ضمن فعاليات مهرجان Les Transversales, للفنون المتوسطيّة المختلطة، يشهد مسرح "جان فيارد" في العاصمة الفرنسيّة باريس، عرض "وقائع مدينة لا نعرفها" تأليف وائل قدور إخراج قدور ومحمد آل رشي، وبطولة محمد آل رشي، أمل عمران، رمزي شقير، حنان الديراني ، مؤيد روميّة، وتمارة سعد، ونشاهد فيه قصّة رولا ونور التي انتحرت في دمشق عام 2011، في بداية الثورة السوريّة، تلك الفترة التي لا تظهر مرئيّة في المنتجات الثقافيّة، وتُختزل عادةً في حكاية عن "البدايات"، لنرى أنفسنا أمام مسرحيّةٍ بعيدةٍ عن الصورة النمطيّة التي يُمَثًّل بها السوريّون، والتي تتحرّك بين لاجئين ومهجّرين، أو أولئك الذين يعيشون بأمان داخل سوريا.
قصة عن عسكريّين مثليّين، يتركان عاريين، يقبّلان بعضهما البعض "على الفم" في البرد أمام الجميع، ليتحوّلا إلى تمثالين، ويتجمّدا برداً، في عبرةٍ منحرفةٍ من نوع ما، واستعادة لعلاقات الحبّ المستحيل التي تنتهي بموت علنيّ: نحن أمام حكاية معاصرة، عن التعذيب والحبّ الذي ينتهي بأضحية وأيقونة تحوّل لها العسكريان المثليان.
ندخل العرض لنرى على الخشبة مُربّعاً من أحجار البناء/ البلوك، عليه يدور حديث بين رولا وممرّضة أمام باب مشفى، يتحدّثان فيه عن فتاة سَكِرَت وحاولت الانتحار، ثم طلبت من الممرّضة أن تساعدها كونها لم تمت بعد أن ألقت بنفسها من أعلى بناء ما، يغيّر بعدها الممثّلون شكل المربع، لننتقل إلى غرفة تحقيق، نشاهد فيها مُحقّقاً ورولا نفسها، تقرأ رسالةً من نور، نكتشف فيها علاقة الحبّ المثليّة بينهما، ثم يبدأ المحقّق بابتزازها لتعترف أمامه بأنها كانت تضاجع نور، إلى جانب إخباره بأسماء من كان يتظاهر معها في دمشق مقابل ألا تُعتقل نور.
تفضح مسرحية "وقائع مدينة لا نعرفها"، من مهرجان Les Transversales, كيفية التعامل مع المثليّة في سوريا والعنف الذي تواجه به
داخل هذا الفضاء القاسي، الاستثنائي، يمكن فهم كيفية التعامل مع المثليّة في سوريا والعنف الذي تواجه به، إذ نتعرّف على نوعين من القصص المثليّة التي تُكشف في فضاء داخليّ مصمّم لمعاداة هذا الشكل من العلاقات، الأولى، نسمعها في حكاية يسردها المحقّق لرولا، عن عسكريّين مثليّين، يتركان عاريين، يقبّلان بعضهما البعض "على الفم" في البرد أمام الجميع، ليتحوّلا إلى تمثالين، ويتجمّدا برداً، في عبرةٍ منحرفةٍ من نوع ما، واستعادة لعلاقات الحبّ المستحيل التي تنتهي بموت علنيّ، يحاكيه الفنان شقير بجسده عبر تقليد وضعيّة التقبيل، لنرى أنفسنا أمام حكاية معاصرة، عن التعذيب والحبّ الذي ينتهي بأضحية وأيقونة تحوّل لها العسكريان المثليان.
القصّة الثانيّة هي حكاية نور ورلا، اللاتي نعلم لاحقاً أنهما اعتُقلتا وعذِّبتا ثمّ أُفرج عنهما، إلا أن حكايتهما فُضحت في هذا الفضاء/الزنزانة، وإثر ذلك تخضع رولا لسلسة من عمليات التحقيق غير الرسميّة بوصفها آثمة، ومثليّتها وصمة عار، هي محاصرة، ليس فقط من قبل المكان المشغول بثورة، بل أيضاً من قبل المحيطين بها، فحبيبها العسكريّ يقرّر تركها كونها ترفض ممارسة الجنس معه، وتعجز عن شرح علاقتها بنور، أما والد نورّ فيؤنّبها ويتهمها بأنها حوّلت منزله إلى "تنسيقيّة" واستغلّت ابنته، وتبتزّها والدة نور وتطلب منها ترك ابنتها مقابل تحرير صديقها المعتقل، الكلّ يحدّق برولا مشيراً إلى العار الذي تحمله، بسبب مثليّتها وصداقتها مع نور التي تمكّنت من النجاة من السجن، إلى جانب موقفها المتردّد من الثورة.
هؤلاء "المحقّقون" نراهم بعد خروجها من المعتقل، يحيطون بها مادياً على الخشبة، لتتالى أدوارهم في استجوابها ولومها.
في مسرحية "وقائع مدينة لا نعرفها"، يُطرح تساؤل عن التضحيّة التي يبذلها الفرد في سبيل" الثورة"، ونقيضها المتمثّل بالانتحار
الثورة في سورية أدّت إلى طرح تساؤلات لدى جميع السوريين، على الصعيدين العام وذاك الشخصيّ والحميميّ، في ذات الوقت تغيّرت التكوينات الماديّة للمدينة، فكلما ازدادت قسوة وتساؤلات المحيطين برولا، تغيّرت ملامح البلوك ليتحوّل إلى مدينة، لكن قبل ذلك، نكتشف كيف غيّرت الثورة طباع الناس وتقسيماتهم، إذ نتعرّف على فئة من المُطيعين والمتنفّذين، المتمثّلين بأهل نور، القادرين على إخراج ابنتهم من المعتقل وتجاهل الثورة، تلك الفئة التي يصفها العسكري حبيب رولا، والمشارك في الثورة سرّاً، بأنها الأقذر، الفئة التي تتابع حياتها والعالم في الخارج ينهار، هناك بيوت تتدمّر أمّا منازلهم الفخمة فتبقى على حالها.
لا نشاهد نور سوى مرّة واحدة في نهاية المسرحيّة، وهي ترقص في ملهى ليلي، بعد أن تحوّل المربّع الذي تدور فيه الأحداث إلى مدينة، هي غرض الرغبة لدى جميع من في المسرحيّة، تحرّكهم نحوها أو ضدها، الكلّ يتحدّث بصورتها دون أن نعلم حقيقة ما تريد، سوى تلك الرسالة النصيّة التي قرأتها رولا في المعتقل، والتي تعترف فيها نور بحبّها لرولا، نحن لا نرى نور إلا وهي ترقص والمدينة من حولها تثور، خصوصاً أنه لا يتضح أمامنا موقفها من الثورة، وهنا يُطرح تساؤل عن التضحيّة التي يبذلها الفرد في سبيل" الثورة"، ونقيضها المتمثّل بالانتحار الذي لجأت له نور، فكلّ الذين ضحّوا مقيّدون نوعا ما، أسرى حدث خارجيّ، عدا نور، الحرّة الوحيدة، التي اختارت الموت والانتحار، غير آبهةٍ بما يحدث، تسوقها رغباتها واندفاعاتها.
هناك سؤال أخلاقي توضع أمامه رولا، يرتبط بمصير صديقها معتز الذي اعتُقل، والتي امتلكت فرصة "تحريره" في حال تركت نور وابتعدت عنها كما ابتزّتها والدة نور، لكن رولا رفضت احتمال نجاة صديقها، ليبدو الأخير كأنه قُدِّم كأضحية، لا في سبيل الثورة، بل في سبيل حبّ رولا لنور وحرصها على "رغباتها"، إذ تقول رولا أنها ستحمي من تحبّ وتدفعها لاختيار طريقها دون مساعدة أحد، بل أنها ستنقذ صديقها معتز لوحدها، وهنا تظهر الطبقة الاجتماعيّة التي تنتقدها المسرحيّة، تلك القادرة على تجنّب التضحيّة وتفادي الاعتقال، كون رولا لم تذكر سوى اسم نور لثقتها أن أهلها يضمنون خروجها من المعتقل، وهنا تعود نور لتبدو ،كالثورة نفسها، مفهوماً يسعى الجميع لحمايته والتضحية في سبيله، بل حتى أن رولا ترفض مغادرة منزل نور خوفاً عليها من نفسها، في ذات الوقت يمكن قراءة ما حصل بصورة ثانيّة، أنانية رولا وتضحيتها العمياء في سبيل الحب، جعلتها قادرة على استثناء احتمال إنقاذ صديقها المعتقل في سبيل من تحب، هذان الاحتمالان سببهما استحالة إطلاق أحكام أخلاقيّة مطلقة على من يعُتقل ويتعرّض للتعذيب، ويسعى للحفاظ على حياته مهما كان الثمن، حتى لو كان في ذلك تهديد لحياة الآخرين.
التساؤلات المرتبطة بالمثليّة والثورة تبدو متماسكة في المسرحيّة، وتسلّط الضوء على مساحةٍ خاضعةٍ للنظام، تثور وتتعرّض للقمع، فالـ "الصراع" لا يتمّثل بالنظام ومؤسّساته ورجالاته فقط، بل أيضاً بالكتلة البشريّة المنصاعة له، المواطنين الآمنين المستفيدين من "الأمان" عبر صمتهم، أولئك الذين وجدوا أنفسهم متورّطين في الثورة مصادفة، الأهمّ أنه لا مساحة آمنة في الفضاءات التي تدور فيها المسرحيّة، الشارع خطر، المنزل خطر، المشفى خطر كما في البداية كونه لا يضمن الحياة، هناك احتمالات للموت والعنف تهدّد تماسك المدينة وشكلها المادي ذاته، والذي يكوّنه الممثلون أنفسهم أثناء "اللعب".
أكثر ما يثير التساؤلات في العرض، وهو حضور المخرج والكاتب نفسه، وائل قدور، ضمن مساحات اللعب، وهو يتحرّك على الخشبة ويُعيد تشكيل الفضاء ويراقب الممثلين ويتلصّص عليهم، ولا نعلم بدقّة إن كان يؤدّي شخصيته نفسها، أم شخصية لا نعرفها، هو مراقب صامت، يخلق حضوره حيرة وهو يتحرّك بين شخصياته دون أن يؤثّر عليها أو تتأثّر به، وبالإمكان تأويل ذلك في علاقة المؤلّف مع نصّه، لكن لن تبدو هذه التأويلات مقنعة، في ظل غياب دور جوهري له في أحداث المسرحيّة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 ساعاتلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 4 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ 5 أيامحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أيامالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ أسبوعمع الأسف