"شو بدِّك تتعلمي سوّاقة؟ لتكوني مفكرة حالك زلمة! فش بنات بتتعلم سواقة عِنّا". هذه الجملة لطالما سمعتها إلهام يوسف عندما كانت تبدي أمام أقاربها الرجال اهتمامها بتعلّم قيادة السيارات.
إلهام (52 سنة) سيّدة من شمال قطاع غزة أحبّت السيارات منذ صغرها. تقول لرصيف22: "كنت دايماً أحلم وأتخيل حالي إني بسوق بأجواء شتوية وقاعدة عَ كرسي هالسواق وطايرة والهوا بخبط فيا وبلفلف".
عندما بلغت العشرينات من عمرها وأخبرت عائلتها برغبتها بتحقيق شغفها في تعلم القيادة، وقف لها الجميع بالمرصاد ونعتوها بالمتمردة. حاولت المحاربة لنيل ما ترغب فيه ولكنها فشلت في ذلك الوقت، وظلّ الحلم حاضراً في قلبها وعقلها.
هو حلم قد يعتبره كثيرون بسيطاً، لكنه كان شبه مستحيل في محيطها العائلي. لا تزال تذكر ردّ أخوالها عليها عندما عرضت الأمر عليهم. قالوا لها: "شو بدك الناس تحكي علينا؟"، و"بدك تقعدي جنب زلمة يعلّمك كمان؟!".
إلهام لم تيأس. حاولت الالتحاق بمدرسة لتعليم القيادة بعدما وفرت عملاً خاصاً بها. تسجلت خلسة بعيداً عن أعين العائلة، ولكن أمرها كُشف ووُبّخت بشدة. لم يكن هدفها شراء سيارة وقتها فإمكانياتها المادية لم تكن تسمح لها ولكنها أرادت التعلّم والشعور بمحرك السيارة.
سنوات كثيرة مرّت وبقي حلمها الأعظم أن تتعلم قيادة السيارات، ولأن الأحلام تصبح حقيقة في أحيان كثيرة، إذا أبقيناها حيّة، وصلت السيّدة الطموحة إلى ما أرادته في عمر الـ51، عندما تزوجت من رجل ميسور الحال وحدثته عن حلمها الصغير البسيط، فرحّب وشجعها وقال لها: "طبعاً، تعلمي وبجبلك السيارة". ومن تلك اللحظة وهي تسير بسيارتها كعصفور نجح أخيراً في الفرار من قفصه.
"عيب"!
تقيم السيدة أنيسة أبو ندى (55 سنة) في مدينة غزة. قصتها لا تختلف عن قصة إلهام كثيراً. تجمعها بها رغبتها الشديدة في خوض تجربة تعلم القيادة.
تحفّظ المجتمع سابقاً على قيادة المرأة واعتبارها "عيباً" دفع أنيسة إلى إخفاء رغبتها، فظل حلمها الصغير بينها وبين نفسها وراحت الأعوام تمرّ. تتنهّد بعد ثوانٍ من الصمت، وتقول لرصيف22: "المفترض أن أكون قد تعلمت القيادة من زمان. تأخرت كتير بهي الخطوة".
أنيسة لم تدافع عن رغبتها في الماضي، خوفاً من الثقافة السائدة ونظرة الجتمع المتشددة. تقول إنها لو أصرّت على العائلة قليلاً لمارست شغفها في عمر الشباب ولكنه النصيب، فهي تؤمن بأن لكل شيء ميعاد.
تزوجت أنيسة وربّت أسرة، ولم تنسَ حبها للسيارات. وبمرور الأعوام، عندما بدأت ترى انفتاحاً وتقبلاً من المجتمع وتغيراً في النظرة المجتمعية إلى قيادة المرأة، إذ "صار عادي ومقبول وصار انفتاح بغزة وحتى عقول أهالينا تغيرت عن زمان بكل شي"، قررت تحقيق رغبتها القديمة فبدأت بتعلم القيادة بعمر الـ54. "لم لا؟ لنتوجه نحو الحلم القديم"، قالت لنفسها.
تزوجت وربّت أسرة، لكنّها لم تنسَ حبها للسيارات. وبمرور الأعوام، عندما بدأت ترى انفتاحاً وتقبلاً من المجتمع وتغيراً في النظرة المجتمعية إلى قيادة المرأة، قررت تحقيق رغبتها القديمة وهي بعمر الـ54
سهّل الأمر عليها وجود عدد كبير من مدراس تعليم القيادة في منطقتها. تسجلت في إحداها وبدأت تستكشف السيارة عن قرب. وبالرغم من صعوبة البدايات إلا أنها واظبت على التعلّم.
تروي أنها خلال تدرّبها على القيادة، كان سائقون كثيرون يفسحون الطريق لها ويغمرونها بالدعوات "الله ينجحك"، ما كان يشعرها بالسعادة. وبعد أشهر، حازت على رخصة القيادة، بعد سنوات من الانتظار. تختم حديثها ضاحكة: الصغار صاروا يتعلمو. الكبار بدهمش يتعلمو يعني؟ بدنا نتعلم".
زيادة الإقبال
تعمل سميرة صيام مدربةً على قيادة السيارات في مدرسة الشاطئ. هي أول امرأة امتهنت هذه المهنة في غزة. تقول لرصيف22 إن إقبال النساء على تعلم قيادة السيارات زاد في الأعوام الأخيرة بشكل لافت وذلك بسبب اختلاف النظرة المجتمعية نحو قيادة المرأة للسيارة، وتستذكر كيف أنه حينما بدأت هي بتعلم القيادة في ثمانينيات القرن الماضي، لم يكن الأمر مألوفاً في المجتمع الغزي، وفي مناطق كثيرة في غزة كان "عيباً".
"تعرضتُ للكثير من الانتقادات في بدايتي من المجتمع ونظرته التي كانت تعتبر أنني أود منافسة الرجال في أعمالهم وأنني أفعل فعلاً منافياً للتقاليد"، تروي وتضيف: "لكني لم أهتم بذلك وبقيت على رأس عملي".
واكبت المدربة الستينية في عملها تغيّرات ثلاثة عقود من الزمن. تدرب تحت يديها الآلاف من الرجال والنساء. تقول: "وجودي كمدربة في هذا المجال أفسح للنساء الفرصة للتدرب تحت يديّ، فمنهن مَن تود التعلم على يد سيدة تبعاً للعادات والتقاليد. دربت نساء من مختلف محافظات قطاع غزة، وكن يأتين إليَّ بالاسم".
وعن السبب في تغيّر نظرة المجتمع نحو قيادة النساء للسيارات، تحكي أن "غزة لم تكن قديماً بنفس الانفتاح الحالي، كنا مجتمعاً منغلقاً على نفسه والنظرة إلى مَن تقود كانت سيئة، أما الآن، فتغيّرت الأفكار والعقول أيضاً، وصار التشدد في كثير من الأمور الحياتية أقل حدة من ذي قبل".
في المنطقة العربية، وبالتحديد في العام 1920، حازت المصرية عباسية أحمد فرغلي على أول رخصة قيادة تنالها امرأة. في ما بعد، اتجهت النساء تدريجياً في معظم الدول نحو قيادة السيارات.
توضح الإدارة العامة للحاسوب في وزارة النقل والمواصلات لرصيف22 أن 824 امرأة حصلن على رخصة قيادة خلال العام 2014، فيما حصلت عليها 1134 امرأة خلال العام 2015، و1114 امرأة في العام 2016، و1317 امرأة في العام 2018، و1379 امرأة في العام 2019، و1164 امرأة في العام 2020، و2154 امرأة في العام 2021، و2239 امرأة في العام 2022.
ورغم أن نظرة المجتمع الغزّي قديماً كانت تستهجن بشكل كبير قيادة المرأة للسيارة، إلا أن هذا لا ينفي وجود عائلات كانت تسمح بالأمر، ولكنها قلة. وكانت أكثر الملتحقات بمدراس القيادة من موظفات المؤسسات الدولية.
"غزة لم تكن قديماً بنفس الانفتاح الحالي، كنا مجتمعاً منغلقاً على نفسه والنظرة إلى مَن تقود كانت سيئة، أما الآن، فتغيّرت الأفكار والعقول أيضاً، وصار التشدد في كثير من الأمور الحياتية أقل حدة من ذي قبل"
عوامل عدّة أسهمت في تغيير النظرة القائمة، منها انفتاح المجتمع الغزّي على العالم أكثر، ومنها ما تتحدث عنه الناشطة النسوية عندليب عدوان، ومفاده أن تسلم حركة حماس الإسلامية مقاليد الحكم ووصول نساء من الحركة إلى مراكز قيادية سياسياً واجتماعياً ساهم بشكلٍ أو بآخر في نيل المرأة حريتها بالحصول على رخصة قيادة.
"العديد من النساء العاملات في تلك المراكز واللواتي يُمثلن واجهة لفئة كبيرة من هذا المجتمع أصبحن يقدن مركبات وبالتالي تشجعت الكثيرات من النساء الأخريات في القفز نحو هذه الخطوة أسوةً بهن"، تقول لرصيف22.
هكذا، حين رأى أبناء غزّة موظفات في مؤسسات إسلامية يمتلكن رخص قيادة، ومنهن منتقبات، انكسر الربط بين القيادة وبين مفاهيم الـ"حرام" والـ"عيب"، وتغيّرت الصورة النمطية التي كانت سائدة، ولم يعد في قيادة المرأة حرج، بحسب عدوان.
وتضيف عدوان أن احتياج المرأة العاملة للسيارة ساهم في دفعها نحو خطوة تعلّم القيادة، إضافة إلى أن نظام التقسيط المريح عزز الإقبال على شراء السيارات وتعلم قيادتها.
بدورها، ترى سميرة صيام أن ما سهّل الأمر على النساء أن كثيرات منهن أصبحن يعملن ولديهن استقلال مادي يستطعن من خلاله التعلم وشراء سيارة بنظام التقسيط المريح.
وتضيف أن تعدد خيارات مدارس تعليم القيادة، ودخول مدرّبات أكثر إلى هذه المدارس، شجع النساء في غزّة وشجع عائلاتهن على إرسالهن للتعلم، بل صار الآباء يشجعون بناتهن على الأمر، "فبمجرد انتهاء الفتاة من الثانوية العامة يأتي الأب بنفسه لتسجيلها لنيل الرخصة، على عكس الآباء القدامى وعقليتهم المتشددة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...