسي، وهو يخطب بلغة عربية سليمة ومتينة، وهذا أيضاً من النوادر، لأن كل الأفلام الوحيدة المتوافرة كانت حتى الآن تحتوي على مشاهد متحركة، ولكن صامتة للرئيس السوري الأسبق.
يُعدّ الدكتور ناظم القدسي حالةً فريدة بين الحكام العرب، فهو من القلائل جداً الذين كانت حياتهم قبل الرئاسة مليئة بأحداث ومناصب مهمة، لا تقل أهمية عن الرئاسة بحد ذاتها
أما عن مذكرات الرئيس، فقد تردد في كتابتها بداية، بسبب خصوصيتها وحساسية بعض المواضيع، إلى أن جاء صديقه الدكتور قسطنطين زريق، وأقنعه بتسجيلها في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1975. وكان زريق، قبل أن يصبح رئيساً لجامعة دمشق ثم رئيساً بالوكالة للجامعة الأمريكية، قد عمل مع القدسي في وفد سوريا المؤسس في الأمم المتحدة سنة 1945. وكانت الجامعة الأمريكية يومها قد أطلقت برنامجاً للتاريخ الشفوي، وسجلت مذكرات صوتية لرئيس وزراء لبنان صائب سلام، ولنظيره السوري حسني البرازي، ولنزار قباني، وكان من المفترض أن تضاف تسجيلات القدسي إليها، ولكن اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1975، منعه من استكمال المشروع. وقد انتظرت المذكرات الصوتية حتى مطلع التسعينيات، عندما قام القدسي بتسجيلها في عمّان على 30 شريطاً. وفي التسجيل المؤرخ في الثالث عشر من شباط/فبراير 1993، يعطي موافقة على نشرها ليستفيد منها الباحثون والمؤرخون، والسوريون عموماً.
تثبت هذه الوثائق مثلاً أن الرئيس القدسي، كان أول من دعا إلى وحدة عربية شاملة، منذ سنة 1949، وتقدم بها إلى جامعة الدول العربية قبل سنوات من تبني جمال عبد الناصر هذا الطرح بعد ظهوره على مسرح الأحداث في الوطن العربي، وقبل تسع سنوات من تحقيق الوحدة السورية-المصرية عام 1958. كما أنه رفض التعاون مع العسكر منذ الانقلاب الذي قاده حسني الزعيم، ضد الرئيس شكري القوتلي، سنة 1949، علماً أن الأخير عرض عليه تولّي الحكم من يومها، لكونه زعيم المعارضة النيابية للرئيس القوتلي. وأخيراً، تعطي المكتبة لمحة مهمة عن سنوات القدسي في منفاه الطويل، وفيها معلومات لم تُنشر من قبل عن إقامته في بيروت وتونس وأبو ظبي، مروراً بمدينة نيس الفرنسية، وصولاً إلى عمّان، حيث توفي سنة 1998.
البدايات
وُلد الرئيس ناظم القدسي في حلب سنة 1906، ودرس في الإنترناشيونال كولدج (IC) في بيروت، التابعة لجامعة بيروت الأمريكية، ثم نال شهادةً في الحقوق من جامعة دمشق، وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة جنيف سنة 1929.
بدأ حياته السياسية مع الكتلة الوطنية التي شُكّلت في أعقاب الثورة السورية الكبرى، لمحاربة الانتداب الفرنسي، ولكنّه انشق عنها مع صديق عمره رشدي الكيخيا، لفشلها في الحفاظ على منطقة لواء إسكندرون، ومنع ضمها إلى تركيا سنة 1939.
وزيراً مفوضاً في واشنطن
عيّنه الرئيس شكري القوتلي، وزيراً مفوضاً في الولايات المتحدة سنة 1944، حيث عمل على تأسيس السفارة السورية في واشنطن، وقدم أوراق اعتماده للرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت. وبهذه الصفة دُعي لحضور مؤتمر تأسيس الأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في نيسان/أبريل 1945، ليكون عضواً في وفد سوريا الدائم الذي ترأسه رئيس الحكومة السورية فارس الخوري، وهو أستاذ القدسي في كلية الحقوق. شارك القدسي في التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة باسم الجمهورية السورية، وكان حاضراً في جلسات الهيئة العامة التي ناقشت موضوع استقلال سوريا سنة 1945.
وفي عهد الاستقلال، انتُخب نائباً عن حلب وترأس مع صديقه رشدي الكيخيا، المعارضة النيابية التي وقفت في وجه تعديل الدستور للسماح للرئيس القوتلي بولاية دستورية ثانية. وفي سنة 1948، أسس مع الكيخيا حزب الشعب، المطالب بتحقيق وحدة مع العراق الهاشمي. عارض انقلاب حسني الزعيم، الذي أطاح بالقوتلي في 29 آذار/مارس 1949، فتم حظر الحزب وملاحقة أعضائه.
وعند سقوط الزعيم ومقتله في 14 آب/أغسطس 1949، سُمّي القدسي وزيراً للخارجية في حكومة الرئيس هاشم الأتاسي التي أشرفت على انتخاب جمعية تأسيسية مكلفة بوضع دستور جديد للبلاد، بدلاً من الدستور القديم الذي كان الزعيم قد عطّله قبل أشهر. انتُخب القدسي رئيساً للجنة الدستور، وفي كانون الأول/ديسمبر 1949، تولّى الأتاسي رئاسة الدولة وقام بتعيينه رئيساً للحكومة.
رئيساً للحكومة
عمل القدسي على تحقيق مشروع الوحدة مع العراق، ووصل إلى مرحلة متقدمة في مفاوضاته مع القادة العراقيين، ولكن انقلاباً جديداً وقع في دمشق يوم 19 كانون الأول/ديسمبر 1949، منعه من تحقيق الحلم، وكان بقيادة العقيد أديب الشيشكلي، المعارض للعراق ولحزب الشعب.
حاول الرئيسان الأتاسي والقدسي، احتواء الشيشكلي، وقبلوا بشرطه تعيين أحد أعوانه العسكريين في وزارة الدفاع، لإجهاض أي مشروع وحدوي مع العراق قد يُطرح مستقبلاً أمام السلطة التشريعية. شكّل القدسي ثلاث حكومات في الفترة ما بين 1949-1951، تم انتقل إلى صفوف المعارضة بعد تولّي الشيشكلي الحكم بشكل مباشر سنة 1953.
عارض نظام الشيشكلي بشدة وسُجن، ليعود إلى العمل الوطني بعد زوال حكمه ونفيه إلى خارج البلاد في شباط/فبراير 1954. أعيد العمل بالدستور القديم والمجلس النيابي القديم وانتُخب القدسي رئيساً للبرلمان. أشرف على انتخابات رئاسة الجمهورية في 18 آب/أغسطس 1955، وكانت المعركة يومها بين شكري القوتلي وخالد العظم، كما كان القدسي شاهداً على انتقال السلطات من هاشم الأتاسي إلى شكري القوتلي، في 5 أيلول/ سبتمبر 1955.
الوحدة والانفصال
عارض الطريقة التي تمّت بها الوحدة السورية المصرية سنة 1958، عندما توجه وفد من الضباط العسكريين إلى القاهرة للمطالبة بدمج البلدين، من دون أخذ موافقة رئيس الجمهورية. لكنه صوت لصالح الوحدة داخل المجلس النيابي، عادّاً أنها حلم قديم راوده منذ مطلع الشباب وهو أول من طالب بها، قبل عبد الناصر وجماعته. أحد شروط عبد الناصر للوحدة، كان حل جميع الأحزاب العاملة في سوريا، وفي مقدمتها حزب الشعب، وقد وافق القدسي على هذه التضحية في سبيل الوحدة العربية.
وفي سنوات الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961)، ابتعد ناظم القدسي عن السياسة، وعمل مديراً في بنك العالم العربي الذي قام عبد الناصر بتأميمه مع سائر المصارف السورية في تموز/يوليو 1961. كما شمل القدسي قانون الإصلاح الزراعي الذي أصدره عبد الناصر في مطلع عهد الوحدة، ما جعل تأييده لانقلاب الانفصال أمراً حتمياً يوم 28 أيلول/سبتمبر 1961.
ترشح في أول انتخابات رئاسية جرت في مرحلة الانفصال وانتُخب رئيساً للجمهورية يوم 14 كانون الأول/ديسمبر 1961. حاول مجدداً تقليم أظافر العسكر، ومنهم الضباط الذين أطاحوا بجمهورية الوحدة، وعلى رأسهم المقدم عبد الكريم النحلاوي، فانتفض الأخير ضده، وانقلب عليه يوم 28 آذار/مارس 1962. زُجّ بالرئيس القدسي في السجن مع رئيس حكومته معروف الدواليبي (وهو أحد قادة حزب الشعب)، ولكن تمرد بعض ضباط الجيش أجهض انقلاب النحلاوي مبكراً. تم إخلاء سبيل القدسي في 1 نيسان/أبريل 1962، ليعود إلى القصر الجمهورية حتى 8 آذار/مارس 1963، تاريخ قيام انقلاب جديد في سوريا، قادته مجموعة من الضباط الناصريين، برئاسة اللواء زياد الحريري، ومعهم بعض ضباط اللجنة العسكرية لحزب البعث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...