أقف وسط غرفة أمي كمن مسّه الشوق فذابَ، تغمرني موجاتٌ من الدهشة المفرحة بسبب عاداتها وطقوسها وخباياها وحكايات الألفة والمحبة فيها... وأشعر أن غرفتها وطنٌ صغيرٌ أغرق فيه بطواعية العاشق.
في زاويةٍ منها، هناك قطعةٌ من "سوق البزورية" الدمشقي، حيث أجد في خزانة خشبية تسمى "نملية" صرراً من اليانسون والقرفة وجوزة الطيب وحبات الشّمر والبركة والسمسم، خبّأتها لتصنع لي منها "أقراص العيد"، تلك الدوائر المقرمشة المحلّاة التي ملأت أيامي وأحلامي بنكهة الفرح، وأجد أيضاً أكياساً صغيرةً ملأتها بخبرة العطارين، في جوف كل منها شرارةٌ من غواية تعجنها في الصباحات الباكرة وتكوّرها، وتخبز لي منها "فطاير على الصّاج"، أو تقليها في الزيت فتصبح بقدرة يديها "زلابية" معشّقة بالقطر والفانيليا.
أمّي مؤمنةٌ بالفطرة، لهذا وعلى إحدى رفوف "النمليّة" هناك زجاجات زيت الزيتون المقدّس الذي ربطت في عنق كل منها "خَلعةً خضراء" جلبتها من أحد مزارات أولياء الله، ليجعلها بكرامةٍ من كَرَاماته تفور بالبركة وتفيض ولا تنقص أبداً، أو لتمسحَ جسدها به فيذَهب عنه المرض، وكلّ ما يمكن أن يعلقَ عليه من أخباث حَسد الحاسدين، واشتهاء المشتهين لنضارته التي لم تذق طعمَ الذكورة منذ طلاقها عن والدي قبل خمس وثلاثين سنة!
كنت أمازحها وأسألها: "يعني إن وجدت لك عريساً لقطة مع جاهٍ ومالٍ وحَسَبٍ ونسب... ألا توافقين على الزواج منه؟"، فتردّ بنبرةٍ حادّة وجوابٍ حاسم: "الله ريّحني من الزلم يا أمّي، وتريدني أن أبتلي مرة ثانية!"، ثم تردف: "أنا شحدتك من الله يا إبني، ويكفيني من الحياة رائحتك ورائحة أختك"!
أقف وسط غرفة أمي كمن مسّه الشوق فذابَ، تغمرني موجاتٌ من الدهشة المفرحة بسبب عاداتها وطقوسها وخباياها وحكايات الألفة والمحبة فيها... وأشعر أن غرفتها وطنٌ صغيرٌ أغرق فيه بطواعية العاشق
في الزاوية المقابلة للنمليّة، هناك قطعةٌ من "سوق سريجة" الشهير، فقد اجتهدت أمي بدأب النحلات الشغّالات وإخلاص النملات الدؤوبات، لترتّب، تحتَ لوح خشبيّ يسمّى في ريف حماه بـ "السمندرة"، "بيدوناتٍ" بلاستيكية مفلطحة، فيها حبات حمّص وعدسٍ تنتظر أصابعها بحسرة، وهناك "قطرميزات المكدوس" المغرور المخمّر بالثوم والفليفلة الحمراء ومكسّرات اللوز البلدي والجوز الشامي، وإلى جوارها جعلت "قطرميزات الزيتون" ترتاح بوداعة وهناءة المغمور بزيته المقدّس، ثم وعلى طريقة الفنان "ماتيس" الذي لا تعرف عنه شيئاً، تتصاعد بهجة الألوان الزاهية المتجاورة مثل مهرجان قوس قزح داخل "مرطبانات" مخلّل "اللفت" الموشّحة باللون الخمريّ الزاهي بسبب قطعة الشوندر المحشورة بين قطع اللفت بيضاء الأصل، فيما حبّات الباذنجان والخيار والفليفلة الخضراء غارقاتٍ في حموضة الخلّ المسكرة، عارفاتٍ أنهنّ منتهى شهوات جميع الملتهمين لأطايب أمّي.
وفوق "السمندرة" هناك أكثر ما تعتني به الأمهات في بلادنا: لحف وفرشات الصوف التي نجّدتها وغسلت صوفَها بيديها على طرف نهر "أمّ الطيور"، وفصّلت أغطيتها من أجمل الأقمشة... لتقول لي وهي تغمزني مشجعةً: "هذه ليوم عرسك، لتنام عليها أنت والحبيبة يا أمّي"، ثم تطلق ضحكتها الطفولية الخجولة كأنها تذكرت لحظةً حميميةً نادرةً بينها وبين أبي، أناغشها وأطلب منها: "أمّي، احكي لي متى وأين حملت بي؟"، تقطّب حاجبيها للحظة، وتقول: "عيب يا ولد"، لكنها تحت ضغط إلحاحي وممازحتي، تروي لي: "كانت الدنيا صيفاً حارقاً، وكنا ننام على مصطبة بيت جدك، تحت الناموسية... ولولا أنني ولدتك يا ضوّ عيني وحشيشة قلبي لما تذكرت تلك الليلة إلا بالغصة والقهر والحسرة"!
سامحيني لأنّي كذبت عليك حين قلت لك إنّي بخير رغم وحدتي، كيلا أزيد من وجع انتظارك لي
حكاية طلاقها، عيشها وحيدةً أكثر من عشرين سنة تنتظر بلهفة الأمهات زياراتنا لها أنا وأختي، صراعها المديد المرير مع والدي ثم جدّي الممانع لوجودنا في حياتها، مرارة الأعمال القاسية التي أجبرت عليها لتعيلَ نفسها... كل ذلك جعلَ من خزانتها الشخصية "ماكيتاً" مصغّراً من "سوق الحميدية"، خبّأت فيها على مر السنين خوفاً من العوز، شالاتها الصوفية والحريرية والقطنية المزركشة بألوان سعادتها المؤجلة إلى حين مجيئنا لتلبسها فرحةً مثل أطفال العيد، وإلى جوار تلك الشالات هناك "جلّابياتها" الموشومة بسواد أحزانها على ذكرياتٍ وأيام سرقت من عمرها، فيما خبّأت بعناية الشوق وخبرة المحروم وحزن المفارق أكثرَ ما يذكّرها بأيام صباها، ما تبقى من جهاز عرسها: غطاءا وسادتين أبيضان مطرّزان بخيطان ملونة، ترسم مشهداً يشبه منمنمات حكايات العشّاق.
والدتي لا تعرف القراءة والكتابة، لكنها تخبرني أنها تدعو الربّ أن يخلقها في الحياة الثانية (أي في الجيل المقبل كما تقول حكايات التقمّص عند العلويين) متعلمةً وعارفةً، لتكتبَ عن بعض وزراء هذا البلد كم هم حمقى وفاشلون، وأنهم لو ذاقوا -هم وأولادهم- مرارةَ القهر والفقر التي نذوقها كل يوم لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
والدتي لا تعرف القراءة والكتابة، لكنها تخبرني أنها تدعو الربّ أن يخلقها في الحياة الثانية متعلمةً وعارفةً، لتكتبَ عن بعض وزراء هذا البلد كم هم حمقى وفاشلون
أمّي لا تعرف بالضبط ماذا أكتب من "خربشاتٍ" وطلاسمَ، وماذا أقرأ من كتب تتعثّر بها في كل مكان من غرفتي، في المكتبة وفوقها، بين ثيابي وفوق البراد وضمن "كنبايات" الصالون... لكنها تقول لي ما يشبه النبوءات: "ستجعلك هذه الكتب تفقد عقلك يا ابني"! فأضحك، ولا أخبرها بأنني فعلاً أهذي في نومي حين أشاهد الكلمات تتحول إلى كائناتٍ خرافيةٍ، بأعين مكان الأنوف، وأنوفٍ تتوسط السرّة، وكيف تحاصرني أجساد نساء الروايات التي قرأتها كما لو أنني "كازانوفا" و"زوربا" والزير سالم... وكل العشاق في قلب رجل واحد!
ما الذي يمكن أن أكتب عنك يا أم جواد؟ بحرٌ من الحرمان الطويل في طفولتي لا يزال ملحه عالقاً على رموشي منذ أن أوصيت معلمةَ صفّ الأول الابتدائي "أن تعتني بي مثل ابنها"... لكني سأقول لك في عيد الأم:
سامحيني لأنّي كذبت عليك حين قلت لك إنّي بخير رغم وحدتي، كيلا أزيدَ من وجع انتظارك لي! كذبت حين أخبرتك أنّي ألتهم كل ما يأتي في طريقي وأطبخ كما لا تفعل أمهر سيدة، كيلا تسهري حتى الفجر تلومين نفسك لماذا لم ترسلي لي الفطائر والمحشي وسَلَطة "القرصعنّة" المعشّقة بالليمون التي أعشقها. كذبت لأني لا أريدك أن تعلمي أنّي كلما شممت رائحة طعامٍ يطبَخ عند الجيران أو في الشارع حين أعود منهكاً ككلب صيد، أحبس دموعاً تؤلمني كقطع الزجاج، كذبت حين قلت لك إن أحلامي تشبه حديقتك التي تسقينها كأنك تسقينني، وتعشّبينها كأنك تقتلعين أشواكَ ندمي، فيما الكوابيس تجتاحني مثل جرادٍ ليليٍّ!
وسأقول لك أيضاً في عيد الأم وفي كل يوم: من حسن حظي أنني ولدت في الربيع، وأنّ حبي لك يتفتح كزهر اللوز، وأني سأحيي ذكرك وأحتفي بك ورداً وفلّلاً وخزامى... فلي أنا يومٌ واحدٌ... ولك الأبد!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون