كطفل/مراهق مسلم بالوراثة، ربما كنت أحاول تعويض الظروف الأسرية وطفولتي القاسية بغياب الأب والأم، بالتديّن كعبادات ظاهرية، أحببت أن أكون من بين "سبعة يظلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"، كشاب نشأ في عبادة الله. لكن مع استدعاء ظروفي وتأثيرها السيء حينها، جعلت سؤالي عن قدري، وهل أنا مسيّر أم مخيّر، أول ما همني في مرحلة المراهقة، خاصة عند الاطلاع والتفكير في العقيدة، بما أن الإيمان بالقدر، خيره وشره، أحد أركان الإسلام.
إذا كان قدري بما حدث ويحدث وسيحدث، مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ، أي كأني مجرّد ممثل في سيناريو، أتحرّك وفق أحداث وضعها المؤلف/المخرج دون أن أدري، لكنني أصلاً خُلقت في ظروف لم أخترها، كونت شخصيتي بما يدفعني لاختيارات محددة، كبطل فيلم "ذا ترو مان شو" الذي يكتشف أن حياته مجرّد عرض حي يشاهده العالم.
كان عندي أيضاً شعور بالاغتراب، كنت أكره دراسة الرياضيات لأنها لا تجيبني عن سؤال لماذا، بل وتقيس مستوى ذكائي بمعادلات لا أعرف جدواها، فتصيبني بقلة الحيلة والجفاف العقلي.
هذا ينطبق كذلك على الحياة اليومية وأمورها الروتينية، من التعليم والواجبات المدرسية والبحث عن التفوّق الدراسي لدخول كليات القمّة، مروراً بالحصول على وظيفة والعمل لجمع المال وسلم الترقي الوظيفي، للزواج وتكوين الأسرة والمظاهر الاجتماعية والمناسبات، المحافظة على التقاليد والأعراف، وكل ذلك يكون في الغالب بتوجيه من المجتمع.
أسأل نفسي في وقت راحتي أو قبل نومي، هل هذه الأعمال هي ما أرغب به ويرضيني، ما الجدوى من كل هذا ولماذا أفعل ذلك؟
وكبطل الفيلم قررت التمرّد، ما دفعني لأسئلة وقضايا دينية وفلسفية أكثر وأكبر وأعمق، بسبب الأزمة الوجودية التي كنت أعيشها، أسئلة مثل: كيف خلقت ومن أين جئت؟ كيف أتأكد من وجودي؟ لماذا أعيش؟ هل الله موجود، وأين وكيف هو؟ هل هو أب رحيم أم قاس؟ هل هناك دين صحيح؟
كمراهق مسلم بالوراثة، ربما كنت أحاول تعويض الظروف الأسرية وطفولتي القاسية بغياب الأب والأم، بالتديّن كعبادات ظاهرية، أحببت أن أكون من بين "سبعة يظلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"
صرت شغوفاً أكثر بالفلسفة والبحث عن الحقيقة، بدلاً من التسليم بالدين بالوراثة، لأن الفيلسوف لا يقبل بالخريطة المتداولة التي ورثها، بل يصنع خريطته بخوض رحلة البحث، وكطفل يشعر بالألم ولكن لا يمتلك القدرة على التعبير غير الصراخ، يراكم خبراته اللغوية ليستطيع التعبير من خلالها.
على حافة الانتحار
في يوم ما، بينما أسير محملاً بتلك الأسئلة، ناظراً إلى السماء، سقطت في حفرة.
ربما كانت السقطة السابقة مجازاً عن حالي حينها، عندما كنت مشغولاً بالتفكير في عالم المُثل ونسيت الواقع، اكتشفت أنني كنت أخوض رحلة بحث في الخارج، قبل أن أخوض رحلة داخل نفسي، فالإجابات والأفكار التي توصلت أو لم أتوصل إليها بالعقل أو بالحدس عن اقتناع أو تسليم، لم تكن كافية لكي وأتجنب السقوط في فخ الأزمة الوجودية/ الاكتئاب، بل ربما أنني تأثرت غير واعٍ بالفلسفة العدمية أو العبثية التي لا تؤمن بمعنى، أو أنني انتبهت أن هناك حياة حقيقية خارج الكتب لم أعشها.
أتذكر هنا تجربة التفكير الجاد في الانتحار التي خضتها منذ عدة سنوات، كنت أعمل في وظيفة لا أرضى عنها، كما خرجت للتو من تجربة عاطفية فاشلة، وعلى مشارف دخول فترة الخدمة العسكرية، وتضاعف عبئها مع هذه الظروف، ومستقبلي مشوش من جميع الاتجاهات، فقدت ثقتي بنفسي، وتجارب الماضي المؤلمة تطاردني، تملك مني اليأس، فقدت الرغبة في الحياة، جلست أبكي في غرفتي وأنا أتجهّز للطريقة المثلى، وأتخيل شعور أسرتي.
كتبت رسالة وداع: "الحياة سعيدة لمن يفهمها، وأنني حاولت وللأسف لم أفهم، وطاقتي استنفذت وأريد أن أرتاح، أثق أن الله سيقبلني ولن يرفضني لاستعجالي".
معنى الحياة... لماذا لم أنتحر؟!
"يحتاج المرء منا للمزيد من الشجاعة لكي يعيش، لا لكي ينتحر". ألبير كامو
عندما مرت موجة الاكتئاب الأكثر حدة في حياتي، وسألت نفسي لماذا لم أنتحر؟ ما الذي يمنعني، عندما أقف أعلى الكورنيش أو بناية عالية، أن ألقي بجسدي؟
ببساطة اكتشفت أن هناك معنى وإمكانية لاحتمال الألم، بعيداً عن الخوف من المجهول/ العقاب/ معاناة أسرتي. فألهمني عندما تيقظت مبادئ مدرسة الفلسفة الوجودية العلاج بالمعنى النفسية، كما فهمتها وآمنت بها.
"إن من يجد سببا يحيا به، فإن في مقدوره غالباً، أن يتحمل في سبيله كل الصعاب بأي وسيلة من الوسائل". نيتشه
كنت أعمل في وظيفة لا أرضى عنها، كما خرجت للتو من تجربة عاطفية فاشلة، وعلى مشارف دخول فترة الخدمة العسكرية، فقدت الرغبة في الحياة، جلست أبكي في غرفتي وأنا أتجهّز للطريقة المثلى، وأتخيل شعور أسرتي
لم أكن بحاجة للخلاص من القلق، بقدر ما أنا بحاجة للسعي نحو المعنى الذي يهدّده الإحباط والفراغ الوجودي. هذا المعنى الذي يبثّ الأمل الروحي، يلهم عقلي ويعين جسمي على تحمل الألم والتضحية من أجله، لأكون جديراً بآلامي الحتمية، وهذا هو معنى البقاء.
من القراءات الفلسفية، أذكر أكثر المعاني (الجميلة أدبياً)، في حلول مشكلة الشر التي ذكرها المؤلفون، هو التناظر الفني: الذي يعني أن هناك نوعاً من التناظر بين العالم والعمل الفني، حيث يشتمل التناغم في قطعة موسيقية عادة على حالات نشاز تم احتواؤها، كما تحتوي اللوحة على مساحات واسعة من العتمة إلى جوار بقاع من النور، وبالمثل – كما يقول البرهان – إن الشر يساهم في ذلك التناغم أو الجمال الإجمالي الذي يتصف به العالم.
ولأنَّ الله سيعاقِب مرتكبي الأعمال الشريرة يوم الحساب، فإن هذا يجعله إلهاً خيِّراً. ثمَّة العديد من التفسيرات الأخرى للمشكلة، منها أن الشر هو نتاج إساءة استخدام المخلوقات الحيَّة للإرادة الحرة التي منحها الله، وأن المعاناة ضرورية لتطور الناس الروحاني، وأن البشر أقل إدراكاً أساساً من أن يفهموا أسباب الإله للسماح بوجود الشر.
"...يوجد إنسان في البداية، يواجه ذاته، ينطلق في العالم، ثم يعرّف نفسه بعد ذلك". سارتر
بينما يختلف المعنى الذاتي من شخص لآخر واكتشاف المعنى الخاص كلاعب الشطرنج في كل مباراة ولعبة مختلفة. إن فقدت المعنى أو لم يكن موجوداً، عليّ صنعه بنفسي، كما قال سقراط: "الحياة ليست بحثاً عن الذات، ولكنها رحلة لصنع الذات". أنا أختار المعنى الذاتي الذي أسعى له وأعيش من أجله، للحياة التي أريدها، أنا حر ومسؤول عن أفعالي، والحرية تتبعها المسؤولية، لتكوين هويتي وصورتي الذاتية وشخصيتي، لأعيش متسقاً معها.
فأنا أواجه الانتحار دون الاستسلام له، برغم قيود واقعي وبيئتي وظروفي، قيم المجتمع المغايرة/ المضادة، أزمات وجودية تجعل العالم يبدو عبثياً بلا معنى، وقيود واقعي وبيئتي وظروفي، وآلام تجارب الماضي المسيئة في الطفولة أو بعدها، لا يمكن ولا يفيد تجاهل تأثيرها السلبي. لكن كياني وشخصيتي وواقعي الحالي، لا ينحصر فيهم/ يعتمد عليهم فقط، فأنا مسؤول عن اختياراتي تجاههم. بقدر معقول من التوتر بين الواقعية والمثالية، أي (ما أنا عليه) و (وما ينبغي أن أكون عليه) لحماية هذا المعنى الذي يعلو على الواقعية والكينونة.
ماهية السعادة
الكلام المثالي عن الامتنان للألم والتجارب السيئة، غالباً ما يكون فارغاً بلا معنى في فترة الصدمة والاكتئاب. لكن هذا ما أصدقه وأؤمن به الآن، حتى لو كان هو الاختيار الوحيد المتاح، لكي أرضى وأسير متخطياً حصار الماضي، ما دام لم أنتحر فلم أصل بعد لليأس الكامل، ولا يلزم أن أبحث عن متعة معادلة لألمي، يكفي أن أمر بيومي سليماً، حتى لو كنت وحيداً وليس معي سوى قوت يومي، عندما أرفض ذلك سأنتحر ولن أضيع وقتي في بث الكآبة والعدمية، لأن حينها لن يكون لكلامي معنى.
******
من الشائع أن تُراود الإنسان أفكار انتحارية، وليس هناك ما يدعو للشعور بالخزي؛ فأنت لست وحدك. إذا كانت تراودك أفكار انتحارية، فلا تكتمها في نفسك، لأنك لربما تحتاج إلى شخص ثقة تتحدث معه. وقد يكون شخصاً تعرفه أو شخصاً يعمل لدى الخط الهاتفي المخصّص للدعم النفسي في محيطك/ بلدك. تحدث معه/ا، لا تخف من الوصم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...