"اللي قدك صار عندن ولاد"… أحب الأطفال جداً، أحلم باليوم الذي سأصبح فيه أماً لأربعة أطفال وربما أكثر، أتخيل أحياناً انني سأصبح أماً عظيمة، لم يفارقني يوماً مشهد سأحضن فيه طفلي عندما يمشي للمرة الأولى، ولكن لماذا نعتبر الزواج وإنجاب الأطفال إنجازاً نسبق فيه الآخرين؟
كثيراً ما تستخدم هذه العبارة لاتهام البنت العزباء بالتقصير في تحمّل المسؤوليات، فيمكن أن ترميني بها والدتي عندما أهمل ترتيب المنزل بعد 10 ساعات عمل متواصلة في مكتبي، شعرت بعدها بالفخر من ممارسة عملي الذي أحبّ، لكن تعبي الشديد منعني من ممارسة الأعمال المنزلية. هنا تبدأ المقارنة بيني وبين بنات كنّ زميلاتي في مرحلة من مراحلي الدراسية، أو من جيلي في الحي الذي نشأت فيه.
أستذكر مع تلك العبارة السنين التي تلت سنواتي الدراسية، ما الذي فعلته صديقاتي حتى ظفرنَ بعريس ينجبن منه الأطفال؟ هل قصّرت في وضع خطة استراتيجية جيدة من أجل اللحاق بقطار الزواج والإنجاب؟ هل أخذ شغفي بمهنتي وحماسي الكثير من وقتي كما تتّهمني أمي وصديقاتها في جلسات القهوة الصباحية، ثم تضيف والدتي: "عم بمزح بعدك صغيرة، بس خفّفي شوفة حال".
في شي عالطريق؟
هذا التوتر النفسي المتواصل مصحوباً بالشعور بالتقصير الدائم لا يقتصر على العزباء فقط. ذات يوم قصّت عليّ قريبتي كيف يعاملها المحيطون بها منذ أن تزوجت قبل سنة. فور عودتها من شهر العسل، انهالت عليها عبارة "شو، في شي عالطريق؟".
كانت تجيب بأنها وزوجها قرّرا عدم الإنجاب في سنة الزواج الأولى، بهدف قضاء بعض الوقت الممتع وزيارة بعض الأماكن الجميلة، هل تعتبر هذه الأسباب كافية لعدم الإنجاب في مجتمعنا حتى ولو تمّت بالاتفاق بين طرفي العلاقة الوحيدين؟ بالطبع لا.
يبدأ الحاضرون بالوشوشة بصوت مخفوض: "بركي ما لحقتي تجيبي، بركي طلع عندك مشاكل، بدك تلحقي تتعالجي". سيطر الأمر على تفكيرها وفكّرت بتغيير مخططاتها، إلى أن ذهبت أخيراً إلى طبيب متخصّص وسألته عن حالتها الصحية رغم أنها لا تعاني من شيء يستدعي القلق.
"اللي قدك صار عندن ولاد"… ما الذي فعلته صديقاتي حتى ظفرنَ بعريس ينجبن منه الأطفال؟ هل قصّرتُ في وضع خطة استراتيجية جيدة من أجل اللحاق بقطار الزواج والإنجاب؟ هل أخذ شغفي بمهنتي وحماسي الكثير من وقتي؟
"لن يختارها أحد"
لم أحبّ يوماً مسلسلات شامية عدة، منها ما ارتبط بذاكرتي بعبارات وممارسات ذكورية تكفي لمقتها ومحاربتها منعاً لانتشارها وتكرار استخدامها، وخصوصاً بعدما صار يعتبرها كثيرون مدرسة لتعليم "التعامل السليم" بين الرجل وزوجته أو البنت وأخيها.
كنت أشاهد تلك المسلسلات عندما كنت صغيرة، لكنني لا زلت أذكر مشهداً واحداً كثيراً ما تكرّر فيها، يبدأ مع الأم التي تريد أن تخطب لابنها بنتاً "آدمية". عادة ما "تستخير الداية" وتذهب إلى منزل فيه الكثير من الخيارات، من الطويلة إلى البيضاء إلى ذات الشعر الكستنائي، تدخل الفتيات بأبهى حلّة. "لحظة"، تصرخ الداية قبل أن تبدأ عملية العرض والطلب، وتأمر باستبعاد من هنّ فوق الـ20 عاماً، فاحتمالية الإنجاب تصير أقل والشابّ يجب أن يصبح أباً في أسرع وقت، ترجع الفتيات المستثنيات إلى غرفهن منكسرات يبكين حظهن، ولكن هل تعرف الفتاة ما الذنب الذي أبقاها دون زواج إلى ما بعد سن العشرين؟ بالطبع لا تعرف، لكن التعليقات حولها تؤكّد لها أن أحداً لن يختارها، فقد أصبحت في دائرة الخطر وقد لا تلحق الإنجاب - هكذا قالت لها النساء - رغم أنها في سن العشرين فحسب!
من يشاهد تلك المسلسلات التي يتحدث أغلبها عن فترة الاحتلال العثماني لبلاد الشام من ثم الانتداب الفرنسي، يظنّ أن هذا المشهد "أكل عليه الدهر وشرب"، إلّا أنه، وللمفارقة، لا زال يتكرّر حتى عامنا هذا، وربما سنحمله معنا إلى سنين قادمة، وربما إلى كواكب قد نزورها ونخبر كائناتها عما وصلنا إليه من دراسات عن الإنجاب والمشاكل التي ترافقه.
"بنتين من مصر"
تستعيد ذاكرتي فترة قصيرة من مراهقتي، كانت في بداية حبي لعالم الأفلام، خصوصاً تلك التي تأخذ على عاتقها قضية تلخص معاناة النساء العربيات. شاهدت فيلماً اسمه "بنتين من مصر" بطولة الممثلتين صبا مبارك وزينة، يحكي قصة فتاتين تصارعان الزمن من أجل إيجاد العريس المناسب وتحقيق حلم الأمومة.
حفلات الزواج والخطبة والولادة هي مناسبة لتقسيم النساء وفرزهنّ فئات، فمن استطاعت الزواج والإنجاب هربت من نظرات الاستجواب، أما من بلغت سن الثلاثين دون زواج وبالتالي دون أطفال، عليها أن تبرّر الأسباب التي أدت بها إلى هذا الوضع "المزري"
بطلتا الفيلم، حنان وداليا، كانتا متفوقتين جداً في الدراسة والعمل، ومع أنهما تمتّعتا بثقة قوية في بداية حياتهما، لكنّ الضغوط الخارجية تمكنت من زعزعتها. البداية كانت مع البحث عن عريس، في العمل، في الحي، حتى لجأت إحداهما إلى مكتب للتزويج، ووضعت شروطاً مخفّضة للعريس المناسب، بعدما رفض زميلها الزواج بها بحجّة أنه يريد الأصغر سناً.
في إحدى المرات، توافق حنان مرغمة على الذهاب مع العريس المنشود إلى عيادة نسائية للكشف عن عذريتها، وعندما اكتشف أنها عذراء تركها أيضاً لتشكيكه بجميع النساء! تسبّب ذلك بخلاف شديد بينها وبين صديقتها داليا التي قالت لها جملة لن أنساها: "إزاي تهون عليكِ نفسك كدة، إزاي تقبلي دا على كرامتك؟"، لتردّ عليها حنان: "هي أحلام اليقظة ولعبنا بالعرايس كأنهم ولادنا، دي فيها كرامة؟".
هل نستحق الشفقة؟
حفلات الزواج والخطبة والولادة في مجتمعنا ليست مناسبات للفرح فقط، بل هي مناسبة لتقسيم النساء وفرزهنّ فئات، فمن استطاعت الزواج والإنجاب أو حتى لديها حبيب يمكنه إنقاذها باكراً وتغيير الفئة التي تنتمي إليها، هربت من نظرات الاستجواب، أما من بلغت سن الثلاثين دون زواج وبالتالي دون أطفال، عليها أن تبرّر الأسباب التي أدت بها إلى هذا الوضع "المزري".
أحياناً لا أدري كيف أردّ على عبارات مكرّرة كـ"لا تخافي بكرا الله بيبعتلك"، أو ليش بعدك قاعدة، شو عم تعملي بحالك"، أفكّر ملياً ماذا فعلتُ بنفسي، ثم أتساءل: هل فعلاً نستحق كل تلك الشفقة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...