تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.
أقف على عتبة الثلاثين أو عند عتبة منزلنا الجديد، لا فرق، وأتساءل متى ينتهي هذا الاغتراب. أحتاج أن ينتهي كي أتخفف من الكتابة كفعل تأقلم أمارسه كلما تعبت في غربتي؛ وقد صرت أكتب كثيراً في الآونة الأخيرة.
أكتب كي أجد طريقي إلى البيت، وهو كلّ أشيائي التي أفتقدها منذ ثلاث سنوات تقريباً. كلّ هذا الوقت وأنا أستخدم الكلمات في مواجهة الفقد، والحزن، والارتباك؛ لكنني أجد صعوبة، في الغالب، في صياغة المقدمات. كم من نصوص بقيت عالقة في رأسي لأنّني لم أعرف كيف أقدّمها. هل من المنصف مثلاً أن أكتب تمهيداً عما تفعله الغربة بنا، وهي التي تباغتنا من غير مقدمات؟ أو هل يحتاج نصّ عن حقائب السفر المتكوّمة في زاوية الغرفة إلى مقدمة على أي حال؟ لا بأس. ستمرّ بي فصول وبضعة مدن أخرى قبل أن تصبح نصوصي أقل حزناً، أو ربما أكثر سكينة.
صدقت سبيستون حين أذاعت أيقونتها الغنائية "من يعرف كيف يكون"، حيث تدعونا الدمية في نهايتها لأن "نتخيل الكون من دون طعم أو لون، أو التلفزيون من غير سبيستون". بدا الأمر محالاً في السابق، ولا يزال!
هذا نص عن الرسوم المتحركة والغربة، أو عن كيفية النجاة في الغربة، على وجه الدقة. احترت كيف أبقيه على قدرٍ من السحر الذي يستأهله بعيداً عن ثقل الواقع الذي أعيش، وارتأيت أن أفكر فيه كهدية مبكرة لأمي في عيد ميلادها القادم؛ سأبقيه خفيفاً بعض الشيء كي تبتسم بعد قراءته، ولا تبكي.
أمي... دليلي إلى أجمل أغاني سبيستون
تفترض الغربة أن أمر في منازل مختلفة، أسكن فيها ولا أسكن إليها. لعل اليقظةَ من بعد الحزن، هي الوصف الأمثل لحالي في هذه الأماكن الجديدة. أدرك كيف تستثار حواسي جميعها، وأسعى إلى تخزين كل ما يلزمني لإيجاد المعنى، كي أستمرّ في دائرة لا يبدو أنها ستنتهي قريباً.
صحيح أن لا شيء يضاهي عبق أوراق الحبق الذي يخبرني أنّني ما زلت قريبة من البيت رغم البعد، إلا أن امتناني فعلاً يرجع لتكنولوجيا الخوارزميات التي تحفظ ذائقتي الموسيقية، وترتب لي قوائمي المتناسقة من الأغاني بعيداً عن المفاجآت (خَيْ!). يكفي أن أختار الأغنية الأولى، وأتركني مطمئنة لما سيتبع.
تمرّ أيام ثقيلة في المنافي القسرية، أحاول الهرب منها مبتعدة مقدار سنوات إلى وقت لطالما اعتقدت أنه سيدوم، إلى وقت ظهور محطة تلفزيونية مخصّصة للأطفال وناطقة باللغة العربية، وتعرض أفلام الكرتون على مدار الساعة (يا الله!): سبيستون (قناة شباب المستقبل في هويتها الأولى) الفترة الذهبية لجيل التسعينات.
أردد من قلب حنجرتي كلمات شارة "عهد الأصدقاء": "نستسلم لكن لااااا، ما دمنا أحياء نرزق، ما دام الأمل طريقاً فسنحياه". أي صدق في هذه الأغنيات كي تكون ملاذي في أوقات الحزن والاستسلام؟
أفكر بأمي على وجه الخصوص عند كتابة هذا النص، لأنها شاركتني انبهاري الطفولي بشارات البداية لمسلسلات الرسوم المتحركة التي كانت تعرضها سبيستون آنذاك. كان عمري حينها أحدَ عشرة سنة عندما خصصت دفتراً لتدوين كلمات هذه الأغاني، فأستطيع حفظها غيباً، والرجوع إليها وكأنها "قائمة تشغيل" ورقيّة. أذكر حرصي على أن يقتصر مضمون الدفتر على شارات الكرتون، وكأن أوراقه لا تقبل أي صيغة أخرى للنصوص. امتلأ الدفتر تباعاً، وأنا قلبت صفحاته إلى أن حفظت ترتيب الشارات عن ظهر قلب.
في الحقيقة، لم أشتغل محتوى هذا الدفتر بيديّ، وإن كنت صاحبة هذا المشروع الضخم آنذاك ومديرته التنفيذيّة؛ انقسم دوري إلى شقين: الشق الأول خاصّ بالمتابعة شبه المستمرة للقناة، أما الشق الثاني فهو تنبيه أمي كي تأخذ وقتاً مستقطعاً من عملها بهدف تركيز جهودها خلال بضعة دقائق للإصغاء إلى شارة المسلسل التالي، والإسراع في نقل الكلمات، مع إفراد المساحة اللازمة لتلك التي لم تلتقطها بوضوح في هذه المرة. كنا نعيد الكرة إلى أن تكتمل فقرات الأغنية، وننجز المهمة.
كتبنا معاً كلمات عهد الأصدقاء، وأبطال الديجيتال، وسلام دانك، ولحن الحياة، والحديقة السريّة، وبيدا بول، وبابار، ومدينة الصفصاف. أضفنا تباعاً أغنيات ريمي، وساندي بيل، وبائعة الكبريت، وحرصنا كذلك على أن ندون أغنيات كوكب زمردة، ومغامرات، وكوميديا، وأكشن. لا أذكر أين خبأت هذا الدفتر، لكنه لا يزال مرسوماً في خيالي وكأنني أتصفحه الآن بين يدي. في زمن ما قبل اليوتيوب وقوائم التشغيل الإلكترونية بالصوت والصورة والكلمات، كانت أمي فريق عملي الأول، وساهمت معي في إصدار ما كان يمكن أن أسميه وقتذاك: "دليلك إلى أجمل أغاني سبيستون - مع الكلمات".
سنعود (بعد قليل) يوماً ما
لا أتذكر اليوم أغلب الأحداث التي شاهدتها في الرسوم المتحركة، ولا أسماء أبطالها الأكثر شهرة. تغيب النهايات عن بالي أيضاً، ولكن لشارات البداية وحدها وقع غريب في نفسي، وأصدق الكلام الذي يقال فيها.
في اسطنبول تعلمت زراعة الحبق، والورد الجوري، والخبيزة، والقرنفل، والصبار، وأنا أردد أغنية "الحديقة السرية": "أن تغرس في اليائس أملاً، زرعاً يعطي الأثمار". تحوّلت شرفة شقتنا في الطابق الرابع إلى حديقة صغيرة أفتقدها بعض الشيء إثر انتقالنا إلى دبي. أقول "بعض الشيء" لأنني في الغربة تصالحت مع فكرة الرحيل عن الأشياء، علماً أنني لم أتخلص تماماً من نوبات البكاء التي تمر بي من وقت لآخر في المدن الجديدة. وحدها هذه الشارات تعيد لي الثبات الذي أحتاجه كي أصمد في اشتياقي، حتى موعد البكاء الجديد.
صوت المدينة في دبي مرتفع جداً، ويبقى في رأسي حتى وقت متأخر من الليل. أرفع صوت الموسيقى عالياً، وأردد من قلب حنجرتي كلمات شارة "عهد الأصدقاء": "نستسلم لكن لااااا، ما دمنا أحياء نرزق، ما دام الأمل طريقاً فسنحياه". أي صدق في هذه الأغنيات كي تكون ملاذي في أوقات الحزن والاستسلام؟
أعتقد أننا -مواليد التسعينات- حظينا بفرصةٍ مثالية بأن ولدنا بين حقبتين اثنتين، تشكل خلالهما وعينا الثقافي والاجتماعي بمرونة فائقة. كنا الجمهور المستهدف لأول قناة مفتوحة مخصصة للأطفال باللغة العربية، وكنا كذلك من استهلك منتجات التكنولوجيا الجديدة، وغرف الدردشة، والمنتديات التفاعلية بشغف واضح. عرفنا منذ وقت مبكّر أن ثمة من يشبهنا وإن اختلفت أماكننا؛ وما زلنا نسأل حتى اليوم: "جيل سبيستون؟"، وحين يكون الجواب ضحكة عريضة وهزة رأس نحو الأسفل، نعرف أننا وقعنا تفاهماً معنوياً يسبق أي حديث قد يأتي فيما بعد. لكن لا شيء كامل.
عرفنا منذ وقت مبكّر أن ثمة من يشبهنا وإن اختلفت أماكننا؛ وما زلنا نسأل حتى اليوم: "جيل سبيستون؟"، وحين يكون الجواب ضحكة عريضة وهزّة رأس نحو الأسفل، نعرف أننا وقعنا تفاهماً معنوياً يسبق أي حديثٍ قد يأتي فيما بعد
أعتقد أيضاً أن ولادتنا في حقبة سياسية قمعيّة أو ما بعد استعمارية ندفع اليوم ثمنها غربة وافتراقاً، أسندت إلينا معضلة الهوية ومكوناتها، واللغة العربية إحدى تشعباتها، ليس ببعدها السياسي فحسب، بل ببعدها القيمي كذلك. شارات الكرتون في هذه الحالة لا تغني فقط أحلامَنا بعيدة المنال، بل هي الدليل على أن لغتنا العربية واسعة كفاية كي نعبر فيها عن قضايانا اليومية.
في واقع الأمر أنا لا أستعيد طفولتي حين أردد شارات الرسوم المتحركة التي أحببتها مرةً، بل أشعر وكأنها تعبر عما أنا عليه في الوقت الراهن، أو عما أريد أن أصيره في المستقبل الآتي. أفكر أحياناً ماذا كنت لأفعل لو كان لي طفولة أقل حظاً من تلك التي عشتها فعلاً؟ صدقت سبيستون حين أذاعت أيقونتها الغنائية "من يعرف كيف يكون"، حيث تدعونا الدمية في نهايتها لأن "نتخيل الكون من دون طعم أو لون، أو التلفزيون من غير سبيستون". بدا الأمر محالاً في السابق، ولا يزال!
أمّي: أهديك هذا النص، رسالة سابقة لأوانها بمناسبة عيد ميلادك القادم، أو بطاقة بريدية تخبرك أنني بخير. أقوى على الغربة بأغانينا المفضلة؛ إنها عكّازي الذي أستند إليه الآن بين غرباء لا يتكلمون لغتي، وهي بيتي الحاضر في أماكن لا تشبهني، وخارطة عودتي غداً إلى أرض نبتت فيها ولم يكن في بالي أن أهجرها يوماً ما.
ألقاكِ قريباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه