على الرغم من التقدير الكبير الذي يحظى به معاوية بن أبي سفيان في الخطاب السلفي المعاصر، إلا أن الأمر لم يكن كذلك في كتابات الآباء المؤسسين للدعوة السلفية في القرن العشرين، فقد هاجمه هؤلاء كثيراً في مؤلفاتهم وحمّلوه مسؤولية التردي الذي أصاب الأمة الإسلامية على مر القرون.
وتكشف لنا كتابات آباء السلفية المعاصرة حجم التحوّل العظيم الذي طرأ على الخطاب السلفي في القرن الأخير، وهو خطاب تناغم في أغلب فتراته مع الظروف والسياقات السياسية الأكثر تأثيراً في المجتمعات الإسلامية.
الرأي السلفي الشائع عن معاوية
يظهر معاوية بن أبي سفيان في الخطاب السلفي الشائع حالياً باعتباره واحداً من صحابة النبي الأجلاء، والذين شهد لهم أهل السنّة والجماعة على مر القرون بالعدالة والفضل، واعتُبروا أفضل الناس بعد الأنبياء والرسل.
وأُعطيت لمعاوية ميزة أخرى بصفته مؤسس الدولة الأموية التي حكمت الأمة الإسلامية لما يزيد عن التسعين سنة بين عاميْ 41 و132هـ. وتنظر أغلبية الدعاة السلفيين إلى الدولة الأموية باعتبارها دولة قوية، عظيمة، تمكنت من حفظ الدين ومجاهدة الكافرين وتثبيت الإسلام في مساحات واسعة من الشرق الأدنى القديم.
يعمل الخطاب السلفي الشائع على استدعاء بعض المقولات التقليدية القديمة لتبرئة معاوية من التهم التي وُجهت له في أحداث الحرب الأهلية التي وقعت في ثلاثينيات القرن الأول الهجري بين معسكري العراق والشام. من أبرز تلك المقولات ما نُسب إلى الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز عندما سُئل عن رأيه في الحرب بين علي بن أبي طالب ومعاوية، فقال: "تلك فتنة عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا".
في السياق نفسه، يروّج الخطاب السلفي للرواية المنسوبة إلى الإمام أحمد بن حنبل، والتي جاء فيها أن الأخير، لمّا سُئل عمّن الأفضل معاوية أم عمر بن عبد العزيز، قال: "لغبار لحق بأنف جواد معاوية بين يدي رسول الله خير من عمر بن عبد العزيز..."، بحسب ما يذكر ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب".
كذلك، اهتم الخطاب السلفي باستدعاء رأي شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية الحراني في القضية. يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى محاولاً تبرئة معاوية من تهمة دخول الحرب لأغراض السياسة والحكم: "ومعاوية لم يدّع الخلافة ولم يبايع له بها حين قاتل عليّاً، ولم يقاتل عليّاً على أنه خليفة ولا أنه يستحق الخلافة ولا كان هو وأصحابه يرون ابتداء علي بالقتال، بل لما رأى علي أنه يجب عليهم مبايعته وطاعته إذ لا يكون للناس خليفتان وأن هؤلاء خارجون عن طاعته رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا الواجب وتحصل الطاعة والجماعة، وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم حتى يؤخذ حق عثمان من الذين خرجوا عليه وقتلوه ممن هم في جيش علي...".
وهكذا، يتم تأويل ما قام به معاوية بحيث يصبح نوعاً من أنواع الاجتهاد الذي قد يصيب وقد يخطئ. ويدافع ابن تيمية عن حق معاوية في الاجتهاد قائلاً: "فأما ما اجتهدوا (أي الصحابة) فيه: فتارة يصيبون، وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا فأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور".
من جهة أخرى، روّج الخطاب السلفي الشائع لبعض المناقب التي أختُص بها معاوية، ومنها كتابته للوحي وتدوينه للقرآن الكريم في زمن النبي، وكذلك تسميته بخال المؤمنين لكونه الأخ -غير الشقيق- لأم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان، زوجة النبي.
يمكن أن نتفهم شيوع النظرة السابقة في سياق ما وقع في العقود السابقة من تدجين السلفية وتأميمها من قِبل الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول. اختار الخطاب السلفي الشائع أن يدافع عن معاوية بصفته "أول الملوك". ومال الدعاة السلفيون إلى تبرير تسلطه وتوريثه الحكم لابنه يزيد في ظل خضوعهم لأنظمة ملكية وراثية لا تقبل الديمقراطية أو حرية الرأي.
يختلف ذلك بالكلية عن الظروف التي عاش فيها الآباء المؤسسون للخط السلفي المعاصر في بدايات القرن العشرين. فقد دخل بعض هؤلاء في صدام مع الأنظمة الحاكمة. ومن هنا كان من الطبيعي أن يختلف تصورهم عن الحكم والسلطة، فلم يروا في معاوية إلا خليفة مستبد ديكتاتور، تسبب في القضاء على روح الشورى وحرية الرأي.
وفي الآتي، نستعرض آراء ثلاثة من الآباء المؤسسين للسلفية المعاصرة، وهم محمد رشيد رضا، وأبي الأعلى المودودي، وسيد قطب.
محمد رشيد رضا
يُعَدّ محمد رشيد رضا واحداً من الآباء المؤسسين للمنهج السلفي المعاصر. تتلمذ رشيد رضا على يد مفتي مصر الأسبق محمد عبده، وبدأ حياته متبعاً المنهج الصوفي ثم تحول في ما بعد إلى الخط السلفي المحافظ، ووجه انتقادات لاذعة للممارسات الصوفية بصفتها ممارسات بدعية شركيّة بعيدة عن السنّة وصحيح الدين.
لو رجعنا لما كتبه رشيد رضا في مجلة المنار لوجدناه ينتقد معاوية في الكثير من المواضع. على سبيل المثال، جاء في المجلد التاسع من المجلة أن أحد المسلمين وجه سؤالاً "أفدنا عن معاوية بن أبي سفيان هل هو محق في ما ادعى به على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في طلب الخلافة أو مخطئ أو فاسق؟"، فأجاب رشيد رضا: "إن سيرة معاوية تفيد بجملتها وتفصيلها أنه كان طالباً للملك ومحبّاً للرياسة، وإني لأعتقد أنه قد وثب على هذا الأمر مفتئتاً وأنه لم يكن له أن يحجم عن مبايعة علي بعد أن بايعه أولو الأمر أهل الحل والعقد... وأنه هو الذي أحرج المسلمين حتى تفرقوا واقتتلوا وبه صارت الخلافة ملكاً عَضوضاً، ثم إنه جعلها وراثة في قومه الذين حولوا أمر المسلمين عن القرآن بإضعاف الشورى بل بإبطالها واستبدال الاستبداد بها".
اختار الخطاب السلفي الشائع أن يدافع عن معاوية بن أبي سفيان كونه "أول الملوك"، ومال الدعاة السلفيون إلى تبرير تسلطه وتوريثه الحكم لابنه يزيد في ظل خضوعهم لأنظمة ملكية وراثية لا تقبل الديمقراطية أو حرية الرأي
وفي المجلد الثاني عشر من مجلة المنار، يتابع رشيد رضا انتقاده اللاذع لمعاوية فيقول محملاً إياه المسؤولية عن شيوع الاستبداد في البلدان الإسلامية: "وكان سبباً في تلك الفتن التي كانت نكتة سوداء في تاريخ عصر النور، وهو القرن الأول لنور الإسلام. وبه تحول شكل الحكومة الإسلامية عن القاعدة التي وضعها لها الله -تعالى- في كتابه بقوله في المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} إلى حكومة شخصية استبدادية، جعلت مصالح الأمة كالمال يرثه الأقرب فالأقرب إلى المالك، وإنْ كرهت الأمة كلها. فكان هذا أصل جميع مصائب الأمة الإسلامية في دينها ودنياها".
وفي المعنى نفسه، يقول رشيد رضا في المجلد الرابع عشر من المجلة: "ولا خلاف في كون خروج معاوية على أمير المؤمنين هو الصدمة الأولى التي أصابت الإسلام، فكانت علة العلل لكل ما جاء بعدها من أسباب الضعف".
أبو الأعلى المودودي
أسس المفكر الهندي أبو الأعلى المودودي الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية في أربعينيات القرن العشرين، ويُعَدّ المُنظّر الأول لفكرة الحاكمية في العصر الحديث، وأسهمت كتاباته في تشكيل الوعي لدى العديد من تيارات السلفية الجهادية. ومن أشهر كتاباته كل من "المصطلحات الأربعة في القرآن"، و"الإسلام والمدينة الحديثة"، و"الجهاد في الإسلام"، و"مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة".
على الرغم من ترضّيه على معاوية في أكثر من موضع من كتبه إلا أن المودودي وجه عدداً من الانتقادات الموضوعية للخليفة الأموي الأول في كتابه "الخلافة والملك".
يقول معترفاً بالدور الذي اضطلع به معاوية في تغيير شكل الحكم في الإسلام: "كان امتلاك معاوية لأعنة الحكم مرحلة انتقالية على طريق تحول الدولة الإسلامية من الخلافة إلى الملك... هكذا قُضي على نظام الخلافة الراشدة قضاءً مبرماً وأخذت العائلات الملكية مكان الخلافة. ومن بعدها وإلى يومنا هذا لم تقم للمسلمين خلافة يرضونها".
"(معاوية بن أبي سفيان) هو الذي أحرج المسلمين حتى تفرقوا واقتتلوا وبه صارت الخلافة ملكاً عضوضاً، ثم إنه جعلها وراثة في قومه الذين حوّلوا أمر المسلمين عن القرآن بإضعاف الشورى بل بإبطالها واستبدال الاستبداد بها"
ويوضح المودودي بعد ذلك "أن خلافته لم تكن عن رضا من المسلمين ولم يختره الناس اختياراً حراً إنما تأمّر عليهم بقوته وسيفه فلمّا رأى الناس أنه صار خليفة عليهم بالفعل لم يكن أمامهم أي مفر غير مبايعته، ولو أنهم أحجموا عن بيعته لما تنحى عن الحكم بل لكان معنى ذلك سفك دماء وبث فوضى".
أيضاً، لم يجد المفكر الهندي حرجاً في استعراض تفاصيل بعض التهم القوية التي وُجهت لمعاوية. على سبيل المثال، يؤكد أن الخليفة الأموي الأول كان صاحب القدر الأكبر من المسؤولية عن زوال حرية الرأي من المجتمعات الإسلامية، فيقول: "ولقد بدأت هذه السياسة الجديدة في عصر معاوية بقتله سيدنا حجر بن عدي عام 41هـ وكان صحابياً جليلاً زاهداً عابداً من أكابر صلحاء الأمة. فلمّا بدأ في عصر معاوية لعن سيدنا علي فوق المنابر وسبه وشتمه جهاراً نهاراً تألم المسلمون لذلك في كل بقعة غير أن الناس سكتوا في ذلك على مضض إلا سيدنا حجر لم يستطع على ذلك صبراً... فقُبض عليه آخر الأمر وعلى اثني عشر من رفاقه... وجيء بهذا المتهم إلى معاوية فأمر بقتله. وقُتل هو وسبعة من رفاقه. ورد معاوية أحدهم إلى زياد (بن أبيه) وكتب له أقتله شر قتلة فدفنه حياً".
كذلك، يتحدث المودودي عن مخالفات كثيرة ارتكبها معاوية في فترة حكمه، فيقول: "خالف معاوية كتاب الله وسنّة الرسول خلافاً ظاهراً في تقسيم مال الغنائم... فقد أمر باستخراج الذهب والفضة من مال الغنائم واختص بها نفسه ثم قسم باقي المال حسب القاعدة الشرعية. كذلك ارتكب معاوية -من أجل أغراضه السياسية- ما يخالف إحدى مسلمات الشريعة الغراء حين ألحق زياد بن سمية بنسبه... كذلك رفع معاوية ولاته فوق القانون ورفض رفضاً قاطعاً محاسبتهم حسب أحكام الشريعة على ظلمهم وتعديهم".
سيّد قطب
يُعَدّ المفكر المصري سيد قطب أحد الآباء المؤسسين للتيارات الجهادية المعاصرة. من رحم أفكاره عن الحاكمية والاستعلاء والمجتمع الجاهلي وُلدت العديد من الحركات التكفيرية التي لا تزال مؤثرة في مسرح الأحداث السياسية في الكثير من المناطق في العالم الإسلامي. وجه قطب انتقاداً قوياً لمعاوية بن أبي سفيان في العديد من مؤلفاته، وخاصة في كتابيه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، و"في ظلال القرآن".
ذكر قطب في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" أن حكم معاوية كان أقرب إلى الروح الجاهلية منه إلى الروح الإسلامية القويمة. يقول: "فلما جاء معاوية وصيّر الخلافة الإسلامية ملكاً عضوضاً في بني أمية، لم يكن ذلك من وحي الإسلام، إنما كان من وحي الجاهلية".
"حين يركن معاوية (بن أبي سفيان) وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم، لا يملك علي (بن أبي طالب) أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان ويفشل، وإنه لفشل أشرف من كل نجاح" (سيّد قطب)
ويشكك قطب بعدها في حقيقة إسلام معاوية وأهله، فيقول: "وما هي بكثيرة على معاوية ولا بغريبة عليه فمعاوية هو ابن أبي سفيان وابن هند بنت عتبة وهو وريثُ قومه جمعياً وأشبه شيءٍ بهم في بعد روحه عن حقيقة الإسلام فلا يأخذ أحد الإسلام بمعاوية أو بني أمية، فهو منه بريء ومنهم بريء".
أما في كتابه "كتب وشخصيات"، فنجد سيد قطب يصف معاوية بمجموعة من الصفات السلبية التي لم يجرؤ غيره من الكتاب الإسلاميين على توجيهها لأي فرد من طبقة الصحابة. يقول: "إن معاوية وزميله عمراً (يقصد عمرو بن العاص) لم يغلبا علياً لأنهما أعرف منه بدخائل النفوس، وأخبر منه بالتصرف النافع في الظرف المناسب، ولكن لأنهما طليقان في استخدام كل سلاح، وهو مقيد بأخلاقه باختيار وسائل الصراع... حين يركن معاوية وزميله إلى الكذب والغش والخديعة والنفاق والرشوة وشراء الذمم لا يملك علي أن يتدلى إلى هذا الدرك الأسفل. فلا عجب ينجحان ويفشل، وإنه لفشل أشرف من كل نجاح".
وفي المعنى نفسه، يقول قطب في كتابه "في ظلال القرآن": "وارتدت أمية طليقة حرة إلى وراثاتها في الجاهلية والإسلام وجاء معاوية تعاونه العصبة التي على شاكلته وعلى رأسها عمرو بن العاص، قومٌ تجمعهم المطامع والمآرب وتدفعهم المطامح والرغائب ولا يمسكهم خلق ولا دين ولا ضمير".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...