شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الانقلاب المنسي في تاريخ سورية الحديث... 28 آذار 1962

الانقلاب المنسي في تاريخ سورية الحديث... 28 آذار 1962

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 24 فبراير 202211:00 ص

لقد حظيت الانقلابات العسكرية في سورية باهتمام كبير من المؤرخين السوريين والعرب والأجانب، وقد كُتب عنها الكثير الكثير، ابتداء بانقلاب حسني الزعيم الأول في 29 آذار 1949.

الكثير من الكتاب تطرقوا فقط إلى الانقلابات الناجحة، ولم يأتوا على ذكر تلك التي أُجهضت ولم يُكتب لها النجاح، مثل محاولة الأردن قلب نظام الحكم بدمشق سنة 1950، ومحاولة العراق فعل ذات الشيء عام 1956. ومن أشهر الانقلابات الفاشلة هو ذلك الذي حصل ليلة 28 آذار 1962، أي بعد خمسة أشهر من انقلاب الانفصال على الجمهورية العربية المتحدة.

صانع الانقلاب وأسبابه

هذا الانقلاب المنسي من صنيعة العقيد عبد الكريم النحلاوي، ابن عائلة دمشقية معروفة، ومهندس انقلاب الانفصال والوحيد من العسكريين الانقلابيين الذي لا يزال على قيد الحياة، حيث أن عمره اليوم 96 عاماً وهو مقيم اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية. السبب المباشر لانقلابه الثاني هو اتساع الهوة بينه وبين رئيس الجمهورية ناظم القدسي، المنتخب دستورياً منذ كانون الأول 1961.

كان النحلاوي ورفاقه على خلاف مع الطبقة السياسية الحاكمة، حول القرارات الاشتراكية التي صدرت عن الرئيس جمال عبد الناصر في تموز 1961، والمتعلقة بتأميم المصارف والمصانع والشركات. أراد السياسيون القدامى، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء معروف الدواليبي، نسف قرارات عبد الناصر من جذورها، وكلاهما انتمى لكبرى العائلات الاقتصادية المتضررة من اشتراكية الرئيس عبد الناصر.

أمّا ضباط الجيش من جماعة عبد الكريم النحلاوي، فقد أرادوا تعديلها فقط، معتبرين أن الشارع السوري لا يزال ناصري الهوى، وكذلك فئة لا يستهان بها من العسكريين، وقد رفعوا عدة مطالب إلى رئيس الجمهورية، منها تعديل قرارات التأميم، وإقالة رئيس الحكومة الذي كان في صدام دائم من الجيش منذ توليه الحكم لأول مرة سنة 1951.

لقد حظيت الانقلابات العسكرية في سورية باهتمام كبير من المؤرخين السوريين والعرب والأجانب، وقد كُتب عنها الكثير الكثير، ابتداء بانقلاب حسني الزعيم الأول في 29 آذار 1949

وكان الدواليبي وفي رئاسته الأولى قد اصطدم مع العقيد أديب الشيشكلي ورفض الرضوخ لإملاءاته وتعيين صديقه فوزي سلو في حقيبة الدفاع، ما دفع الشيشكلي للقيام بانقلاب، أدّى إلى اعتقال الدواليبي وكل أفراد حكومته. وفي المرة الثانية سنة 1962، كان الدواليبي على نفس الموقف مع عبد الكريم النحلاوي ورفاقه، معتبراً أنه يجب وضع حد لتدخلاتهم في السياسة، وعدم الانصياع لمطالبهم.

وقد طلب النحلاوي من الرئيس القدسي استبعاد الدواليبي عن المشهد السياسي، مع عدد من السياسيين القدامى غير المرغوب بهم من قبل العسكر، مثل الرؤساء سعيد الغزي ومأمون الكزبري وخالد العظم. وأخيراً، طلب النحلاوي من رئيس الجمهورية رفع الحصانة النيابية عن بعض النواب، وتعديل عمر المجلس التأسيسي الذي تم انتخابه بعد سقوط الوحدة، من 18 شهر إلى 6 أشهر.

طبعاً، رفض الرئيس القدسي كل هذه المطالب، وكان يشاطر الدواليبي رأيه بتقليم أظافر العسكر، وفي مقدمتهم عبد الكريم النحلاوي. ويبدو أن النحلاوي قد ضاق صدره بمحاولات الإقصاء والتهميش المتكررة من قبل المدنيين، فهو كان يعتبر أن لولاه ولولا انقلابه على جمال عبد الناصر، لما وصل أحد منهم إلى منصبه في "جمهورية الانفصال"، وكان يتوقع منهم الاحتفاء به وتعيينه وزيراً للدفاع أو رئيساً للأركان بدل تهميشه. ولكن ذلك لم يحصل، فقرر التحرك والإطاحة بهم جميعاً في يوم 28 آذار 1962.

في 28 آذار 1962، أمر العقيد عبد الكريم النحلاوي باعتقال رئيس الجمهورية ونقله إلى مبنى الأركان العامة. وقد قابله النحلاوي، وكان برفقة قائد الجيش اللواء عبد الكريم زهر الدين، الذي قال للرئيس المعتقل: "كان بإمكانك يا سيدي تجنيبنا هذا الوضع فيما لو قبلت بالمطالب التي طالب بها الجيش"

يوم الانقلاب

في 28 آذار 1962، أمر النحلاوي باعتقال رئيس الجمهورية ونقله مخفوراً إلى مبنى الأركان العامة. وقد قابله النحلاوي، وكان برفقة قائد الجيش اللواء عبد الكريم زهر الدين، الذي قال للرئيس المعتقل: "كان بإمكانك يا سيدي تجنيبنا هذا الوضع فيما لو قبلت بالمطالب التي طالب بها الجيش". هزّ الرئيس برأسه بصورة تدل على عدم اقتناعه وقال: "الذي تريدون الحصول عليه لا يمكن تحقيقه إلّا عن الطريق الذي سلكتموه... إن المجلس النيابي لا يحل إلا بالبلاغات العسكرية".

تقدم النحلاوي من القدسي وفي يده ورقة بيضاء، طالباً منه كتابة استقالته، ففعل القدسي دون تردد. ولكن وبدلاً من إطلاق سراحه، أمر النحلاوي نقله إلى المستشفى العسكري في منطقة المزّة، سجيناً حتى إشعار آخر. كما أمر النحلاوي باعتقال جميع السياسيين القدامى، مثل خالد العظم ومأمون الكزبري، وهما مستقلان، وأمين عام الحزب الوطني صبري العسلي ورئيس الوزراء الأسبق لطفي الحفار، الذي كان ضارباً بالسن ومعتزلاً السياسة منذ منتصف الخمسينيات.

وقد اعتُقل معروف الدواليبي وزُجّ به في سجن المزة مع كل أفراد حكومته، بما فيهم نائب رئيس الحكومة جلال السيّد (وهو من قادة حزب البعث)، وطال الاعتقال رئيس مجلس النواب الأسبق رشدي الكيخيا (مؤسس حزب الشعب مع ناظم القدسي)، والصحفي سعيد تلاوي (صاحب جريدة الفيحاء المقرب من رئيس الجمهورية الأسبق شكري القوتلي)، إضافة إلى مؤسسي الشركة الخماسية المؤممة منذ تموز 1961.

وصف خالد العظم للانقلاب

وفي مذكراته، تحدث الرئيس العظم عن ظروف الانقلاب وكيفية اعتقاله، قائلاً: "في ساحة إدارة الشرطة وقفت بي السيارة ونزلت منها، وكنت إلى جانب سائقها، فرأيت شخصاً بين اثنين من الجنود المسلحين، وقد التفّ بعباءته وهو يصيح بأعلى صوته المتهدج: أنا مريض أنا بردان ارحمونا يا ناس. ولما أوقفوني إلى جانبه عرفته بأنه لطفي الحفار، وقد تجاوز السبعين من عمره، ينوء بالأمراض التي كان يعاني منها، وأنا لست أحسن صحة منه.

وبعد دقائق، أصعدونا إلى سيارة جيب عسكرية، غطاؤها من قماش ممزق، لا يفيد في المطر والرياح، وساروا بنا إلى سجن المزة العسكري، حيث أصبحنا ضيوفاً عليه مع القتلة والمجرمين، وأدخلونا إلى غرفة طويلة كبيرة، يجتازها مجرى واطئ لسيلان المياه الوسخة، وفي آخرها غرفة صغيرة ذات باب خشبي مكسور، وحنفية ماء لقضاء الحاجة فيها وشرب الماء منها، ولم تستطع الإفادة منها قبل الحصول على كرسي واطئ من القش، وقد نزعنا القش عنه ليساعدنا على الجلوس عند قضاء الحاجة، وما أكثرها يومياً للمسنين".

وقد كلف النحلاوي الأمناء العامين بتسيير أعمال وزاراتهم إلى حين تعيين رئيس حكومة جديد بدلاً من الدواليبي، يرضى عنه ضباط الجيش. وقد صدّر النحلاوي الانقلاب الجديد على أنه استمرار لانقلاب الانفصال في 28 أيلول 1961، وقال إن هدفه الإصلاح وتصحيح الانحراف في سورية. وقد صدرت البلاغات العسكرية التي اعتاد السوريون على سماعها منذ سنة 1949، بأرقام تسلسلية متممة لانقلاب 28 أيلول، أي أن البلاغ الأول سنة 1962 حمل الرقم 26، لأن بلاغات الانفصال توقفت عند الرقم 25.

مؤتمر حمص

ولكن ضباط الجيش لم يقبلوا بتطاولات النحلاوي وانفراده في الحكم، وعقدوا اجتماعاً تاريخياً في نادي ضباط المنطقة الوسطى، عقد في مدينة حمص يوم 1 نيسان 1962. وكان المؤتمر برئاسة آمر سلاح الطيران اللواء وديع مقعبري، وهو ضابط حيادي نظيف الكف والسمعة، لا تاريخ انقلابياً له بالمطلق.

انتهى انقلاب النحلاوي الثاني دون إراقة أي دماء، وسقط حكمه الذي لم يستمر إلا أربعة أيام فقط، ودخل التاريخ مع من سبقه من مهندسي انقلابات متتالية، مثل أديب الشيشكلي، ومع من لحقه مثل جاسم علوان

وقرر المؤتمرون في حمص عودة الحياة النيابية وإطلاق سراح رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة مع كل السياسيين، بعد إبعاد النحلاوي ورفاقه عن الجيش ونفيهم خارج البلاد (دون أي اعتقال أو محاكمة). وقد شملت القائمة ضباطاً دمشقيين محسوبين على النحلاوي، وقراراً بإعادة تشكيل قيادة الجيش و"دراسة إمكانية عودة الوحدة مع مصر". وقد تولّى مقعبري، بصفته رئيساً لمؤتمر حمص، مهمة تطهير الجيش من أتباع عبد الكريم النحلاوي.

وبذلك انتهى انقلاب النحلاوي الثاني دون إراقة أي دماء، وسقط حكمه الذي لم يستمر إلا أربعة أيام فقط، ودخل التاريخ مع من سبقه من مهندسي انقلابات متتالية، مثل أديب الشيشكلي، ومع من لحقه مثل جاسم علوان. الشيشكلي قاد انقلابين خلال السنوات 1949-1951، وكلاهما نجح في أهدافه، وحاول القيام بانقلاب ثالث سنة 1956، ولكنه فشل. أما جاسم علوان فقاد انقلابين أيضاً، الأول في زمن الانفصال والثاني في مطلع عهد البعث يوم 18 تموز 1963. انقلابات جاسم علوان بائت كلها بالفشل، عكس انقلابات الشيشكلي الناجحة. أما النحلاوي، فكان انقلابه الأول ناجحاً بامتياز، عكس الانقلاب الثاني، الذي فشل وسقط من الكثير من كتب التاريخ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image