منذ أكثر من قرابة 40 سنة تحرص الجدة الغزية فاطمة أحمد 70 عاماً على تناول طبق "قمر الدين" البرتقالي، نجم مائدة سحورها الرمضانية، والبند الثابت في قائمة مشتريات السلة الغذائية في بداية الشهر الفضيل.
يُصنف السفير الغذائي الشعبي قمر الدين على أنه لفّات حلوى مصنوعة من فاكهة المشمش، لونه برتقالي، يباع على شكل شرائح مغلفة مستطيلة الشكل، انتقل من المطبخ المصري إلى المطبخ الفلسطيني عبر استيراده من المصانع المصرية لتعج به الأسواق الغزية بداية رمضان. ويبلغ ثمن اللفة الواحدة قرابة سبعة شيكل أي ما يعادل دولارين أمريكيين.
يحتوي على فيتامينات وبروتينات، ويعوضها عن الجوع والعطش طوال نهار الصوم
"من لا يعرف قيمة طبق قمر الدين رايح عليه نص عمره"، تلمح الجدة فاطمة لأهمية القيمة الغذائية لطبقها المفضل، بقولها إنه يحتوي على فيتامينات وبروتينات، ويعوضها عن الجوع والعطش طوال نهار الصوم، لذا فهي تجد متعة بإعداده بنفسها.
تقول فاطمة: "ننقع الشرائح المشمشية في ماء مغلي بعض الوقت حتى تذوب، ثم أصفّيها تماماً من الماء ومرسها "أي فركها باليدين" حتى تصبح عجينة لزجة كالحساء، ثم أسكبها في أطباق".
عائلة الجدة فاطمة
مثل الحكمة العتيقة، والتقاليد القديمة يتربع قمر الدين على عرش موائد كبار السن في رمضان بقطاع غزة، رغم اختفاء الكثير من الطقوس الرمضانية القديمة التي كان يحرص عليها الأجداد، لكن فكرته التي تتعدى كونه مجرد وجبة غذائية جعلته يمثل طقساً اجتماعياً مهماً للعائلات التي تضم الأجداد والجدات.
مثل الحكمة العتيقة، والتقاليد القديمة التي يحسن كبار السن تقبلها وتذوقها، تُعد الجدة قمر الدين وسط تبادل الضحكات والممازحات عن حياتها القديمة مع جدهم، وكيف كانت تصنع له الطعام في رمضان
بالنسبة لعائلة الجدة فاطمة تكمن أهميته في كونه فرصة جيدة ليلتقي حولها أحفادها وهي تعده وسط تبادل الضحكات والممازحات عن حياتها القديمة مع جدهم وكيف كانت تصنع له الطعام برمضان.
والمتعارف عليه شعبياً أن قمر الدين ارتبط ارتباطاً وثيقاً برمضان، إذ يتم إعداده بعدة طرق، فهو يأخذ الطريقة الذي تحدثت عنه الجدة فاطمة سابقاً، والبعض يصنفه على أنه شراب، وهو مشهور في مصر، وتعده بعض ربات الأسر على شكل مهلبية بإضافة الحليب والسكر له وبعض المكسرات.
مهلبية قمر الدين الفلسطينية
تستعد ربة المنزل سميرة الشيخ، 50 عاماً، بعد الانتهاء مباشرة من الإفطار لإعداد حلوى قمر الدين، التي تأخذ شكل المهلبية، وتخصصها لحماتها بينما تعدّ للأبناء ولزوجها حلوى القطايف. تقول إنها ورثت طريقة إعداد حلوى قمر الدين عن جدتها المصرية التي اعتادت قديماً أن تكون هذه الحلوى على مائدة إفطارها الرمضانية، لأنها شائعة جداً لديهم، وعندما تزوجت في غزة، وجدت حماتها تفضل "قمر الدين"، فاقترحت عليها تجربته على شكل حلوى بدلاً من الطبق المعتاد عند الغزيين، ونجحت في المهمة.
تشرح سميرة عن آلية إعدادها مهلبية قمر الدين الرمضانية: "آخذ منقوع شرائح قمر الدين، وأضربها بالخلاط الكهربائي، ثم أضعها على النار مع إضافة السكر، والنشاء، والقليل من الماء حتى يغلي فيتكاثف المزيج، ثم أسكبه في أطباق الحلوى مع الزبيب وجوز الهند والفستق، ويقدم بارداً".
فرحة سميرة لا تضاهى بتقديمها طبق حلوى رمضانياً تقليدياً، إذ يفضله كبار السن والزائرون وعلمت جاراتها بغزة طريقة إعداده، فهو اقتصادي، وغير مكلف، ويناسب جميع الطبقات، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه الغزيون المحاصرون.
وتشير سمير إلى أن كبار السن في مصر يحرصون على تناوله، ولكن على شكل مشروب بجانب سفرة رمضان على الإفطار، إذ يعتبر قاسماً مشتركاً بين الأسر الغزية والمصرية على السواء.
اشتهرت صناعة قمر الدين قديماً، وفق ما يشاع في بلاد الشام خاصة سوريا، فكان الناس يعتمدون على الطريقة التقليدية في تصنيعه بعصر ثمار المشمش وإضافة السكر إليه ثم غليه على النار وسكبه على ألواح خشبية مدهونة بزيت الزيتون، ثم تجفيف المزيج عبر تعريضه للشمس فترات طويلة، ليتم بعد ذلك تقطيعه وتغليفه على شكل طبقات، أما في عصرنا الحالي فيتم تصنيعه في مصانع كبيرة من خلال آلات مختصة بذلك.
قمر الدين حكايات مصرية
لا يوجد مصادر معينة حول أصوله، ولكن بمجرد أن تضغط على زر "غوغل" تهجم عليك المواقع المصرية في ذكر تاريخها، وأصولها المرجح أنها سورية من الغوطة الشرقية، تتداول تلك المنصات خبر "أن قمر الدين عُرف بداية في بلاد الشام خلال القرن التاسع للهجري"، ثم رحل منها إلى مصر ومن ثم المغرب. وتقول روايات أخرى إن "سبب ظهور قمر الدين يعود إلى ندرة ثمار المشمش وبقائها في الأسواق لمدة لا تزيد عن شهر، ما دعا أهالي سوريا في ذلك الوقت إلى تجفيف ثماره، إما لصناعة المشمش المجفف أو تجفيفها في شكل شرائح مستطيلة ذات لون برتقالي عرفت باسم قمر الدين".
وبخصوص تسمية قمر الدين تقول روايات "إنه نسبة إلى " أمر الدين" وهي قرية شامية في سوريا، ثم تغير الاسم ليصبح قمر الدين. لهذا تعتقد الغالبية أن أصوله سورية التي تشتهر بتصديره. والبعض يشير إلى أنه يعود للعهد الأموي، قبل ما يقارب الـ1400 عام، إذ روي أن الخليفة الوليد بن عبد الملك آنذاك أمر بتوزيع مشروب المشمش فور ثبوت هلال رمضان، لذلك أطلق عليه اسم "قمر الدين".
"من لا يعرف قيمة طبق قمر الدين رايح عليه نص عمره"، تقول إحدى الجدات من غزة، معددة فوائد جسمانية ونفسية واجتماعية لقمر الدين، التي يعدونها بطريقة خاصة ومميزة عن تلك التي في مصر، فهل يبالغن في ذلك؟
ووفق ما ورد في كتاب "خطط الشام" تكثر زراعة فاكهة المشمش في منطقة الغوطة، ولكن بسبب الحرب على سورية قل إنتاجها وتصديرها.
لا يمكن أن نغفل عن القيمة الغذائية التي يحتوي عليها القمر البرتقالي الذي تفوح منه ذكريات الطفولة وعبق الماضي. يتحدث الدكتور معين الشريف أخصائي تغذية لرصيف22 مستذكراً جده الذي كان يفضل تناوله على السحور: "يحرص غالبية كبار السن في غزة منذ القدم حتى وقتنا الحاضر على تناول قمر الدين، نظراً للقيمة الغذائية المهمة التي يحتوي عليها، فهو غني بالفيتامينات والسكريات ويمد الجسم بالطاقة طوال النهار، ويزيد مناعته".
ويضيف الشريف أن لقمر الدين دوراً مهماً في تنشيط الجهاز الهضمي، ويحارب العطش نهار رمضان، كما أنه يقوي الأعصاب، داعياً الرياضين لتناول عصيره، وكذلك الحوامل والمرضعات، وليس فقط كبار السن. فهو يزيد مناعة الجسم، ويعتبر بديلاً عن العصائر والمشروبات الغازية.
كما تعلو أصوات التواشيح الدينية، والزينة والمساجد التي تصدح بصلوات التراويح، كأحد أبهج طقوس شهر رمضان المبارك، تفوح أيضاً روائح الأطعمة التراثية بأشكالها وأنواعها المتعددة، مشكلة هوية رمزية لكل شعب من الشعوب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...