شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!

"رمضان يجمعنا" تقول الدعاية... ونحن نصدق

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات الشخصية

الأربعاء 29 مارس 202309:48 ص

شهر رمضان ليس شهراً للصوم فقط، وليس شهراً للعبادة فقط، وليس شهراً للمسلمين فقط، وأكاد أجزم أنه ليس شهراً وفقط. إنه منظومة حياتية متكاملة، مختلفة ومنفصلة عن الحياة التي نعرفها، والتي يعيشها الكائن البشري بقية أيام وأشهر السنة.

لم يكن هذا التوصيف صحيحاً قبل ثلاثين أو أربعين سنة من الآن، حين كان رمضان شهراً مثل بقية الأشهر، باستثناء أن الناس فيه تصوم لله، والناس هنا هم المسلمون القادرون على هذه الفريضة، أو الراغبون بها تقرّباً من الله، كالرغبة في الحجّ مثلاً. والصوم هنا هو الامتناع عن الأكل والشرب منذ آخر لقمة من حواضر البيت قبل أذان الفجر، إلى أول لقمة من طبخة الزوجة والأم بعد "الله أكبر" وقت المغرب.
منذ ثلاثين سنة وأكثر قليلاً، بدأت الإضافات تغزو هذا الشهر الفضيل. لا أحد يعرف على وجه الدقة ما الذي أضيف إلى الشهر أولاً؛ أهو الحلويات على مائدة الإفطار أم فتح سماعات المساجد وقت صلاة التراويح، ليستمع القاصي والداني لصوت الإمام. ولا أحد يستطيع التذكّر إن كانت امرأة هي من طرحت أول سؤال عن الكحل إن كان من المفطرات، أم أن رجلاً هو من خاف على صيامه من قطرة العين.

شهر رمضان ليس شهراً للصوم فقط، وليس شهراً للعبادة فقط، وليس شهراً للمسلمين فقط، وأكاد أجزم أنه ليس شهراً وفقط

لكن، وبصرف النظر عن البداية، فقد أصبح لدينا الآن هذا الشهر الذي يمكننا تمييزه بالكثير من السلوكيات والعناصر السمعية والبصرية، التي لا يمكننا رؤيتها أو مشاهدتها في بقية أشهر السنة. العصبية هي أول هذه الصفات، والعصبية المقصودة هي العصبية الفردية، بمعنى أن يفقد الصائم أعصابه عند أي مشكلة مهما بدت صغيرة، والعصبية الجماعية بمعنى التعصّب لفكرة الجماعة الصائمة عن، وتجاه كل شيء تقريباً.

الفرد الصائم شخص حساس جداً تجاه كل ما يمس مشاعره. إنه يجمع هذه المشاعر طوال السنة، يربّيها ويتفقّدها إلى أن يحل هذا الشهر، ثم فجأة يضعها أمام الآخرين المختلفين. هو لا يؤذيه أن يرى مفطراً في الشارع وحسب، بل تتأذى مشاعره إن سمع أن فلاناً مفطر. صورة الطعام على وسائل التواصل تؤذي مشاعره، ودخان سيجارة، حتى ولو لم يكن مدخناً، يمكن أن يؤذي هذه المشاعر. والمشاعر هذه مصطلح جديد، لم يكن موجوداً في طقوس رمضان 1972 مثلاً، أو على الأقل لم يكن بهذا الحضور والأهمية.

الصائم تتأذى مشاعره إن سمع أن فلاناً مفطر. صورة الطعام على وسائل التواصل تؤذي مشاعره، ودخان سيجارة، حتى ولو لم يكن مدخناً

العصبية الجماعية، هي الأخرى، تتمظهر في المشهد العام لأي مدينة أو قرية عربية، وهي تنمو وتترسّخ سنة بعد أخرى، برعاية البلديات والمجالس المحلية. البلدية هي الراعي الرسمي "لتزيين الشارع" إن أردنا اختيار مصطلح فضفاض وحيادي. الصورة العامة للمدينة ليست هي صورتها اليومية المعتادة، وهي لا تعبر بالضرورة إلا عن السكان الصائمين. ما دخل هذا بالعصبية الجماعية؟ الجواب لا يمكن العثور عليه في حالة الرضا أو التواطؤ المتبادل بين المكونات المختلفة للتجمّع السكاني، لكنه سهل جداً لو قرّر شخص مختلف أن يزيل هذه الزينة من الشارع على مدخل بيته. كيف تجرؤ على المساس بالمقدسات أيها الغريب، فالمكان لنا نحن، أقصد بهذه اللغة المراوغة، أن الزينة دخلت على الخط كأحد عناصر الشهر. هل كانت عنصراً "يجمعنا" في رمضان 1976؟ لا لم تكن.
عنصر آخر طرأ على المشهد في العقود الأخيرة هو الفتوى وتكرارها. في رمضان يبدو أننا نضع عقولنا على الرف، ونصبح أسرى للشيخ على القناة الفضائية أو في المسجد. نمارس حياتنا طوال العام كما نرتأي نحن لا كما يقرر الشيخ، إلا في رمضان، تصير أصغر شؤون الحياة بحاجة إلى فتوى. ليس فيما يتعلق بالصيام فقط، بل بكل ما يتعلق بمعاملات البيع والشراء والتعليم والعمل. أطباء بخبرات مهنية طويلة، ومهندسون بشهادات عليا، سياسيون وشعراء، ينتظرون رأي الشيخ في أوقات العمل مثلاً.

يشتري الطبيب كل أدواته وأدويته من مصانع أوروبا وأمريكيا، لكنه في رمضان يسأل الشيخ إن كان جائزاً أن يشتري السكّر للقطايف من دكان جاره المسيحي. هل كنا في 1981 نعرف ما يجوز وما لا يجوز؟ نعم كنا نعرف، وكان الشيخ أيامها واحداً منا، يسألنا كما نسأله، يقتنع أو لا يقتنع بإجابة أحدنا، ونحن نرفض أو نقبل إجابته. لم تكن المعرفة حكراً عليه، ولم يكن الاجتهاد الشخصي محرّماً، ولم يكن أصلاً للشيخ رأي إلا في شؤون الدين. هل يتدخّل الشيخ في أيامنا بشؤون الحياة ويتجاوز مهمته كرجل دين؟ في الحقيقة لا، الحياة أصبحت هي الدين لا أكثر ولا أقل.

الفرد الصائم شخص حساس جداً تجاه كل ما يمس مشاعره. إنه يجمع هذه المشاعر طوال السنة، يربّيها ويتفقّدها إلى أن يحل هذا الشهر، ثم فجأة يضعها أمام الآخرين المختلفين

من العناصر الدخيلة والتي لا تخفى على أحد، والتي ينتقدها الجميع بمن فيهم المتورطون بها، هي أن رمضان كان شهراً للصيام، وصار شهراً للأكل. من حقّ الصائم بلا شك أن يفكر بالطعام، وهو كذلك اليوم وأمس ومنذ إقرار الفريضة قبل أربعة عشر قرناً، لكن ما يجري اليوم لا ينسجم لا مع فكرة العبادة ولا مع فكرة الإحساس بالفقراء، ولا مع مغزى ضبط النفس.

هجوم على الأسواق وكأن الحرب قادمة غداً، بذخ في الوجبات وتنوعها وكأننا لن نأكل بعد اليوم، والأهم من ذلك هو الحديث الدائم طوال النهار عن الإفطار المرتقب أو عن وجبة الليلة الفائتة. من النادر أن تسمع في الأيام العادية رجلاً يتحدث عبر الهاتف مع زوجته، ويذكّرها أو تذكّره بالخروب أو التمر هندي، لكنك في رمضان لا تسمع إلا هذا. لا أحاديث إلا عن الطعام ومكونات الوجبة القادمة، لا أسئلة إلا فيما يتعلق بالوقت المتبقي للإفطار. المنطقي عند من يكتبون "اللهم بلغنا رمضان" هو أن يكونوا متلهفين لأذان الفجر كي يبدأوا رحلة الصيام وتزكية النفس، لكننا لا نرى هؤلاء، أو هم قلة لا يمكن تمييزها بين آلاف المنتظرين لأذان المغرب.

من العناصر الدخيلة والتي لا تخفى على أحد، والتي ينتقدها الجميع بمن فيهم المتورطون بها، هي أن رمضان كان شهراً للصيام، وصار شهراً للأكل

الطعام يتكرّس أيضاً على الفضائيات ومحطات التلفزة. هناك خدعة يسقط فيها المشاهد العربي حين يتحدث، أو يتم الحديث معه، عن المسلسلات الرمضانية، فالمسلسل ليس هو الإنتاج الحقيقي الذي يقدمه رأس المال للمستهلك، بل هو الدعاية. الدعايات هي التي تستحوذ على الوقت الأكبر للبث. أنت أيها الصائم تشاهد صلاح الدين الذي قرأت عنه في المدرسة، وفي الجامعة، وفي المسجد، لدرجة أنك حفظته عن ظهر قلب، لكن صلاح الدين على التلفاز، وفي رمضان تحديداً، ليس أكثر من غطاء لترويج أرز بسمتي وزيت السنبلة ودجاج الطازج. وأنت لست هنا لتستمتع بعد نهار طويل من الصيام، بل لتفكر في وجبة الغد.
لا يضيف الحديث عن أزمات السير، وعن الشجارات المتكرّرة في الشوارع، ولا عن إغلاق شوارع رئيسية بالسيارات، لا يضيف للفكرة شيئاً ذا أهمية، والفكرة هي أن رمضان شهر مقتطع من السنة، لا يشبه أي شهر آخر، له طقوسه وعاداته وسلوكياته، وهذه كلها تتطور سنة بعد أخرى، ويضاف إليها صفة جديدة مع كل سنة. نخرج منه وقد أُتخمنا بكل شيء، ثم تعود الحياة إلى إيقاعها العادي؛ الصادق يظل صادقاً، والكاذب لا يتغير، اللص يعود إلى هوايته، والمحتال إلى شغله اليومي، لكن "رمضان يجمعنا" كما تقول الدعاية... ونحن نصدقها، لأنه كذلك فعلاً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard