إن صادف مرورك صباحاً في أحد الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول/ ديسمبر، بجوار الحقول الشاسعة المحيطة ببلدة صحنايا في غوطة دمشق الغربية، ستسمع ما يشبه صوت حبّات المطر وهي ترتطم بالأرض.
إنه موسم قطاف الزيتون الذي تشتهر به البلدة، ويمتد لأسابيع عدة حتى منتصف كانون الثاني/ يناير تقريباً.
البلاد دخلت فصل الشتاء رسمياً، لكن ذلك لا يمنع الشمس من التوهج وسط الغيوم كل يومين أو ثلاثة أيام، وهي الأيام التي ينتظرها أهالي صحنايا للخروج مع "زوّادة" صغيرة من الشاي أو المتة ومستلزمات الإفطار البسيطة، لقضاء بضع ساعات من "التعب والمتعة" كما يقولون، وهم يجنون المحصول الذي سيشكل دعامةً اقتصاديةً مهمة لهم، في ظل ظروف صعبة للغاية يعيشها السوريون اليوم.
"عالبركة" هي التحية التي يلقيها الأهالي على بعضهم البعض خلال هذه الأيام، بدلاً من "صباح الخير"، فهم يحبون شجرة الزيتون المباركة التي تمتلئ بها حقول بلدتهم وحتى أرصفة شوارعها، ويؤمنون بأنها كانت وما تزال تحمل لهم البركات والأمل بغدٍ أفضل.
قبل عام 2011، ضمّت صحنايا قرابة 35 ألف شجرة زيتون وفق تقديرات محلية، كثير منها عمره أكثر من خمسمئة عام، وهي تنتج بشكل أساسي زيتون "الدان" الذي يمتاز بلونه الأسود وحجمه المتوسط ومقاومته للجفاف، ويوجد هذا النوع في محافظات أخرى مثل درعا والسويداء. هذه الأشجار شكّلت جزءاً من ثروة سوريا من "الذهب الأخضر"، مع أكثر من سبعين مليون شجرة زيتون في مختلف المحافظات وعلى رأسها إدلب وطرطوس واللاذقية وحلب، كانت تنتج ما يقرب من مئتي ألف طن زيت، لتكون سوريا حينها الرابعة عالمياً في هذا الإنتاج.
اليوم، وبسبب الحرب والتغيّرات المناخية، يبست أو قُطعت ربع أشجار زيتون صحنايا، وتراجع إنتاج الزيت والزيتون فيها ليصبح بالكاد كافياً لتغطية حاجة سكانها، بعد أن اعتادوا بيع جزء وفير من محصولهم. هذا التراجع تزامن مع انخفاض الإنتاج في عموم سوريا نتيجة عوامل متعلقة بالنزاع، وتراجع معدلات الأمطار وتغيّر مواعيد هطولها.
إن صادف مرورك صباحاً في أحد الأيام الأخيرة من شهر كانون الأول، بجوار الحقول الشاسعة المحيطة ببلدة صحنايا في غوطة دمشق الغربية، ستسمع ما يشبه صوت حبّات المطر وهي ترتطم بالأرض. إنه موسم قطاف الزيتون الذي تشتهر به البلدة، ويمتد لأسابيع عدة حتى منتصف كانون الثاني
ويؤثر الجفاف على إنتاج الزيت، ففي حين يأمل الفلاحون بأن يحصلوا على كيلو زيت مقابل كل ثلاثة أو أربعة كيلوغرامات زيتون، قد يؤدي الجفاف إلى ارتفاع الكمية المطلوبة إلى ضعف الكمية من الزيتون، ما يعني خسارات كبيرةً للمزارعين ومالكي الأراضي.
يبدأ موسم الزيتون في صحنايا عادةً في تشرين الثاني/ نوفمبر، حين يشرع الأهالي في جمع الحبات المتساقطة تحت الأشجار، ومعظمها تكون خضراء اللون وتصلح لتكون زيتون مائدة، وينتظرون تلك التي ما تزال متمسكةً بأغصانها، لتصبح سوداء وجاهزةً للعصر واستخراج الزيت.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر الفائت، ومع جمع الزيتون المتساقط، كان يوسف قسام ينتظر هطول الأمطار كي تمتلئ الحبات الأخرى بالزيت. يمسك المزارع الذي يمتلك أرضاً ورثها عن والده، حبةً صغيرةً قشرتها مجعدةً، ويقول: "انظري، لا زيت كافياً بعد، نحتاج إلى الأمطار التي تأخرت كثيراً". ويضيف أن سقاية الزيتون، إلى جانب الأمطار، ضرورية خلال الصيف، وهو أمر بات صعباً مع شحّ المحروقات وارتفاع أسعارها، وتراجع منسوب نهر الأعوج الذي ينبع من جبل الشيخ جنوباً، نتيجة التعدّيات والجفاف. "أحتاج إلى قرابة 400 ألف ليرة شهرياً (نحو 80 دولاراً وفق سعر الصرف غير الرسمي)، إن كنت أريد سقاية أرضي بالشكل المطلوب، وهو مبلغ خارج نطاق قدرتي"، يقول بأسف.
الأمطار المتأخرة هطلت كذلك بكميات أقل من المعتاد، وفي غير أوقاتها، ولا يؤثر ذلك فقط على الإنتاجية. تقول روعة أبو الحسن، التي تقطف كل عام الزيتون مع عائلة زوجها، إن الأشجار باتت "متعبةً" وجذعها أقل صلابةً، والسبب على الأرجح هو الجفاف. فيما نجد في حقل آخر أشجاراً تحمل زيتوناً بثلاثة ألوان: أخضر وأسود وأحمر، وهي ظاهرة غريبة يُرجعها الفلاحون إلى تأخر الأمطار وقلّتها.
ومع بداية "المربعانية"، وهي الجزء الأول من فصل الشتاء، يتحول قطاف الزيتون في صحنايا إلى ما يشبه الطقس الجماعي والعائلي. في كل أرض تقريباً، نرى الأشجار الكثيفة وهي تهتز من الأعلى، إذ يصعد إليها أحد المزارعين، ويعمل على تحريك أغصانها بيده أو باستخدام عصا خشبية طويلة، فتتساقط الحبات على الأرض أو على قطعة قماشية كبيرة توضع بغرض جمعها، مصدرةً صوتاً رقيقاً.
تحتاج العملية إلى جهد كبير وإتقان لتجنب إلحاق الضرر بالأغصان والمحافظة عليها لضمان استمرار حملها للثمار في العام المقبل. وتحت الشجرة يجلس بقية أفراد العائلة، أو بعض العمال والعاملات، لجمع الزيتون وتنظيفه من الأوراق العالقة به، ووضعه في دلاء كبيرة تُنقل في ما بعد إلى المعاصر.
وتستغرق الشجرة الواحدة ساعات عدة للانتهاء من "فرطها"، وتنتج ما بين 40 إلى 160 كيلوغراماً من الزيتون، حسب القدرة على الاعتناء بها، ومواسم الأمطار.
لا تقتصر معاناة زيتون صحنايا على التغيّرات المناخية، فسنوات الحرب تسببت في إهمال الفلاحين لحقولهم قسراً، وفي قطع عدد هائل من الأشجار، بهدف التدفئة، أو بيع أخشابها حطباً أو تحويل الأراضي إلى مشاريع استثمارية. لا تصعب ملاحظة الأشجار المقطوعة أو المهملة، والأمر تحول إلى الشغل الشاغل لأهالي البلدة الذين يكرّس كثر منهم أوقاتهم وجهودهم لحماية ثرواتها. "نحن المدافعون عن زيتوننا وأرضنا"، يقولون، ويتفقون بين بعضهم على ما يشبه "الأعراف"، فيراقبون الأراضي ويتصدّون لأي ممارسات مسيئة، ويقاطعون كل من يتعدى على الزيتون، قبل أن يدق ناقوس الخطر وتصل الخسارات إلى مرحلة لا يمكن الرجوع عنها.
تشير الدكتورة غادة قطمة، رئيسة دائرة الأصناف والتحسين الوراثي للزيتون في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية، إلى أن أشجار الزيتون تحتاج إلى درجات حرارة منخفضة من منتصف كانون الأول/ ديسمبر وحتى منتصف شباط/ فبراير حتى تتمايز البراعم وتثمر، كما أن انخفاض معدل الهطول المطري وانحباس الأمطار لأشهر طويلة أو هطولها بغزارة ولكن بأيام متفرقة، تجعل الفائدة منها أقل، كون الماء الزائد عن استيعاب التربة يذهب هدراً، وشجرة الزيتون أكثر تأثراً بتوزع الأمطار لأن جذورها سطحية.
تضيف قطمة أن الجفاف يؤثر على الإنتاج من حيث الكم والنوع، فمحتوى الحبة من الحمض الدهني ومضادات الأكسدة يقل في المواسم الجافة، وكثيرون من المزارعين لا يقدمون ريّات تكميلية للأشجار، نتيجة عدم توافر المياه والكهرباء والمحروقات، أو بسبب الإهمال والانشغال بأعمال أخرى. كما أن ارتفاع الحرارة وانخفاض الرطوبة الأرضية خلال أوج فترة خلق الزيت من منتصف آب/ أغسطس حتى بداية تشرين الأول/ أكتوبر، يسببان انخفاض نسبته في الثمار بالرغم من تأخير القطاف، وهذا ما يعاني منه كثير من المزارعين السوريين.
تطرح الخبيرة حلولاً يمكن أن تساهم في تخفيف آثار التغيرات المناخية على الزيتون، ومنها التوجه نحو الممارسات الزراعية الجيدة، كإجراء ريات تكميلية، واستخدام الأسمدة العضوية بدلاً من الكيميائية، والتقليم المتوازن والجيد للأشجار. وتنصح بالتوجه نحو نظم الزراعة المستدامة مثل العضوية لتقليل الانبعاثات الغازية الناتجة عن استخدام المبيدات والأسمدة الكيميائية والوقود، والمسببة للاحتباس الحراري.
بسبب الحرب والتغيّرات المناخية، يبست أو قُطعت ربع أشجار زيتون صحنايا، وتراجع إنتاج الزيت والزيتون ليصبح بالكاد كافياً لتغطية حاجة سكانها، بعد أن اعتادوا بيع جزء وفير من محصولهم. هذا التراجع تزامن مع انخفاض الإنتاج في عموم سوريا نتيجة عوامل متعلقة بالنزاع وتراجع معدلات الأمطار
ويتطلب ذلك برأيها وجود جهة رقابية، وتوافر شبكة اتصال بينها وبين المزارعين، لاستقبال الإشكالات وتلقي الردود السريعة، وفي الوقت نفسه ضمان تنفيذ الإرشادات المقدمة لتلافي الخسارة.
"إن كان زيتونك دان... يا فرحة الضمّان...
إن كان زيتونك سوري... يا فرحتي ويا سروري...
إن كان زيتونك ماوي.... عالزيت (عالمعصرة) لا تآوي...".
هي واحدة من الأغنيات التي اعتاد أهالي صحنايا تردادها في أثناء جني محصول الزيتون. وهناك أيضاً عبارات وهتافات مثل "حاموا علينا الديابِ. يا ربعنا ويا شبابِ"، وتهدف إلى التشجيع على العمل والتسلية وتمضية الوقت.
"اليوم، اختفى الكثير من هذه الطقوس؛ لم نعد نغني، ونكتفي بالصمت أو الحديث عن همومنا"؛ يقول رياض فرعون، أحد المزارعين، وهو يجمع الزيتون مع عائلته. لكنه لا ينسى الإشارة إلى تمسكه بأرضه وزيتوناته. "بالرغم من كل الصعوبات لم أفكر يوماً في تركها. كل زيتونة أعدّها بمثابة ابنٍ لي، وسأحافظ عليها حتى آخر رمق، وأورّثها لأولادي"، يختم.
تصوير: زينة شهلا
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.