تشير تقارير منظمة الصحة العالمية لسنة 2018، إلى أن إيران تقع في المرتبة التاسعة ضمن 189 دولةً، في استهلاك المشروبات الكحولية باستمرار. يتعارض ذلك مع القوانين القضائية في البلاد التي تنص على تنفيذ 80 جلدةً على من يستخدم المُسكر، وإذا ما تم احتجاز مواطن إيراني للمرة الرابعة في حالة سكر، تكون عقوبته الإعدام، حتى لو لم يؤذِ أي شخص.
يدفعنا ذاك التقرير الدولي وهذه العقوبة الصارمة، إلى أن نتساءل باستغراب، كيف يمكن تناول الشراب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ ومن أين يأتي المستهلكون بهذه الكمية من المشروبات الكحولية؟ وكيف؟
يسمّيه البعض "آب شَنگُولی" (ماء السعادة)، ويطلق عليه من يؤمن بفكرة تحريمه: "نَجسي". يمكن للإيرانيين المتمولين أن يحصلوا على مختلف ماركات المشروبات الكحولية من "الساقي"، وهو لقب بائع الكحول. وبمساندة شبكات التواصل الاجتماعي بات الأمر أكثر سهولةً مع التحفظ الذي يبديه البائع والزبون كي لا يقع أي منهما في فخ الشرطة، لكن للسقاة طرق احتيال خاصةً لذلك.
تجارة سرّية تتخطى 3 مليارات دولار
نشرت صحيفة "فَرهِيختِكَان"، قبل ستة أشهر، تقريراً أكدت فيه أنه وفقاً للإحصائيات غير الرسمية، قد يصل حجم تجارة وتهريب الكحول في البلاد إلى أكثر من 110 ألف مليار تومان، أي ما يعادل نحو 3 مليارات و100 مليون دولار.
بعد انتصار الثورة الإسلامية سنة 1979، كان معظم هؤلاء السقاة يطلقون على أنفسهم أسماءً أرمنيةً، حتى أنهم يتحدثون اللغة الفارسية بلهجة أرمنية، إذ إن قوانين نظام الجمهورية الإسلامية كانت تستثني غير المسلمين في صناعة النبيذ بغية الاستهلاك الشخصي
كما أكد برلماني إيراني قبل أعوام، أن الإيرانيين يستهلكون 200 مليون ليتر من الشراب سنوياً، ولربما قد بالغ في هذا العدد، لكن عجلة هذه التجارة المربحة نشطة بفضل السقاة.
بعد انتصار الثورة الإسلامية سنة 1979، كان معظم هؤلاء السقاة يطلقون على أنفسهم أسماءً أرمنيةً، حتى أنهم يتحدثون اللغة الفارسية بلهجة أرمنية، إذ إن قوانين نظام الجمهورية الإسلامية كانت تستثني غير المسلمين في صناعة النبيذ بغية الاستهلاك الشخصي.
خلق هذا الاستثناء في القانون، هويات جديدةً بالنسبة لبائعي الكحول، إذ إنهم مسلمون شيعة لكنهم حين البيع، أرمن أو يهود.
عرق وطني في المنازل
يتم تصنيع العرق البلدي بنوعيات مختلفة، والمتداول منه والشهير والرخيص، يسمّى "عرق سگي"، والمفردة الأخيرة تعني الكلب، إذ كان مصنع "ميكدة قزوين"، يستخدم صورة كلب الصيد على غلاف قارورة عرق العنب، وسرعان ما اشتهر هذا المشروب في المجتمع بهذه التسمية.
لم تصنع شركة قزوين للكحول، "عرق سگي"، بعد استقرار نظام الجمهورية الإسلامية، بيد أن ماركتها الوطنية التي باتت شهيرةً جداً، بقيت تُصنع في أي مكان وزمان حتى اليوم، ومن مواصفات هذا النوع من النبيذ أن نسبة الكحول فيه عالية تصل أحياناً إلى 90 في المئة.
يستعمل بعض صانعي الكحول، مادة الميثانول في صناعة العرق اليدوي، إذ من الناحية الاقتصادية يحقق أرباحاً أكبر، وهو ما تسبب في تسمم المستهلكين أو إصابتهم بالعمى أو حتى موتهم. وتضج الصحف المحلية بأخبار حالات التسمم الجماعية في الحفلات سنوياً.
ومع ازدياد التهريب من كردستان العراق إلى داخل إيران، صارت ماركات الفودكا، والويسكي، وماء الشعير في متناول كثيرين، بيد أن العملة الإيرانية لم تتوقف عن هبوطها المستمر أمام الدولار الأمريكي، وهذا ما جعل شراء قنينة أجنبية مكلفاً جداً.
مصانع الماركات الأجنبية داخل إيران
دخل السقاة على خط الأزمة، وبدأوا بالهندسة العكسية وإنتاج جميع الماركات الأجنبية مع طعمها الخاص في الداخل، حرصاً منهم على جيب المواطن. ولجودة إنتاجهم باتت معرفة النبيذ الأصلي من المزوّر عمليةً صعبةً ومعقدةً وسريةً للغاية، لكنها نجحت في استقطاب الزبائن.
وبرغم أسعارها المناسبة، إلا أنها خطرة على صحة الإنسان، ويخشى كثر من مستخدمي هذه النوعية تقديم شكوى ضد المزورين لدى الشرطة، إذ لا بد أولاً من الاعتراف بجريمة شرب الكحول وتحمّل عقوبتها، حتى أنهم أحياناً لم يراجعوا المراكز الصحية إذا ما تسمّموا، بسبب خوفهم من الاعتقال.
أما بعض المواطنين الذين يتناولون الكحول دائماً، فهم يصنعون مشروبهم بأيديهم وفي منازلهم؛ هو فودكا العنب في الواقع، ولكن عملية التحضير تحتاج إلى أدوات التخدير والتقطير، وفي حال كشفها فالمحاكمة والعقوبة تنتظران الفاعل.
هنا تأتي التقاليد الإيرانية والتراث الإيراني، لحلّ العقدة لمنتجي النبيذ، إذ يتفنن الإيرانيون منذ القدم بصناعة ماء الورد الدمشقي، ويتشابه ذلك مع طريقة إعداد العرق وهذا ما سهّل الطريقة على كثيرين.
وطوال 44 عاماً من عمر النظام الإيراني الحالي، تجرّأ كثر على الاحتيال على القوانين والعيش كما يشتهون، مع تقبّل خطورة الأمر. وفي السنوات الأخيرة ازدادت محال بيع أدوات التخدير والتقطير وحتى الخميرة وأنواع الفلاتر، تحت مسمى استخدامات أخرى.
تجربة فريدة
في ظل حرمان الإيرانيين من الوصول إلى الماركات الأجنبية ذات الجودة العالية، بشكل علني ورسمي، تبقى صناعة العرق المحلي في المنازل تضاهي ماركة جوني ووكر بالنسبة لهم، حتى ظن البعض أن التجربة الإيرانية في هذا المجال تستحق التصدير وتستطيع المنافسة مع الآخرين. كما تشير الإحصائيات غير الرسمية إلى أن 50 في المئة من المشروبات الكحولية، تُصنع في المنازل والورش الخفية.
كثرت المقالات ومقاطع الفيديو التي تشرح كيفية صناعة مختلف أنواع الشراب والعرق وماء الشعير في المنازل على منصات التواصل الاجتماعي، لتسهّل الطريق أمام من يريد أن يصل إلى الاكتفاء الذاتي، وبعض الفيديوهات تقدّم شرحاً يكفي لإنشاء مصنع، وهذا ما سمح لمن يبحث عن فرصة عمل مربحة، أن يجد ضالته. ويبدو أن هناك إرادةً لعدم الاعتناء بالأحكام الفقهية والقانونية التي تقرّها الحكومة الإسلامية.
تكتظ أسواق طهران في نهاية أيلول/سبتمبر من كل عام، بالعنب الأسود، المشهور بـ"شاني"، وهو لا يصلح كثيراً للأكل، ويأتي من محافظة كردستان غرب إيران، فيتوافد الشباب على الأسواق كي يبتاعوه، ثم يحوّلوه إلى شراب كحولي، وهناك عنب أسود بجودة عالية يصلح لشراب أحمر، إذ يتم عصره هناك أمام المحال لاستخدامه كشراب بطعم قابض.
هاجمت الشرطة في العام الماضي، سوقاً من هذه الأسواق في العاصمة، وهو سوق يُعصر العنب فيه ويُقدَّم إلى الزبائن بغية صناعة النبيذ، وصادرت جميع أجهزة التعصير.
شاعر الشراب
برغم تحريمه في الإسلام، إلا أن الشراب حاضر في المجتمع الإيراني المسلم وفي الأدب الفارسي، ويمتلئ الشعر الفارسي بمفردة الشراب، كما يطلَق على حافظ الشيرازي، شاعر الشراب، لكثرة استعماله مفردات متنوعة للشراب. ويدلنا ذلك على أن النبيذ، مشروب شهير في الثقافة الإيرانية.
بعض المواطنين الذين يتناولون الكحول دائماً، فهم يصنعون مشروبهم بأيديهم وفي منازلهم؛ هو فودكا العنب في الواقع، ولكن عملية التحضير تحتاج إلى أدوات التخدير والتقطير، وفي حال كشفها فالمحاكمة والعقوبة تنتظران الفاعل
لكن ما زال مكتب 21 في المحكمة الثورية في طهران، يكتظ بعشرات المواطنين يومياً، لمحاكمتهم بتهمة شرب الخمر، كما تستمر الشرطة الإيرانية في عمليات الكشف سنوياً، حيث تصادر أو تتلف آلاف العلب من الشراب في السيارات وفي المنازل والحفلات الخاصة والمخازن الخفية.
إنها رقابة صارمة لم تتوقف، وفي أحدث حالة نادرة، حرصت الشرطة في العام الماضي لساعات طويلة على تفريغ ناقلة كانت في موقف سيارات أحد المجمعات السكنية في مدينة خرم آباد غرب البلاد.
لم تعلن الحكومة عن إحصائيات رسمية حول ميزان استهلاك المشروبات الكحولية في البلاد، لكن الأدلة تبيّن أنه ازداد خلال السنوات الماضية خاصةً مع ازدياد الصراعات الاجتماعية الحادة بين المجتمع والنظام حول تضييق الخناق من الناحية الشرعية على الحقوق الفردية.
لكن يبدو أن المواطن الإيراني يبحث عن فرصة كي يتناسى فيها مصائبه ومتاعبه، أو يخلق لنفسه لحظات السعادة في جمع الأقارب والأحباب بعيداً عن الأقوال التي تملأ كل مكان عن الاستسلام أمام الإسلام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...