شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"تكريزة رمضان"... عادة دمشقية عمرها مئات السنين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

السبت 25 مارس 202309:57 ص

"نحنا الشوام منحب عطول نطلع سيّارين، الموضوع مو بس متعلق بالتكريزة"، هذه كانت أولى كلمات ناصر قسومة عند سؤاله عن ماهية "تكريزة رمضان". فالدمشقيون مثلما يضيفون للعيد الـ"جحش" يضيفون لشهر رمضان تكريزة تسبقه، لتزيد فرحتهم في كل مناسبة يوماً إضافياً.
يعيش الشامي العتيق ناصر قسومة (63 عاماً) في حي الشاغور، ويعمل بائعاً في إحدى حاراته، يروي لرصيف22 عن ماضيه مع هذه المناسبة واصفاً إياها بأنها عيدٌ في ذاته، فهي فرصة للتنزه، ويضيف: "نحنا دايماً منحاول ندور ع أي سبب لنطلع سيرانة ونجتمع مع العيلة."

عادةٌ قديمة لأهالي الأزقة  

ساعاتٌ طويلةٌ من البحث قضيتها في أحياء الشام القديمة، أسأل سكاناً عن أصل "تكريزة رمضان" وسبب تسميتها، وبعض التفاصيل عنها، ويبرع كل شامي بتفسيرها كما يعيشها. فأهل اللغة يحاولون نسب الكلمة للمعاجم والأصل اللغوي ولكن دون جذور واضحة، أما أهالي الحارات الشعبية فلا يأبهون بأصل التسمية أو سببها، وكل ما يعرفون هو أنهم عاشوا" التكريزة" ومارسوا طقوسها منذ صغرهم لليوم.

الدمشقيون مثلما يضيفون للعيد الـ"جحش" يضيفون لشهر رمضان "تكريزة تسبقه"، لتزيد فرحتهم في كل مناسبة يوماً إضافياً

على الرغم من الاختلاف على معنى "التكريزة" الحرفي، فإنها واحد من الطقوس التي لا يعلمها إلا الدمشقيون أبناء الأزقة والحارات القديمة، فهي بحسب نصوح عُرابي (76 عاماً) عادة قديمة ومشهورة لدى أبناء الأحياء القديمة فقط، ولا يعلم عنها بقية أبناء دمشق مثلما يعرفها أبناء الشاغور والقنوات.

آخر فنجان قهوة وآخر فطور  

على ضفاف نهر بردى وفي أحد متنزهات الربوة في دمشق، تقام العراضات الشامية والاحتفالات الشعبية في الأسبوع الأخير من شهر شعبان، فيرتدي البعض الألبسة الدمشقية التقليدية ويجلسون بشكل دائري أمام الحكواتي ليعيد بعضاً من حكايا الشام القديمة إلى الأذهان. عن "التكريزة" يقول الحكواتي رشاد حمصية المعروف بأبو رائد لرصيف22: "هي عادة ورثناها عن أجدادنا، الشوام بروحوا سيران قبل قدوم رمضان توديعة شهر شعبان واستقبال لرمضان، بياخدوا البسُط والأكلات الشامية"، مشيراً إلى أن البعض يبرعون بأداء جزء من أشكال الاستعراضات والعادات التراثية مثل السيف والترس، والسرد الحكواتي، والعراضة الشامية، فالدمشقيون يختصرون كل التراث الدمشقي في يومٍ واحد.

يخرج أهل دمشق في نزهة للبساتين لتوديع شعبان واستقبال لرمضان، ويأخذون معهم البسُط وأشهى الأكلات الشامية

ويصف الدكتور والمؤرخ علي القيم "تكريزة رمضان" بالعادة المتأصلة منذ قرون عديدة في بلاد الشام عامة ودمشق خاصة. وهي بمثابة توديع لأيام السهرات اللطيفة والأمسيات، لافتاً إلى أن العديد من المؤرخين كتبوا عن هذه العادة خلال زياراتهم للشام.
وتختلف الإجابة عند سؤال من هم أصغر سناً، فيصف الشاب العشريني عبد الرحمن اللبابيدي سر جمالية "التكريزة" بأنها "آخر رشفة قهوة وآخر فطور، إذ لن تشعر بلذتها حتى اليوم الأول من عيد الفطر".
ويضيف اللبابيدي - عائلته من عائلات الشام الأصيلة- أن "تكريزة رمضان" عبارة عن تجمعات أو "سيرانة" وهي كلمة شامية تصف النزهة، وهي وداع لآخر جمعة في رمضان، إذ يتضمن الفطور فيها المسبحة والتساقي والفول والحمص، لكونه من الصعب تناول هذه المأكولات في رمضان بسبب العطش الذي تسببه بعد تناولها.
ويرى أنس الدمشقي أن العائلة تستغل هذا اليوم للاجتماع، موضحاً لرصيف22 أن التكريزة تختلف من عائلة إلى أخرى، فبعض العائلات يقتصر الموضوع لديها على زيارة الأقارب أو الذهاب إلى مطعم.
الدمشقي الذي يعمل طبيباً للأسنان ينحدر من الخانة رقم (1) التي تدل على أصالة العائلة الشامية، يشير إلى أنه لا يفضل قضاء التكريزة مع العائلة إنما مع أصدقائه لكونه يعتبر أن ما يميز رمضان وجود العائلة في وقت واحد حول سفرة الطعام، فالأيام التي تسبق وتلحق برمضان هي لقضاء الوقت الممتع مع من نحب.

كانت ولا تزال

قد يبدو المشهد في كل أحياء دمشق مألوفاً قبيل رمضان، عندما نسير ونرى جميع المحال والمطاعم تضم عروضاً خاصة بفترة التكريزة، وهو ما اعتاده أبناء الجيل الحالي. ولكن بالعودة للوراء، فعند سؤال أي شيخ متقدم بالعمر، لن يذكر أياً مما سبق، بل سيقول إن المدينة بأكملها كانت أقرب إلى بستان واحد، ولا فرق بين مكانٍ وآخر لقضاء النزهة.

يصف الشاب الدمشقي العشريني سر جمالية "التكريزة" بأنها "آخر رشفة قهوة وآخر فطور، إذ لن تشعر بلذتها حتى اليوم الأول من عيد الفطر"

يقول بائع الألبان السبعيني نصوح عُرابي: "كنا نطلع بالقطار عالربوة، وكان يودي على عين الخضرة، ووادي بردى كلها كانت أماكن للسيرانة، لك حتى باقي الشام كانت بساتين، ماكان في مكان واحد خصوصي للسيران".
وبحسبه، فإن الأطفال وأبناء الجيل الحالي كما يصفهم لا يعرفون التكريزة حقاً، بل يخرجون لنزهات اعتيادية فقط، كما يفعل الدمشقيون في كل يوم جمعة، حتى أن أغلب سكان دمشق لا يعرفون إذا كانت فكرة التكريزة عادة أصيلة أم مجرد مصطلح حديث.

من سوق البزورية

وفي وسط دمشق وشرق الحميدية حيث يقع سوق البزورية، وتعمل به أشهر العائلات الدمشقية، استغرب نزار نوفلية سؤاله عن هذا المصطلح لاعتباره وليد السنوات الأخيرة فقط.
يومئ نوفلية (62 عاماً) برأسه ويكمل وضع التوابل في أكياس خاصة لعرضها وبيعها، ويقول إن التجهيز الحقيقي لرمضان لا يكمن بالتنزه أو الخروج بقصد التسلية، بل هو بتأمين مستلزمات المنزل للشهر مثل لوازم السفرة والمشروبات الرمضانية.

"خدنا عالزبداني"

عدة أيام قضيتها أمشي في شوارع دمشق القديمة وأحيائها، بحثاً عن سرٍ لهذه المناسبة وبدايتها، لأعود بنتيجةٍ واحدة، هي أن مظاهر الفرح لا داعي لتفسيرها، وإنما المتعة في أن تعيشها. تقول الأغنية السورية القديمة "صفّر صفّر يا بابور وخدنا عالزبداني... ببقين منعمل فطور والغدا ببلوداني".

لا داعي لتفسير مظاهر الفرح، وإنما المتعة في أن نعيشها، والتكريزة هي واحدة من هذه المظاهر الدمشقية

هذه الأغنية أداها الفنان رفيق سبيعي في شخصية أبو صياح، وكانت ترددها ألسنة المسافرين عبر الخط الذي يمر بأكثر من عشرين محطة، تبدأ من وسط العاصمة حتى سرغايا، واليوم بعد 55 عاماً على هذه الحلقة من مسلسل "حمام الهنا" لا يزال بابور السوريين يصفر معلناً وقت "السيرانة"، وخاصة أيام الجمعة، فتجدهم ينتشرون في كل الأماكن التي تحيط بالشام، وتحمل لهم معها فسحةً سماوية وأملاً.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image