يشكّل التواصل ركناً أساسياً في حياة الإنسان الاجتماعية وقدرته على التفاعل مع المحيط الذي يعيش فيه. وبحسب ابن خلدون، فإن "الإنسان اجتماعي بطبعه ولا يقدر على العيش وحيداً مهما توفرت له سبل الراحة"، لكن هل ينطبق ذلك على مجتمع الميم-عين في شرق سوريا؟ هل يتواصل هؤلاء الأفراد مع محيطهم الاجتماعي بشكل جيّد؟ وهل يشكّل هذا التواصل دعماً مفيداً لهم؟
أهمية التواصل
لا شك في أن الحرب في سوريا والأوضاع الاجتماعية والمعيشية الصعبة هناك، ألقت بثقلها على الجميع عموماً، وعلى مجتمع الميم-عين خصوصاً، وأحدثت تغييرات كبيرةً وعميقةً في تواصل الأفراد مع بعضهم البعض، خاصةً في دير الزور في شرق سوريا، إذ إن العديد من الأشخاص هناك كانوا يتواصلون مع بعضهم ومع محيطهم بشكل أفضل قبل الحرب، وباتوا يعيشون اليوم واقعاً أكثر صعوبةً وعزلةً، مع التشديد على عدم التعميم.
"إن وجود أفراد آخرين يتواصلون مع الإنسان، أمر يساعده على إشباع حاجاته النفسية والجسدية، خاصةً بالنسبة للفئات المهمّشة"، هذا ما تؤكد عليه مروى، التي تعمل مرشدةً نفسيةً في سوريا وتستقبل العديد من أفراد مجتمع الميم-عين: "مهم جداً يعرفوا إنو في حدا عم يدعمهن ومهم يحسوا إنو في إلهن مجتمع صغير مثلهم ومجتمع كبير محيط فيهم يجب أن يتواصلوا معه ولو بالحدود الدنيا".
تشدد مروى على أهمية فهم الفرد للمجتمع والبيئة التي يعيش فيها، حتى يتواصل معها بشكل صحيح ولا يحصل الصدام، وذلك بالتوازي مع فهم الإنسان لذاته وعدم إنكار حاجاته ورغباته: "التطرف مؤذٍ لأفراد مجتمع الميم-عين، خاصةً في بيئة محافظة مثل دير الزور".
"مهم جداً يعرفوا إنو في حدا عم يدعمهن ومهم يحسوا إنو في إلهن مجتمع صغير مثلهم ومجتمع كبير محيط فيهم يجب أن يتواصلوا معه ولو بالحدود الدنيا"
تؤثر العديد من العوامل على علاقات الأفراد بمحيطهم، ومنها الزمان، والمكان، والأوضاع الاقتصادية، ومستوى التعليم والوعي خاصةً حين يكون أحد طرفي التواصل ينتمي إلى الفئات المهمشة في المجتمع.
وبحسب مروى، فإن المحددات المؤثرة في علاقات المحيط الاجتماعي مع أفراد الميم-عين في دير الزور، تؤثّر بشكل سلبي على تواصل العديد منهم مع محيطهم وتشكل أحد العوائق التي تحول دون انخراطهم بشكل إيجابي في المجتمع، خاصةً أن العلاقة المثلية محرمة ومجرمة قانونياً في سوريا، وملاحقة مجتمعياً بالوصم والعار، ضمن مجتمعات الريف والمدن الصغيرة المحافظة بشكل خاص، حيث تكون الرقابة المجتمعية أشد مما هي عليه في المدن الكبيرة.
وحيد في المدينة
بلحية كثيفة مبعثرة غزا معظمها الشيب، وشاربين يغطّيان شفته العليا، ووجه أسمر برزت تجاعيد جبينه وخدّيه، وعيون عسلية غائرة في محجريهما، تتنقل في المكان كأنها تبحث عن شيء ما أضاعته منذ زمن ولم تعثر عليه، ربما هو الاستقرار الذي لم يعرفه محمد بعد نزوحه من دير الزور في العام 2012، وحتى بعد عودته إليها مجبراً بعد 7 سنوات للحفاظ على وظيفته: "لم أشترِ مرآةً لأنني أخاف من النظر إلى نفسي، لا شيء يشبهني هنا أو أشبهه أو أنتمي إليه، حتى هذا الجسد".
لا يحاول محمد بناء علاقات جديدة، كونه يرى أنها ستكون ثقلاً جديداً عليه، واصفاً من يتعامل معهم بأنهم وجوه عابرة وعيون فضولية يتحاشى أن ينظر إليها خشية أن تؤذيه، فيشعر بالضغط الكبير لأنه مضطر إلى بذل جهد مضاعف للتدقيق في شكله وصوته وتصرفاته ولباسه حتى لا يتعرض للانتقاد والتنمر والسخرية في جوّ "مسموم" يصيبه بالذعر والاختناق: "أنا مضطر هنا إلى أن أنكر حقيقتي ورغبتي"، وفق ما يقول.
اختار هذا الرجل الابتعاد عن الناس في مدينته والاكتفاء بذاكرته وبعض الصور التي يجمعها في غرفته ويخفيها بشكل جيّد بين عشرات المجلات والكتب.
"لم أشترِ مرآةً لأنني أخاف من النظر إلى نفسي، لا شيء يشبهني هنا أو أشبهه أو أنتمي إليه، حتى هذا الجسد"
في حيّ تحولت معظم بيوته إلى ركام، يقف وحيداً بثياب رثّة يستقبل عامه الخامس والأربعين مع دمية صغيرة من القماش يخفيها في جيبه وفستان أحمر بقي مطويّاً في حقيبة رمادية تعيش معه في غرفة ذات جدران بيضاء كالحة مشققة، ونافذة سُدّت بالحجارة والطين، وغرفتين من أصل أربعة هما كل ما بقي لديه بعد الحرب، من البيت الذي بناه قبل عشرين عاماً في أحد أحياء مدينة دير الزور. يومها كان مقبلاً على الحياة بنهمٍ، يستكشف نفسه وميوله، باحثاً عن فضاء من الحرية والاستقلال مع أصدقائه الذين تعرفهم جدران هذا البيت جيّداً، ولم يبقَ منهم اليوم سوى الذكريات التي تؤنس وحشة المكان ووحدة صاحبه.
يشير محمد إلى غرفته المتداعية، ويقول مبتسماً: "إنها تشبهني كثيراً"؛ سلك أبيض تعلّقت فيه لمبة لا تضيء إلا لساعات قليلة مع وصول الكهرباء التي تغيب لساعات كثيرة، وأحياناً لأيام، وبطارية تُستخدم لشحن أضواء صغيرة تنير عتمة الليل الموحش. "حياتي في دمشق كانت صعبةً، لكنها تحمل لحظات من الفرح حين التقي بأناس يشبهونني، هناك كنت أجد ما يؤنس وحدة روحي وجسدي"، يقول محمد واصفاً ساعات يومه بأنها هروب دائم من نفسه ومن الآخرين الذين يخبرونه في كل يوم بأنه يتقدم في العمر ويحتاج إلى العثور على زوجة وإنجاب أطفال قبل أن يموت وحيداً من دون أن يعرف به أحد. أما ليلاً، فهو لا ينام سوى لساعات قليلة ويبقى محاصراً بالأشباح والذكريات والرغبات التي ترفض أن تتركه.
يرى محمد أن الكثير من الحواجز تقف في طريق تواصله مع أفراد آخرين من مجتمع الميم-عين في دير الزور، منها الفقر، والعمر، وطريقة حياته وانعدام ثقته بالآخرين، ناهيك عن فقدان الرغبة في التعرف إلى المزيد من الأفراد الذين قد يتركونه أو يسببون له الأذى في نهاية المطاف.
يدخّن محمد بشراهة، مبرراً ذلك بأنه المتنفس الوحيد لتوتره، لا سيّما أنه حاول أن يعود إلى ممارسة الرياضة، لكن جسده خذله مع كثرة الأمراض التي يعاني منها، كما أن الوحدة باتت تنهشه: "في بعض الأيام أرسل عشرات الرسائل النصية عبر هاتفي، وأنتظر رداً يقنعني بالبقاء في هذه الحياة، لكن رسائلي تبقى بلا جواب".
كل شيء تغيّر إلا الرغبات
راوية، اسم مستعار لسيدة مثلية لم تغادر يوماً دير الزور: "الجميع تغيّروا ولم يبقَ أحد من صديقاتي السابقات".
ترتدي راوية الحجاب لأنها مجبرة على ذلك: "مجتمع دير الزور اليوم أقرب إلى قرية كبيرة، فهو أكثر انغلاقاً وتحفظاً مما كان عليه قبل الحرب، فضلاً عن حالة الفقر التي تعاني منها غالبية السكان في المدينة".
وتكشف هذه السيدة التي كان لديها عدد من الأصدقاء المثليين، أن عدد أفراد مجتمع الميم-عين في محافظة دير الزور كان أكبر: "كان لديهم مناطق يلتقون فيها في الفضاء العام، ويحظون بلحظات من الحرية والوجود أمام الناس وإن بشيء من التحفظ، لكن أيضاً بشيء من الأمان النسبي".
وتضيف: "أغلبهم كانوا يعرفون بعضهم برغم انتشارهم في مناطق وأحياء عدة من المدينة والريف، وكانت هناك تجمعات عدة لأفراد في مناطق أخرى مثل البوكمال والميادين وبعض القرى، وبرغم سرّية هذه المجتمعات إلا أنها كانت على تواصل مع بعضها عبر سلسلة من العلاقات الشخصية والصداقات... الحياة كانت أيسر من كل النواحي والمال كان أوفر، والتنقل كان أسلس وأكثر أماناً".
تحب راوية أن تتذكر كيف كانت تعيش قبل الحرب مع صديقاتها وشريكاتها، فهذا يساعدها على الاستمرار في الحياة والنهوض كل يوم من الفراش من دون الشعور بالحسرة والندم: "صحيح أنني أمارس الجنس مع البعض من السيدات، لكن القلب ما عاد يدقّ مثل أيام زمان، فالجسم تغيّر والحال تبدّل".
نافذة إلكترونية على العالم
يقضي حسان (21 عاماً)، وهو طالب في جامعة الفرات، معظم وقته في غرفته، ولا يخرج منها إلا إلى كليته. يصف حياته في أثناء المدرسة الثانوية والإعدادية "بالجحيم"، لما كان يتعرض له من تنمّر وعنف لفظي ومادي وصل إلى حدّ كسر إحدى يديه ومحاولة اغتصابه وعند عودته إلى منزله قام والده بضربه وكسر يده الثانية لأنه "مش رجال"، بحسب قوله.
دائماً ما يقع اللوم على حسان بسبب تصرفاته، لذا قرر أن يعزل نفسه في غرفته: "لم أنجح في الاندماج مع هذا المجتمع الأبوي الذكوري".
لم يعرف هذا الشاب أي علاقة جسدية حقيقية، خوفاً من تعرّضه للتلاعب أو الابتزاز، لذا يكتفي بمشاهدة الأفلام المثلية على شاشة جوّاله وممارسة العادة السرية.
يصف حسان تواصله مع العالم الخارجي في دير الزور بالمنقطع: "التواصل يجب أن يكون إيجابياً، إنه ليس فقط حواراً بين طرفين بل هو أيضاً تقبّل وفهم لحاجات كل طرف وغاياته واحترامه، فما فائدة التواصل السلبي الذي يؤذي أحد الطرفين أو يلغيه؟".
يرى هذا الشاب أن التواصل بين أفراد مجتمع الميم-عين كان يجب أن يصل إلى الدعم والمساندة وتعزيز الثقة وتكوين شبكة أمان، لكن هذا غير موجود وفق تأكيده: "بعض الأفراد يحاولون الاستمرار في حياة صعبة والعلاقات بينهم يشوبها فقدان الثقة وعدم الأمان وعدم الفهم ونقص المعلومات الطبية والنفسية".
تشكّل وسائل التواصل بالنسبة لحسان، مثل تطبيق إنستغرام وفيسبوك، نافذةً على مجتمع الميم-عين في الخارج، فهو ينفق عليها ساعات كثيرةً من يومه محاولاً التعرف إلى أشخاص جدد: "هي خيوط تربط الكثير من أفراد مجتمع الميم-عين ببعضهم، وتمكّنهم من تطوير صداقتهم ومعارفهم وتغني تجاربهم كما أنها تبني لهم مجتمعاً بديلاً يشعرون بالانتماء إليه".
يستخدم هذا الشاب وسائل التواصل بحذر، ولا يرسل عبرها صوراً أو مقاطع فيديو له، ولا يتحدث فيها مع أشخاص لا يعرفهم جيداً خشية ابتزازه أو فضحه وانتشار مقاطع له كما حدث مع عدد من أصدقائه.
يستخدم بعض أفراد مجتمع الميم في دير الزور تطبيق هورنت hornet، وهو أحد تطبيقات التعارف الخاصة بمجتمع الميم-عين على الشبكة العنكبوتية، لكن حسان يجزم بأن العديد من الأشخاص من مختلف الفئات العمرية يستخدمون تطبيقات فيسبوك وإنستغرام للتعارف ويقيمون مجموعات خاصةً.
"حياتي في دمشق كانت صعبةً، لكنها تحمل لحظات من الفرح حين التقي بأناس يشبهونني، هناك كنت أجد ما يؤنس وحدة روحي وجسدي"
يؤكد المعالج النفسي ميشيل لحود، الذي يقيم في ألمانيا ويستقبل العديد من أفراد مجتمع الميم-عين من المنطقة الشرقية في سوريا، أن دور المجتمع والأهل لا يمكن أن نستبدله بالعالم الافتراضي: "لا يمكن أن يعيش الإنسان مقطوعاً عن بيئته الموجود فيها، والتي أسهمت في تكوينه، فالعالم الافتراضي لا يمكن أن يشكّل بديلاً للواقع كما أن الفضاء الافتراضي قد يعطي شعوراً بالأمان الوهمي وهذا قد يدفع الإنسان إلى تصرفات قد تكون خطيرةً عليه".
ويضيف قائلاً: "الإنسان هو من يقرر مع من يتواصل، وكيف يتواصل، وماهية هذا التواصل وفق ظروف محيطة وشروطه".
اليوم، تعمل راوية في مساعدة النساء عبر عملها التطوعي في إحدى الجمعيات الخيرية، في حين أن حسان يحاول أن يجد فرصةً للسفر خارج سوريا، أما محمد فيحاول أن يصلح بيته ويرغب في الحياة والموت بسكينة من دون أن يزعجه أحد...
برغم آثار الحرب التي ستبقى واضحةً في دير الزور لفترة طويلة، والطبيعة الجغرافية للمنطقة، إلا أنها لا تختلف عن غيرها في ما يعانيه العديد من أفراد مجتمع الميم-عين من مشكلات وصعوبات في حياتهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
عبد الغني المتوكل -
منذ 11 ساعةوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 11 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت