"أي حد يقول كلمة عن بلدنا يحصله إيه؟ يتقطع". قالتها وزيرة الهجرة المصرية السابقة نبيلة مكرم عبيد في معرض لقائها بأفراد من الجالية المصرية في كندا، خلال جلسة نظمتها السفارة المصرية في البلاد عام 2019.
أشارت هذه الالتفاتة التي جاءت بعد أشهر قليلة من اغتيال الصحافي السعودي الراحل جمال خاشقجي، إلى عنوان العلاقة بين السلطات المصرية ومواطنيها في الخارج والداخل. وإن لم تقدم هذه السلطات على اغتيال معارضيها كما في واقعة خاشقجي، فإنها وجدت طرقاً أخرى كي تحوّل حياتهم في المهجر أو "المنافي الاختيارية" إلى رحلة صعبة بحرمانهم من حقوق الأساسية، على رأسها استخراج الأوراق الثبوتية.
مئات المصريين في الخارج يعيشون وأسرهم بلا أوراق ثبوتية ويتهمون السفارات والقنصليات المصرية بالتعنت والرفض والتسويف، ما يجعلهم عرضة للترحيل من تلك البلدان
للتنكيل أشكال أخرى
بحسب البيانات الرسمية لوزارة الهجرة، يعيش نحو 14 مليون مصري حول العالم وهم لا يزالون يحملون الجنسية المصرية حصراً، أو إلى جانب جنسيات أخرى، وهم في حاجة دائمة للتواصل مع مؤسسات بلادهم الرسمية الممثلة لمصر في كل دولة، من سفارات وقنصليات للحصول على الأوراق الثبوتية كجواز السفر وشهادات الميلاد وعقود الزواج والتوكيلات القانونية وغير ذلك من الأوراق الرسمية التي يحتاجونها لتقنين أوضاع إقامتهم في بلدان العالم التي يعيشون فيها. إلا أن السلطات المصرية ممثلة في وزارة الخارجية تبعت منهجاً انتقائياً في منح مواطنيها هذه الحقوق، وذلك منذ عام 2014 الذي شهد خروج أعداد كبيرة من المعارضين المصريين المحسوبين على التيارات الإسلامية أو تيارات المعارضة المدنية، وكذلك الكثير من الصحافيين والباحثين المستقلين فيما أطلق عليه "الشتات المصري"، نتيجة ارتفاع موجة ملاحقة المعارضين والصحافيين والحقوقيين في الداخل.الحسابات الشخصية لطالبي استخراج الأوراق على شبكات التواصل الاجتماعي، وبيان أسباب خروجهم من مصر، ضمن البيانات المطلوبة للحصول على أوراق رسمية عن طريق قنصلية مصر في تركيا
نموذج البيانات الذي يطلب من المصريين المقيمين في تركيا ملئه من قِبَل القنصلية المصرية - هيومان رايتس ووتش
"الحساب" قبل الوثيقة
مئات المصريين في الخارج يعيشون وأسرهم بلا أوراق ثبوتية ويتهمون السفارات والقنصليات المصرية بالتعنت والرفض والتسويف، ما يجعلهم عرضة للترحيل من تلك البلدان.رصيف22 قابل بعض من رفضت الممثليات الدبلوماسية المصرية في تركيا منحهم أوراقاً ثبوتية، لنجد أن فريقاً منهم لم يكن في صفوف المعارضة ولا يعبر عن توجهات سياسية معارضة للإدارة المصرية الحالية وغير مدرجين على قوائم الإرهاب، ولكنهم يواجهون هذا الإجراء كونهم انتقلوا للحياة أو العمل أو الدراسة في تركيا عقب العام 2013، وطوال الفترة التي كانت السلطات المصرية تعتبر فيها تركيا دولة "غير صديقة"، قبل أن تبدأ الدولتان في التواصل على المستوى الرسمي مؤخراً.
بعض من قبلوا بالتحدث طلبوا عدم الإفصاح عن أسمائهم الحقيقية خشية تعرض أسرهم للملاحقة في مصر، أو استمرار التعنت معهم من قبل القنصلية المصرية في تركيا.
المحامي محمود جابر: "لا يوجد في القانون المصري ولا في القانون الدولي ما يحرم أي مواطن داخل مصر وخارجها من حقه في استخراج أوراق ثبوتية، فتلك الأوراق هي الشيء الوحيد الذي يثبت جنسيته ويمكنه من تقنين أوضاعه خارج بلده
عمر أحمد* مقيم في تركيا منذ العام 2018، ويعمل موظفاً في إحدى شركات التسويق العقاري، رفضت القنصلية المصرية طلبه استخراج شهادة ميلاد رسمية لطفله الوليد الذي بات يبلغ من العمر الآن أربع سنوات "الوضع الآن أن والدي ابني مصريان، لكنه لا يحمل ما يثبت هويته المصرية تلك. بعد ولادة ابني عبد الله، ذهبت إلى القنصلية المصرية في إسطنبول طالباً استخراج شهادة ميلاد كي أتمكن من استخراج جواز سفر له. في البداية طلبوا مني ملء نموذج يحتوي على معلومات خاصة بي وبأمه، وهذه المعلومات ليس لها علاقة بالأمر، كأسباب خروجنا من مصر وحساباتنا على مواقع التواصل الإجتماعي، وعند سؤالي لهم عن أسباب طلبهم كل تلك المعلومات، قالوا إنها معلومات مهمة للحصول على الموافقة الأمنية من مصر للبدء في إجراءات استخراج شهادة ميلاد لابنك".
انتظر الأب قرابة الشهرين، ولم يحصل على رد من القنصلية في إسطنبول، وكلما اتصل بها تكون الإجابة: "لم تأت الموافقة الأمنية بعد". يقول: "ظللت هكذا شهرين آخرين، حتى أصبحوا لا يجيبون على اتصالاتي، ما أجبرني على التوجه إلى مقر القنصلية، وبعد أسئلة كثيرة حول موعد تقديم الطلب وسؤالي عن سبب وجودي في تركيا ومتى كانت آخر زيارة لمصر، وهما من جملة أسئلة أجبت عليها من قبل في النموذج الذي ملأته عند تقديم طلب استخراج شهادة الميلاد، وبعد ثلاث ساعات انتظار جاء الرد من أحد موظفي القنصلية بأن أستخرج لابني وثيقة سفر ليعود بها إلى مصر حتى يمكنني إنهاء كل تلك الإجراءات من هناك".
حرمان من الحق
حنان عبد الله* تحدثت إلى رصيف22 بعد تردد: "في العام 2020 انتهت مدة جواز سفري، وكذلك انتهت بطاقتي الشخصية، وعلمت أن تقديم طلب تجديد الباسبور يتم أولاً من خلال إرسال رسالة عبر الحساب الخاص بالقنصلية المصرية بإسطنبول في موقع فيسبوك، وهو ما قمت به.سألتهم عن الأوراق المطلوبة للتقديم على تجديد الباسبور، وبعد ساعات قليلة جاء الرد والأوراق المطلوب تقديمها مصحوبة بنماذج يجب علي ملئها وإرسالها عبر البريد الإلكتروني، وقمت بذلك فعلاً وأرسلت صور الباسبور المنتهي وصورة البطاقة الشخصية المنتهية، إضافة إلى صورة إقامتي السارية في تركيا مع النموذج الذي طلبوا مني ملئه بمعلومات مفصلة عني في مصر وتركيا. بعد يوم من إرسال البريد الإلكتروني جاءتني رسالة من القنصلية يطلبون فيها ذكر عنواني بالتفصيل في تركيا، فأرسلت لهم نموذجاً آخر به العنوان المفصل، ليأتيني الرد بالموافقة على استقبال طلبي وانتظار الموافقة الأمنية من مصر".
بعد رد القنصلية السريع عليها، تفاءلت حنان، لكن ما حدث بعد ذلك حطم آمالها في تجديد الباسبور: "بعد مكالمات كثيرة مع القنصلية تنتهي بالعبارة المعتادة «الموافقة الأمنية لم تأت بعد». وفي يونيو/ حزيران 2021، أي بعد أربعة أشهر من تقديمي الطلب، هاتفت القنصلية مجدداً للسؤال عن مصير طلب تجديد الباسبور، وجاءت المكالمة كالتالي:
- صباح الخير، أنا اسمي حنان. كنت بسأل هل الموافقة الأمنية لطلب تجديد باسبوري وصلت ولا لا؟
ورد موظف القنصلية:
- حضرتك قولتيلي اسمك إيه؟
تقول حنان: "كررت اسمي، وبعد انتظاري على الخط قرابة الدقيقتين، جاء رد الموظف متسائلاً: «أستاذة حنان أنت ليه مش عايزة تنزلي مصر تجديد الباسبور؟». أكدت له أن أحداً لم يخبرني بضرورة ذلك. فردّ أن الموافقة لم تأت بعد ومن الأفضل أن أعود إلى مصر لتجديد الباسبور بنفسي. حاولت فهم الدوافع القانونية لذلك أو الأسباب إلا أنه ظل يكرر العبارة نفسها، فعرفت أن لا أمل في تجديد جواز السفر في الخارج وشعرت بالقلق".
الهيئة العليا لحزب غد الثورة المصري أقامت دعوى أمام مجلس حقوق الإنسان، لإلزام الحكومة المصرية بتجديد جوازات السفر للمصريين في الخارج واستخراج الأوراق الرسمية لهم ولأسرهم وفقاً لأحكام المواثيق الدولية، والدستور والقانون المصريين، من دون النظر لمواقفهم السياسية
حق ممنوع
في رحلة بحثنا وتوثيقنا لتلك الحالات حاورنا محامين وحقوقيين بغية الإطلاع على قانونية تلك الإجراءات التي تمارسها السلطات المصرية متمثلة في سفاراتها وقنصلياتها في الخارج، وتحديداً في إسطنبول. المحامي والحقوقي المصري محمود جابر صرح لرصيف22: "لا يوجد في القانون المصري ولا في القانون الدولي وحتى في المعاهدات الدولية ما يحرم أي مواطن داخل مصر وخارجها من حقه في استخراج أوراق ثبوتية هي بالنسبة له خارج مصر "الهواء الذي يستنشقه" على حد تعبيره، فتلك الأوراق هي الشيء الوحيد الذي يثبت جنسيته ويمكنه من تقنين أوضاعه خارج بلده".وأضاف أن التضييق على المصريين المعارضين بالخارج هو "نوع من أنواع الابتزاز السياسي، الذي تمارسه الدولة بحق آلاف الأسر بالخارج من دون مسوغ من قانون أو دستور، كما يعد خرقاً للمواثيق الإنسانية والدولية، إذ تنص المادة الثالثة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أقرته الأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر/كانون الأول 1948، على أنها تكفل لكل إنسان حرية التنقل واختيار محل إقامته ومغادرة بلده والعودة إليه". كما ينص "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية"، ومصر طرف فيه، على أن "لكل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده"، وقالت اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان، المشرفة على تفسير العهد، إن الحق في المغادرة "يجب أن يشمل الحق في الحصول على وثائق السفر اللازمة". كما انتقدت العقبات البيروقراطية والمعوقات الأخرى التي تحول دون الحصول على جوازات السفر والرسوم الباهظة، ومضايقة المتقدمين، ورفض إصدار جواز سفر دون سند قانون أو تبرير لذلك المنع والحرمان.
تحركات في الخارج
الهيئة العليا لحزب غد الثورة المصري – أسسه السياسي المصري في المنفى أيمن نور، وهو ليبرالي، إلا أنه بات محسوباً على جماعة الإخوان المسلمين التي تصنفها مصر "إرهابية"- أقامت عدة دعاوى قضائية أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، وعدد من الهيئات الدولية، لإلزام الحكومة المصرية بتجديد جوازات السفر للمصريين في الخارج واستخراج الأوراق الرسمية لهم ولأسرهم وفقاً لأحكام المواثيق الدولية، والدستور والقانون المصريين، من دون النظر لمواقفهم السياسية.كذلك ناشدت الهيئة العليا لحزب غد الثورة جموع المصريين بالخارج، ممن منعت السلطات تجديد وثائق سفرهم، أن يحرروا توكيلات خطية للحزب، ولمجلس جنيف للعلاقات الدولية، وغيره من المنظمات الدولية، بهدف المضي قدماً في إجراءات دعاوى جماعية. وإلى الآن لم تسفر تلك التحركات عن تغير على أرض الواقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 19 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت