شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
مذكّرات رجال الأعمال... قصص كفاح أم تدوينات لتبييض السمعة؟

مذكّرات رجال الأعمال... قصص كفاح أم تدوينات لتبييض السمعة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 29 مارس 202305:15 م

من النادر أن يقرر رجل أعمال عربي كتابة مذكراته، ربما لأن العديد من رجال الاعمال لا يرون أهمية لذلك، أو ربما يعتقدون أن صدقيتهم ستكون على المحك. فلدى بعضهم  قصص كفاح ملهمة قد يستفيد منها الكثيرون، ولكن البعض الآخر قد يستخدم تلك المذكرات وسيلة لتبييض السمعة.

في مصر، تبرز تلك المسألة نتيجة الصورة غير الإيجابية عن رجال الأعمال وفسادهم، خاصة بعد "زواج المال والسلطة" وتولي العديد منهم مناصب سياسية وحقائب وزارية في نهاية عهد مبارك قبل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني بسنوات قليلة في ظل صعود الحكم "التكنوقراطي" برعاية لجنة السياسات في الحزب الوطني المنحل، التي كان معظم نجومها من رجال الأعمال، حتى أن البعض عزا الثورة المصرية إلى تحكم رجال الأعمال في الاقتصاد وفي البلد كلها لصالح "البيزنس".

تلك الصورة عن فساد رجال الأعمال بدأت مع خطاب يوليو/حزيران 1952 الذي جنح إلى تخوين النخبة الاقتصادية واتهامها بالتآمر مع "العهد البائد" في إشارة إلى علاقة معظم رجال الأعمال بالقصر، على الرغم من أن تاريخ التجارة والصناعة والثراء في مصر عموماً كان مرتبطاً بإبداء الولاء للسلطة والسعي للبقاء على يمينها خشية التنكيل. وهو ما استمر بعد ثورة يوليو نفسها إلى الآن، إلا أن نخبة المال والثروة نفسها تغيرت بعد حركة الضباط في 1952 لتتحول من أفراد "مقربين من السلطة" إلى "أعضاء في النخبة الحاكمة"، فيما يسمى في لغة السياسة بـ"الأوليغاركية/ الأوليغارشية".

تاريخ الأعمال والثراء في مصر طالما ارتبط بإبداء الولاء للسلطة والسعي للبقاء على يمينها خشية التنكيل. وهو ما استمر بعد ثورة يوليو نفسها إلى الآن، غير أن نخبة المال والثروة تغيرت لتتحول من أفراد "مقربين من السلطة" إلى "أعضاء في النخبة الحاكمة"، فيما يسمى في لغة السياسة بـ"الأوليغاركية/ الأوليغارشية"

هذه النظرة السلبية لرجال الأعمال انعكست على فترة الانفتاح بعد ذلك، ربما هذا ما جعلهم يعزفون عن كتابة مذكراتهم، حتى أن أحد أعمدة الاقتصاد المصري الحديث طلعت باشا حرب ( 1867 – 1941 ) الذي أسس نحو 22 شركة انطلاقاً من بنك مصر، وله العديد من الكتابات في الاقتصاد والسياسة والقضايا الاجتماعية، لم يكتب مذكراته، واكتفى بكتابة تجربته ونصائحه وخبراته في العمل العام قبل أن يموت كمداً في 1941 بعد أن أجبرته السرايا على الاستقالة من بنك مصر.

رجال الأعمال يصلون إلى عالم الكتاب

 عادت فكرة المذكرات تطفو على السطح من جديد مع صدور مذكرات رجل الأعمال المصري الراحل رؤوف غبور "خبرات ووصايا"، ومن قبله صدرت مذكرات رجل الأعمال الراحل محمود العربي (1932 – 2021) صاحب مصانع توشيبا العربي لتصنيع الأجهزة الكهربائية، في دار نهضة مصر عام 2015 تحت عنوان "سر حياتي – حكاية العربي"، وكتبها خالد صالح مصطفى. وتضمنت المذكرات حكاية العربي منذ خرج من قريته الصغيرة أبو رقبة بمحافظة المنوفية وعمله في محل صغير بالموسكي إلى أن أصبح صاحب امبراطورية كبيرة ولقب بـ"شهبندر التجار".

رجل الأعمال نجيب ساويرس، الذي يتميز عن أقرانه بحرصه الدائم على القرب من مجتمع الفن والثقافة والأدب، أصدر في 2017، كتابه "مصر من غير لف ودوران" الذي قدم له رئيس اتحاد الكتاب السابق محمد سلماوي، ودوّن ساويرس في بعض فصول الكتاب تجاربه في عالم السياسة، منذ أسس حزب المصريين الأحرار عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011.

تضمن كتاب ساويرس رؤيته للثورة والاقتصاد ودور الجيش والتصدي للإخوان، ولكن لم ترد تفاصيل ترتبط بحياته الشخصية.

مذكرات رؤوف غبور الصادرة قبل أشهر قليلة من رحيله حوت خلاصة مشواره وخطة نجاحه والعثرات التي تعرض لها ودخوله السجن والقروض التي كانت تطارده، ليصبح في النهاية واحداً من أكبر رجال الأعمال في مصر

مذكرات غبور

رجل الأعمال المصري صلاح دياب، الذي خاض تجارب الكتابة من خلال التعليق السياسي في باب "نيوتن" في الصحيفة التي يملك معظم أسهمها "المصري اليوم"، يقول في شهادته التي تُذيّل كتاب صديقه الراحل رؤوف غبور(تأتي في خاتمته): "هناك أوهام لدى قطاع عريض من الرأي العام، أن رجال الأعمال هم أقرب لمصاصي الدماء. هدفهم الأعظم هو الحصول على المكاسب المادية بشتى الطرق. هذا خطأ عظيم وينبغي أن نواجهه، وكتابة مذكرات الشرفاء أصحاب الأيدي النظيفة من شأنها أن تساعد في تغيير هذه الصورة".

مذكرات غبور الصادرة قبل أشهر قليلة من رحيله حوت خلاصة مشواره وخطة نجاحه والعثرات التي تعرض لها ودخوله السجن والقروض التي كانت تطارده، ليصبح في النهاية واحداً من أكبر رجال الأعمال في مصر، ولديه توكيلات لنحو خمس ماركات سيارات من كوريا والصين، أهمها هيونداي، بالإضافة للعديد من الشركات في مجالات أخرى.

 في بداية المذكرات يؤكد رؤوف غبور أن "هذا التقليد" أي كتابة المذكرات، غير شائع في مصر أو الدول العربية، ولكنه موجود في الغرب بكثرة.

 قصص النجاح والكفاح تكون ملهمة للكثير من الجمهور، ولكن البعض يتخوف من ردود الفعل حول ما يرد في مذكرات رجال الأعمال، فهل هم دائماً يقولون الحقيقة؟ وهل كانوا دائماً على هذه الدرجة من المثالية التي حاولوا توثيقها في مذكراتهم أم أن الأمر لا يخرج عن كونه شهادة للتاريخ ومحاولة لغسيل السمعة، بعدما اشتهر به بعض رجال الأعمال في مصر تحديداً إثر التورط في قضايا فساد واستغلال نفوذ ورشى وقروض، وحتى قضايا وجرائم الفساد الأخلاقي.

خلال فترة السجن تعرف رؤوف غبور على أحمد الريان والعديد من قيادات الجماعات الإسلامية وحكى عن علاقته بهم وكيف كان يعطيهم محاضرات في الاقتصاد ويوضح لهم الفرق بين الاقتراض من البنوك بفائدة وبين الربا

رؤوف غبور المولود في القاهرة عام 1953، والذي رحل بعد شهور قليلة من نشر مذكراته العام الماضي 2022 يعترف في البداية أنه لم يكتب عن كل من عرفهم. فهناك أسماء سيخفيها لموقعهم الحساس أو لخطورة الأحداث التي مر بها معهم، ويؤكد أنه قرر كتابة تلك المذكرات بناء على طلب أصدقائه والمقربين منه ليقدم تجاربه وخبراته ووصاياه للأجيال القادمة، خاصة بعد إصابته بمرض السرطان وقيامه برحلات علاجية للخارج للتعافي منه.

ويبدأ غبور المذكرات بالحديث عن الطفولة وكيف أنه بدأ رحلته كرجل أعمال منذ سن السابعة في بيع "صينية بسبوسة"، وهي الحكاية التي تداولها الناس قبل أيام من رحيله واستمرت في الانتشار بعده.

ثم يحكي عن كيفية دخوله مجال التجارة في إطارات السيارات والعمل مع أبيه كمال غبور وعمه صادق غبور، ونجاحه الكبير في هذه التجارة حتى قرر الانفصال عنهما وتكوين شركته الخاصة.

يحكي غبور عن طفولته وكيف أنه كان يلعب في الشارع مع أبناء البوابين والسواقين والطباخين، في إشارة واضحة للطبقة الارستقراطية التي ينحدر منها، وكذلك لمنح حياته مسحة من "التواضع والتنازل الطبقي".

يحكي أيضاً كيف ساعدته دراسته في "الجيزويت" – مدرسة يشرف عليها رهبان الجيزويت والتدريس فيها يكون باللغة الفرنسية- ومعرفته باللغات، على اقتحام مجال الأعمال، وكيف انجذب لهذا المجال وأهمل دراسته للطب، ليحقق نجاحات متتالية في مجالات أعمال متفرقة، لجأ في بعضها للتحايل على القانون، وإن كان لا يستخدم هو ذلك الوصف.

حكى غبور كذلك عن "تجريب حظه في مجال الاتصالات"، الأمر الذي أدى لتعرضه للسجن بتهمة الرشوة، ويحكي عن هذه التجربة موضحاً أنه فوجئ بجار له اشترى منه قطعة أرض (كانت مملوكة لجمعية أهلية) يطلب مبلغاً من قيمة الأرض. وبالفعل ذهب إليه يوم الجمعة في منزله وأعطاه المبلغ، لكن هذا الرجل - وكان مرشحاً لمنصب حكومي حساس-  كان هاتفه مُراقباً، وقال لرؤوف: "مبروك عليك سنترال دمياط "، وقال جملة "الطبيخ سريع"، وهو أمر استغربه رؤوف تماماً وجعله يتوتر، ورغم ذلك ذهب إليه بالمبلغ المالي ليتم توقيفه بعد ذلك، وطلبوا منه الاعتراف برشوة المسؤول لكنه رفض، وقال إن هذه الأموال تخص أراضي اشتراها منه، وقضى في السجن أكثر من ستة أشهر نهاية عام 1991 وبدايات العالم التالي، فهل هذه الحكاية حقيقية أم محاولة لغسل السمعة؟

خلال فترة السجن تعرف غبور على أحمد الريان والعديد من قيادات الجماعات الإسلامية وحكى عن علاقته بهم وكيف كان يعطيهم محاضرات في الاقتصاد ويوضح لهم الفرق بين الاقتراض من البنوك بفائدة وبين الربا.

بعد خروجه من السجن وجد أن كل التوكيلات التي حصل عليها ومعظم مشروعاته تعثرت، وأعاد بناء شركاته من خلال القروض ووقعت أزمة كبيرة متعلقة بالقروض، إذ وصلت ديونه إلى نحو 3 مليارات جنيه، الأمر الذي جعله يلجأ لوزير المالية يوسف بطرس غالي الذي ساعده في جدولة الديون بضمان البنك المركزي.

كشفت مذكرات غبور عن العديد من دهاليز عالم الأعمال والصفقات وبناء الشركات ومأسستها، وانتهت بشهادات من الأبناء والأصدقاء، فهل يمكن اعتبارها نوعاً من أدب الاعتراف أو التطهر أم وصفة محكمة ومفعمة بالخبرات؟

رجل الأعمال وأمن الدولة

يذكر غبور في مذكراته حكايته مع الضابط المكلف متابعته في أمن الدولة الذي سأله يوماً: "ما نسبة المسلمين والمسيحيين الذين يعملون في شركاتك؟". فتعجب غبور من السؤال وقال إنه لم يفكر في ذلك يوماً، لكن عموماً هناك اختبارات لقبول الموظفين يخضع لها الجميع ونختار الأكفأ. وقال بصراحة إذا تساوى المسلم والمسيحي في الكفاءة المطلوبة فإنني أختار المسيحي، ليس تعصباً لديني ولكن لأنني أعرف أنه لن يجد فرصة مشابهة في مكان آخر.

اللافت في هذه المذكرات أن اثنين من رؤساء البنك المركزي كانا مستشارين لدى شركات غبور قبل توليهما المسؤولية، وهما فاروق العقدة الذي تولى دفة البنك الأهلي بناء على توصية من رؤوف غبور، وبعدها بعام تولى منصب محافظ البنك المركزي، وكذلك حسن عبد الله القائم بأعمال محافظ البنك المركزي حالياً.

تأتي مذكرات غبور لتكشف عن العديد من دهاليز عالم الأعمال والصفقات وبناء الشركات ومأسستها، وتنتهي بشهادات من الأبناء والأصدقاء، منهم طارق نور وحسن عبد الله. فهل يمكن اعتبارها نوعاً من أدب الاعتراف أو التطهر أم وصفة محكمة ومفعمة بالخبرات والوصايا للصعود في عالم البيزنس وتخطى العقبات المتتالية، وتغيير الصورة الذهنية السلبية التي تم تصديرها عن رجال الأعمال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image