لم تعِش المعارضة السورية في السنوات الأخيرة للثورة السورية "حياةً مستقرةً"، ولم تتمتع حتى بظروف الحد الأدنى من الحياة المؤسساتية وجوانب عملها السياسي، على أبسطها؛ "كيفية التعاطي مع مسألة التمثيل السياسي"، لكن في الحقيقة، تأثرت قوى هذه المعارضة بالظروف التي عاشتها البلاد، والمنعطفات الشديدة التي مرّت على سوريا خلال السنوات الماضية، والتغيّرات على صعيد الساحة السياسية الإقليمية والدولية ما جعلها تقف عاجزةً عن الاستجابة للحد الأدنى من متطلباتها.
لم تنحصر عوامل فشل مؤسسات المعارضة السورية وأجسامها السياسية في عامل أو عاملين فقط، فلقد كانت كثيرةً ومتشعبةً، ولعلّ ما شهدناه مؤخراً في عامي 2022 و2023 اللذين اتّسما بمتغيرات وأحداث سياسية عدّة، كان له الأثر الكبير على الساحة السورية ككل، بأبعادها المختلفة واتجاهاتها المتعددة، وأبرزها الانعطافة التركية الأخيرة باتجاه تطبيع العلاقات الأمنية والعسكرية والدبلوماسية والسياسية مع نظام الأسد، وسط صمت تام من قبل المعارضة السورية السياسية المتمثلة في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، وهيئة التفاوض، والعسكرية المتمثلة في الجيش الوطني السوري.
تولى الائتلاف الوطني منذ تشكيله مهمة التفاوض، وتمثيل المعارضة في مفاوضات جنيف 2
يقول رئيس أحرار - الحزب الليبرالي السوري، بسام قوتلي، في حديث إلى رصيف22، إن "اعتماد المعارضة السورية على الدعم الخارجي وعدم اعتمادها على الزخم الداخلي للشعب السوري، بهدف إيصال صوته إلى المجتمع الدولي، خلّف حقيقةً، معارضةً تابعةً لجهات إقليمية ودولية، لا شعبية لها على الأرض وعاجزة عن تحريك الشارع السوري، وهو ما انعكس عليها، فأصبحت أداةً منفذةً لرغبات الجهات الداعمة، بدلاً من أن تكون أداةً لإيصال الضغط الداخلي إلى الخارج".
برأيه، "هذا الأمر بدأ في مراحل عدّة، بدءاً من طريقة تشكيل القوى السياسية الرئيسية الثلاثة وهي الائتلاف الوطني، ووفد أستانة واللجنة الدستورية"، فتشكيل الائتلاف جاء بأمر خارجي وبقي إلى اليوم يمثّل في خارج سوريا، وليست له أي حاضنة شعبية على أرض الواقع، ومن ثم وفد أستانة الذي جاء تلبيةً للجانب التركي بعيداً أيضاً عن الحاضنة الشعبية، ولا يختلف الأمر عن اللجنة الدستورية التي تشكلت وفق رغبة الدول والداعمين الإقليميين".
مراحل السياسة وتدرجها
منذ اندلاع الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011، بدأت فكرة الأجسام السياسية الجامعة التي توّجت جميع تلك المبادرات بعد الإعلان عن تشكيل المجلس الوطني السوري في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، في إسطنبول في تركيا، تحت عنوان توحيد المعارضة السورية وكان يضم كافة الأطياف السياسية من ليبراليين وإخوان مسلمين ولجان تنسيق وأكراد وآشوريين وغيرهم.
مع استمرار الثورة وتحوّلها نحو السلاح وتشتت المعارضة، ظهر جسم جديد نتيجة المشاورات والاجتماعات بين أطياف المعارضة ودبلوماسيين عرب وغربيين، هو "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية"، الذي أُعلن عن تأسيسه في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012. وتولى الائتلاف الوطني منذ تشكيله مهمة التفاوض، وتولّى تمثيل المعارضة في "مفاوضات جنيف 2"، التي بدأت أعمالها في 22 كانون الثاني/ يناير 2014، وشهدت للمرة الأولى والأخيرة حتى الآن، تمثيلاً متساوياً ومباشراً بين طرف معارض والنظام السوري. كما شهدت تلك الجولة حضوراً دولياً لم يتكرر بعد ذلك، بما سمح للائتلاف يومذاك بتحقيق إنجاز سياسي قد يكون الأهم في مسيرته.
لكن أداء الائتلاف السياسي تعرّض لحالات مدّ وجزر، تبعاً لحالات التجاذب بين مكوناته، إلى أن وصل إلى حالة استدعت من المجتمع الدولي الدفع باتجاه سحب الملف التفاوضي منه، إذ شكّل رفض الائتلاف التجاوب مع "مسودة الإطار التنفيذي لتطبيق بيان جنيف 1"، التي قدمها المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا في مطالعته أمام مجلس الأمن بتاريخ 29 تموز/ يوليو 2015، نقطةً مفصليةً، على ما يُعتقد، في خسارة الائتلاف لورقة الملف التفاوضي.
كيف شكّل رفض الائتلاف التجاوب مع "مسودة الإطار التنفيذي لتطبيق بيان جنيف 1"، عام 2015، نقطةً مفصليةً، على ما يُعتقد، في خسارة الائتلاف لورقة الملف التفاوضي؟
وكان دي ميستورا قد التقى بالائتلاف في إسطنبول في شهر أيار/ مايو 2015، وقال في ذلك اللقاء إنه سيقوم بالتشاور مع عدد من الشخصيات والكيانات السورية في المعارضة والنظام، وشخصيات مستقلة، لكتابة مسودة لخريطة طريق لتطبيق بيان جنيف، وإنه يرغب في مناقشة هذه المسودة مع الائتلاف بعد الانتهاء منها مطلع تموز/ يوليو من العام نفسه. لكن الائتلاف رفض العرض، وأصدرت الهيئة السياسية قراراً يمنع رئيس الائتلاف وأعضاءه من لقاء دي ميستورا قبل عرض المسودة على مجلس الأمن.
كذلك، رفض الائتلاف مقترح دي ميستورا الذي قدّمه لمجلس الأمن في 30 تموز/ يوليو 2017، وأسماه "وثيقة حقائق"، والتي قال فيها إنه يرغب بمزيد من المشاورات لمدة ستة أشهر مع السوريين من أجل الحصول على وثيقة قد تكون نهائيةً وأكثر شمولاً وتفصيلاً وتوافقاً، من خلال إنشاء أربع مجموعات عمل بينية، غايتها تقديم آلية يتمكن من خلالها السوريون من تعريف وتوضيح مفاهيم أساسية لاتفاق جنيف، والتي تم إقرارها في المرحلة الأولية من المشاورات في الفترة الواقعة ما بين أيار/ مايو وحزيران/ يونيو 2015، واشتملت على لقاءات منفصلة مع سوريين بلغ عددهم 216 شخصاً، وفاعلين دوليين وإقليميين.
يُذكر أن نهاية شهر أيلول/ سبتمبر 2015، شهدت تغيراً دراماتيكياً في المشهد السوري، بعد أن قامت روسيا بالتدخل العسكري المباشر هناك، ما غيّر قواعد اللعبة السياسية والعسكرية، وفرض شروطاً مختلفةً على الفاعلين المحليين والإقليميين والدوليين، وانعكس هذا التغير في قرار مجلس الأمن رقم (2254)، الذي صدر في نهاية العام نفسه، وأصبح مرجعيةً للحل السياسي في ما بعد.
وشكّلت المعطيات السابقة مجتمعةً دوافع مهمةً لتشكيل جسم جديد قادر على التعاطي مع الملف التفاوضي بشكل أكثر مرونةً وواقعيةً، وهو الأمر الذي أفضى إلى الدعوة إلى انعقاد مؤتمر الرياض الأول التي نتج عنه تشكيل الهيئة العليا للتفاوض في كانون الأول/ ديسمبر 2015.
معارضة بلا أسنان
يعتقد قوتلي، بأن كل هذه المراحل أدّت إلى "معارضة لا أسنان لها فعلياً"، وليس وراءها زخم شعبي، وهو ما عكس ضعفها، وبكل أسف فإن الدول لا تتعامل مع الضعيف إلّا بتوجيه الأوامر إليه، وهذا ما حصل مع المعارضة الرسمية السورية خلال السنوات الماضية.
شهد عام 2015 تغيراً دراماتيكياً في المشهد السوري، بعد أن قامت روسيا بالتدخل العسكري المباشر هناك
أكثر من الزخم الشعبي، تحوّلت هذه الأجسام لتكون محل انتقاد لدى المجتمع السوري، خاصةً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والتي للناس فيها القدرة على التعبير عن سخطهم مما يجري، وبرز ذلك بشكل كبير حين هاجم محتجون رئيس الائتلاف سالم المسلط، في أعزاز، كتعبير عن اعتراضهم على موقف الأخير من التطبيع التركي مع النظام.
يقول قوتلي: "لعلّ موقف السوريين السلبي وعدم ثقتهم بالمعارضة السياسية التي تمثلهم، ليسا جديدين، بل هما قديمان قدم ارتهانها لإملاءات الآخرين، وتأكيد عجزها عن لعب دورها المفترض في قيادة السوريين والدفاع عن أبسط حقوقهم والاهتمام بشؤونهم، والقصد هنا أنه ليس أمراً مفاجئاً حين لا يكون قادتها موضع قبول وترحيب شعبيين، فكيف يمكن أن يثق الشعب السوري بمعارضة وضعت نفسها في دور المنقذ، وهي أساساً انصاعت لأوامر الخارج وبدأت تسير وفق حساباته وتوقيتاته، ضاربةً بعرض الحائط الجهود التي بذلها السوريون خلال السنوات الماضية للخلاص من المستعبدين، والتأكيد على أن الحلول لا تُنجَز إلا بأيادي السوريين أنفسهم؟".
من جهته، يرى الباحث في مركز جسور للدراسات وائل علوان، في حديثه إلى رصيف22، أننا "إذا أردنا الحديث عن فشل المعارضة بشكل موضوعي، فقد كانت هناك مسؤولية في أدائها في إدارة خلافاتها، وطريقة فهمها للسياسة وتعاطيها مع السياسة وفهمها للمصالح الدولية وطريقة تعاملها مع الدول؛ وهذه مسؤولية كبيرة بالتأكيد، إلى جانب عوامل أخرى خارجية تتعلق بمصالح الدول ذاتها".
من هذه الدول والمصالح وأهمها، برأيه، "الولايات المتحدة التي أرادت لسنوات الثورة أن تطول وأرادت عن طريق فاعلين محليين أن يُنهكوا ويُستنزفوا وأن يوصلوا الساحة السورية إلى حالة لا غالب فيها ولا مغلوب، وأن تكون في الخريطة السورية مناطق كما نراها اليوم، تفصل بينها خطوط تماس، وتحكمها موازنة المصالح الإقليمية والدولية وتوازن الضعف ما بين الفاعلين مع عدم قدرتهم على الاستغناء عن الحاجة الكاملة أو عدم استغنائهم عن الإطارات الدولية والإقليمية التي أصبحوا مرتهنين لها".
ويضيف: "المعارضة السورية بأجسامها الرسمية باتت اليوم خارج نطاق أي تأثير سياسي أو غير سياسي. هم وُضعوا على الرف منذ سنوات في انتظار أن يتبلور تفاهم ما بين الدول الراعية لهم وبين الدول الراعية للنظام، حينها قد يحتاجون إلى توقيعهم، علماً أنه سيكون كشهادة الزور ولن يعترف به السوريون".
الجسم المنهك
يسود اعتقاد ليس بجديد لدى السوريين، مفاده أن أحد أسباب تأخر سقوط نظام الأسد، هو عدم اقتناع المجتمع الدولي بوجود بديل قوي ومنظم يمكن أن يكون قادراً على ملء الفراغ، وهو الأمر الذي ما زال النظام وحلفاؤه يستغلونه لتكريس فكرة غياب البديل، وضرورة التعامل مع هذا النظام كأمر واقع، ولعلّ الأمر الذي أثار مخاوف أوساط المعارضة الداخلية والخارجية مؤخراً، المساعي التركية للتقرب من الأسد، على الرغم من تأكيد الجانب التركي على أن أي تقارب أو تطبيع مع النظام السوري لن يكون خارج المرجعيات السياسية للقضية السورية.
يسود اعتقاد ليس بجديد لدى السوريين، أن أحد أسباب تأخر سقوط نظام الأسد، هو عدم اقتناع المجتمع الدولي بوجود بديل قادر على الحكم... لكن البحث توقف، لماذا؟
تستبعد الكاتبة السياسية عالية منصور، في حديثها إلى رصيف22، أن "تجد المعارضة مخرجاً لتشتتها وعبثها في جسمها المنهك منذ سنوات، فبعض الشخصيات عسكرية بالأساس وبدأت تتكلم سياسياً باسم المعارضة وبعض الشخصيات أيضاً سياسية، باتت الناطقة العسكرية لبعض التجمعات العسكرية وهكذا، فالرجل المناسب في المكان غير المناسب، وتستمر هذه التركيبة إلى اليوم، وعليه من الصعب الوصول إلى حل يرضي التكتلات السياسية المعارضة بعد ما يزيد عن عقد من التشتت والفوضى".
وتستشهد بحادثة دخول المساعدات الأخيرة بعد الزلزال، حينما ظهر رئيس هيئة التفاوض بدر جاموس، في تصريح صحافي أكّد فيه أن "المساعدات ستدخل في اليوم الثاني لوقوع الزلزال، وفعلياً لم تدخل المساعدات حتى اليوم الخامس، بالإضافة إلى حادثة جديدة وهي اعتداء عناصر الجندرما التركية على سوريين، ما أسفر عن مقتل أحدهم، وهي حادثة لم تتطلب من ممثلي المعارضة الردّ، ما يعني أنهم مستعدون لأن يغضّوا الطرف عن آلام السوريين مقابل إرضاء داعميهم، فهم ليسوا سوى موظفين يأخذون رواتبهم الشهرية ويعملون بما يريد مموّلهم".
وتخضع اليوم المعارضة السورية التي انحصر وجودها في شمال سوريا بشقيها العسكري والسياسي، لتفاهمات روسية-تركية بدأت باتفاق أستانة ثم اتفاق سوتشي ومن ثم اتفاق موسكو، الذي أنهى هجوم قوات النظام السوري وحلفائه من القوات الروسية والإيرانية على إدلب عام 2020، ولكن الجديد اليوم هو إشراك النظام في تلك الاتفاقات ضمن ما يُسمّى الاجتماع الرباعي الذي يبدأ اليوم في موسكو، والمعارضة تتفرّج.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...