أرادت زوجتي قصّ شعرها قَصّةً رجاليةً، وكان ذلك بمثابة مغامرة جديدة أحبت أن تخوضها للمرة الأولى في حياتها. قررت أن تذهب إلى حلّاق، وتحمستُ لمرافقتها، ليس لأن رجلاً سيقوم بقص شعر زوجتي، بل لأرى أجواء محل الحلاق الخاص بالنساء؛ ماذا يرتدي؟ وماذا يعمل لكيلا يُفضح أمره؟
الأمر طبيعي في بقية الدول، ويمارَس بصورة عادية، لكن في إيران، وحسب قوانين الشريعة، لا يُسمح للرجال بقصّ شعر النساء، وإذا ما علمت الشرطة فسوف تغلق المحل مع غرامة مالية، ولربما يصل الأمر إلى قاعات المحاكم. وقد عاش المجتمع الإيراني الكثير من تلك الحكايات طوال حكم الجمهورية الإسلامية، ولكن في السنوات الأخيرة كثرت صالات الحلاقة النسائية التي يعمل فيها رجال. وبرغم إقبال الفتيات على ذلك، إلا أن المحال الفاخرة ما زالت تعمل بسرّية في قصّ شعر النساء وصبغه وما إلى ذلك.
اتصلت زوجتي بالسيد سياوَش، ولكسب ثقته، ذكرت له اسم من أعطاها الرقم، وهو الوسيط الذي سُمح من خلاله لزوجتي بأن تحجز وقتاً عند سياوش الحلاق. بعد ساعتين وصلنا إلى باب عمارة مكونة من أربعة أدوار، في شمال طهران، حيث يسكن أثرياء البلد. وبعد أن سُمح لنا بالدخول، واجهنا الكثير من الكاميرات على الجدران.
في إيران، وحسب قوانين الشريعة، لا يُسمح للرجال بقصّ شعر النساء، وإذا ما علمت الشرطة فسوف تغلق المحل مع غرامة مالية، ولربما يصل الأمر إلى قاعات المحاكم
كانت الشقة على شكل حرف L. المكان بسيط وفخم وحديث. كنت قد رأيت في ما سبق صالةَ حلاقة نسائية في طهران، ولكن هنا وعلى خلاف سائر الصالات، لا وجود لصور عارضات الأزياء على الجدران، ولا أثر لأنواع الصبغ ومجففات الشعر وأدوات الماكياج.
لطالما لفت انتباهي شَعر الحلّاق نفسه. شعر سياوش ناعم وطويل، كان عقده بربطة ملوّنة ليصل إلى ظهره. له لحيتان خفيفتان ويرتدي بنطلون جينز مخرّم، وفي يده اليسرى سوار من الجلد. ولكي أفتح باب الحديث معه، بدأت بسعر الدولار والتضخم.
بعد تعقيم كرسي الحلاقة وأدواتها، جلست زوجتي لتبدأ المغامرة، وهي شغوفة بمتابعة النتيجة لحظةً بلحظة، من خلال المرآة. أما أنا، فسمح لي بأن أصوّر يديه دون وجهه وتفاصيل الموقع. مع الوقت ازداد فضولي، ودخلت معه في حوار حافل عن تاريخ حلاقة الرجال للنساء الذي كنت دائماً متحمساً لسماعه.
- ظننت أنّ لديك مساعِدةً؟
- لديّ متدربة، ولكن عادةً أعمل وحدي، فأنا أعرف حلاقة النساء بشكل تام.
- أكثر زبائنك من الرجال أم من النساء؟
- من الجنسين. كانت الفتيات أكثر، ولكن ليس لدي متسع من الوقت اليوم، فأنا أبٌ لطفلين، وعليّ قضاء بعض الوقت مع أسرتي. أعمل بشكل خاص وحسب الطلبات، لذلك لم أفتح محلاً في الشارع، وعملي يكون في شقة.
- بماذا يختلف المحل في الشارع عن هكذا مكان؟
- في الشارع لا يمكن للنساء والفتيات دخول محال الرجال، ففي رمشة عين، ستعلم الشرطة. من جهة أخرى، لدي زبائن ثابتون، ولا أحلق للمارة، لذلك أفضل الشقّة.
عندي زبون يتردد عليّ مذ كان طفلاً، فمشواري عمره 21 عاماً. عملت في هذه المهنة منذ أن كان عمري 13 عاماً. كانت أمي مصففة شعر، وأحببت منها هذه المهنة. كنت أدخل إلى الحمام، وأحلق شعري بنفسي، وأحياناً أحلق لأصدقائي. وحين جاءت العطلة الصيفية، ذهبت إلى حلاق حارتنا، وتدربت على يده. ومع اقتراب العام الدراسي الجديد، آثرت ألا أكمل دراستي. غضبت أمي، لكن أبي رحّب بقراري.
واصلت التدريب لعامين متتاليين، ثم قمت بفتح محلي الخاص، كما عدت لاستكمال دراستي. وعندما بلغت الـ18 من عمري، أصبح لدي زبائن كما أي حلاق محترف. دخلت في دورات تدريبية كثيرة، وحتى سافرت إلى خارج البلاد لأتعرف على أحدث الموضات.
تتابع زوجتي بحفاوة مراحل تقصير شعرها الطويل، وسيرة حياة حلّاقها. يعمل سياوش بدقة ومهنية عالية وهو يرتشف الشاي. أظن أنه مستعد لتزويدنا بالكثير من المعلومات، لذا أكملت الأسئلة:
- كيف تغيّر عملك مع التغيّرات الثقافية والاجتماعية في البلاد؟
- لم يكن الإنترنت في متناول الجميع عام 2000 كي أجد أحدث تسريحات الشعر، وكنت أحلق حينها للرجال فقط. أما الكاتولوغات التي تحمل صوراً لصيحات الموضة، فكنت أحصل عليها بشقّ الأنفس. وإذا ما حصلت عليها، أنفّذها بعيداً عن الأنظار. ذات مرة، جاء رجل إلى محلي، وطلب مني أن أقصّ شعره وفقاً للكاتولوغات، وحين باشرتُ بالعمل، أخبرني بأنه ضابط في شرطة الأخلاق، ولا مفرّ من إغلاق محلي.
قلت له: ما الجريمة التي ارتكبتُها؟ قال: إنك تقصّ شعر الناس وفق الموضات الغربية. تم إغلاق محلي ثلاث مرات، في ثلاثة أماكن متعددة في العاصمة طهران. وصل بي الحال إلى أن صرت لا أجرؤ الآن على قول إنّي حلّاق في بعض الأحيان. كانوا يضغطون كثيراً على الحلاقين.
امتلكت في سنة 2007 صالون حلاقة كبيراً في شمال المدينة، وباشرت بحلاقة شعر الفتيات. في إحدى المرات، اتصلت سيدة بسكرتيرة الصالة، وحجزت لنفسها موعداً، وعندما حضرت، قالت إنها ضابطة في شرطة الأخلاق، ويجب أن يتم إغلاق الصالون. أوقفت الشرطة عملي لستة أشهر مع غرامة مالية، وعنونت الصحف الحكومية أعدادَها بأنه تم الكشف عن أكبر بيت للفساد في طهران. وذلك كله لأننا نحلق للنساء.
كانت الأجواء مغلقةً إلى هذه الدرجة، أما الآن فقد تحسن الوضع كثيراً، إذ تضع كثيرٌ من النساء صورهن سافراتٍ على حساباتهن على إنستغرام، ولا تصل يد الحكومة إليهن، برغم أننا ما زلنا نعمل في الخفاء.
- هل ضغوط الحكومة على الحريات الفردية تؤثر على عملك دائماً؟
- نعم. في عام 2008، حين قامت شرطة الأخلاق بدوريات المراقبة في الساحات والشوارع، أصبح عملنا مضحكاً.
حينها، شاعت موضة "قصة السيخ"، وهي جعل الشعر مثل أسياخ الشيّ. بعد أن نقصّ شعر الزبون حسب الموضة، لم نقم بتسريحه كي يظهر عادياً، لأن دورية الشرطة كانت تقف أمام المجمع التجاري الذي نعمل فيه، وكان من مهامهم حجز أصحاب التسريحات العصرية، لذلك كنا نستكمل العمل في الأزقة الخلفية داخل سيارات الزبائن. كنا نعمل في مثل هذه الظروف.
- وماذا تفعل اليوم لكيلا ينفضح موقعك؟
- لا أسمح بدخول الغرباء. كلّ مَن يأتي هو إمّا زبون لي منذ أعوام، أو جاء عبر وساطة شخص أثق به، فأنا حذر كي لا أقع في المشاكل. حين أوقفوني عن العمل سابقاً، كان عمري عشرين عاماً ولم أكن صاحب تجربة. ولكن اليوم إن حدث لي مثل ذلك، فسأتمرد وأفتح محلي برغم إغلاقه رسمياً، كوني لم أقم بمخالفة من الناحية الإنسانية والأخلاقية.
- يعتقد البعض بأنّ حلاقة الرجال أفضل من حلاقة النساء. هل ترى ذلك صحيحاً؟
- هذه حقيقة. أصارحك بأنّ مصففات الشعر الإيرانيات ضعيفات جداً في خلق الموضات على شعر الرأس. والسبب ربما يعود إلى أنهن لم يدخلن دورات تدريبيةً أساسيةً، كما أنهن يغضبن إذا انتقدتهن.
يصمت سياوش، وأفكر في أن كثيرات من الفتيات، مع انطلاق حركة "المرأة، الحياة، الحرية"، خرجن إلى الشوارع من دون غطاء الرأس، كحركة احتجاجية، وتسنّى لأفراد المجتمع أن يشاهدوا قصات شعرهن وتسريحاتهن الجميلة، وقد أظهر الأمر أن كثيرات منهن يفضّلن الشعر القصير، خلافاً لما كنا نظنه عن شعرهن الطويل. فالأمر كان رائجاً بين الإيرانيات من دون أن يعرف الرجال شيئاً.
- هل ازداد عدد النساء عندك كزبائن في الأعوام الأخيرة؟
- نعم. اتجهت السيدات إلى موضة القصة القصيرة، ومن الناحية الثقافية حدثت تغييرات جدية وجذرية في المجتمع. في السابق كان الناس أكثر تديّناً والمتحجبات كثيرات، ولذلك كانت حلاقة النساء تتم على أيدي النساء فقط، بيد أنّ الوضع قد تغيّر في السنوات الأخيرة. لا تؤمن فتيات هذا الجيل بالحجاب القسري، وإذا قام رجل بقصّ شعرهن، فالأمر ليس خطيئةً حسب اعتقادهن.
تذكرت في أثناء حديث سياوش، حكاية والدة أحد أصدقائي، عندما قالت: "قبل ثورة 1979، وتأسيس نظام الجمهورية الإسلامية، كان حلّاقي رجلاً أرمنياً اسمه آرتوش، وكانت تذهب إليه أم زوجي كذلك. وبعد الثورة كنا نذهب إليه بسرّية لفترة 3 سنوات، وكان يسألنا عن كلمة السرّ عند المدخل كي يطمئن أن الثوار لم يعرفوا مكانه. بعد ذلك مانع زوجي ذهابي إلى الحلاق الأرمني، ومضت السنوات وتغير تفكير زوجي حتى عدت مرةً أخرى إلى الحلاقين".
أعود إلى سياوش ليخبرني بأن النظام الإسلامي وطوال 44 عاماً من عمره، عمل على تكريه الناس للدين، ولم يعد الناس يتقبلون المعتقدات الدينية. الآن يبحث المواطن الإيراني عن حريته الفردية.
يتابع سياوش: "حين بدأت بقص شعر النساء، كنت أذهب إلى منازلهن، والآن لديّ نوع من الزبائن على هذا النمط. بالطبع أسعى إلى خلق أجواء مناسبة للسيدات. مثلاً، الوقت هي من تحدده، ولا أعطي موعداً لشخص آخر في الوقت نفسه، لكيلا يُحرجن من حضور الرجال، بيد أن كثيرات من فتيات جيلZ ، لم يعد الأمر يعنيهن إن كان هناك رجل أم لا.
- مادياً هل هناك فرق بين الحلاق والحلاقة؟
- مدخول الحلاقات أكثر، لأن أجورهن أكثر من الرجال. لكن بالنسبة للرجال، فالدخل الأكبر يأتي من خلال إقامة الصفوف التدريبية. أما أنا فأقضي وقتاً طويلاً في الحلاقة، لأنها هواية وبالنسبة لي هي بمثابة فن النحت، أستمتع بها وكأنني أخلق تحفةً فنيةً.
المهم أن يتقبل المجتمع ذلك، فضغط الحكومة ليس العامل الوحيد في الممانعة، وستتغير القوانين مع التحديثات التي تحدث في المجتمع، ولكن المشوار مستمر حتى تزول الحساسية ونظرة المواطنين إلى مهنتنا
- هل تظن بأنه سيأتي يوم تمتلك فيه صالةً مع واجهة زجاجية تطلّ على شارع كبير، تقصّ فيها شعر السيدات بحرية؟
- لا أدري. المهم هو أن يتقبل المجتمع ذلك، فضغط الحكومة ليس العامل الوحيد في الممانعة، وستتغير القوانين مع التحديثات التي تحدث في المجتمع، ولكن المشوار مستمر حتى تزول الحساسية ونظرة المواطنين إلى مهنتنا.
انتهى عمل سياوش، وها هي زوجتي تخوض مغامرتها الجديدة. أدركت أن سياوش وأمثاله يلمسون التغييرات التي تطرأ على الأجيال الإيرانية أكثر من الآخرين عن كثب، فالمجتمع الإيراني اليوم يطالب بحرياته الفردية أكثر من قبل، ويبحث عن تغييرات سريعة في حياته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين