المصريون شعب درامي. حين يحقق بطل مسلسل شعبية كبيرة يُطلق اسمه على أغلب مواليد العام، وحين ينتصر في نهاية الرحلة يصفق المصريون ويبكون من السعادة، أما إذا انتهى نهاية محبطة لآمالهم فيتحولون جلادين للسيناريو، متقمصين دور الخبير.
"وأنا ماشي في العراق لقيت جثة" مشهد موت ماما نونة وحلقة فرح سنية، من جملة أحداث نعرفها جميعاً، تضحكنا وتبكينا رغم التكرار. وما زالت مسلسلات كـ"الشهد والدموع"، و"رأفت الهجان"، و"لن أعيش في جلباب أبي"، و"الضوء الشارد"، و"ريا وسكينة"، رغم مرور أربعة عقود على عرضها، تحقق نسب مشاهدات عالية، والكثيرون يحفظون أجزاء من الحوار، وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي.
تعيش الدراما في قلوب المصريين ومصطلحاتهم اليومية. لذلك لم تكن الدراما المصرية يوماً محلية، بل خرجت منذ نشأتها إلى البلدان العربية فتربت أجيال كاملة عليها، وأجادت لهجتها.
مثل كل الفنون، مرت هذه الدراما بعصر ذهبي، إذ كانت حركة الشوارع تتوقف في موعد عرض مسلسل السابعة، وكانت الأم تجتهد لتنهي أعمالها المنزلية قبل موعد العرض، وينجز الأطفال واجباتهم المدرسية كي لا يحرموا من متابعة الحلقة. حينها كان المسلسل للجميع، وكل فئات المجتمع ممثلة فيه.
تغيرت النظرة إلى الدراما اليوم، كما تغير العالم كله.
تغيرت النظرة إلى الدراما اليوم، كما تغير العالم كله بسبب التطور التكنولوجي وانتشار السوشيال ميديا، حتى أصبح لكل فرد مسلسله الذي يشاهده على منصة عبر الهاتف أو اللاب توب وقتما يريد. لكن مع اقتراب الموسم الرمضاني نعود إلى التلفزيون بدافع من النوستالجيا أو رغبة في مشاركة جميع أفراد الأسرة في اهتماماتهم، فنُصدم ككل عام بنفس الأفكار والشخصيات، وتتفجر الأسئلة. لماذا الإصرار الشديد على إنتاج كل هذا الكم من الأعمال الممتلئة بالعنف وإيماءات البلطجة وتجاهل القضايا الحقيقية والهامة؟ هل تختلف شكل الدراما في التلفزيون عن المنتجة في المنصات؟
هل المرأة المقدمة في الأعمال الشعبية تشبه جاراتنا وصديقاتنا؟
وأين الممثل من صناعة الدراما؟
محاكاة خارجية
كتب السيناريست محمد حلمي هلال في منشور على فيسبوك تعليقاً على أسماء شخصيات مسلسلات رمضان مثل: الكوماندا، والإكسلانس، والأجهر، وبابا المجال، والعمدة. ورأى أن هناك من يسعى لأن تكون صورتنا أمام العالم عبارة عن حارة عشوائية يعيش فيها البلطجية وعديمو الدين والشرف. وأضاف أن التفاهة والتدني والسقوط الأخلاقي وانعدام الضمير تقود وعي المجتمع إلى حتفه سريعاً.
وللدكتور أحمد مجدي، مدرس مساعد بقسم الدراما والنقد المسرحي في كلية الآداب بجامعة عين شمس، رأي في ذلك، إذ يشدد على أهمية دراسة الشخصية وأبعادها النفسية وردود أفعالها، ويشعر بأسف بالغ لأن "عالبية الأعمال الحديثة بلا رسم متقن للشخصية. فقط يحاولون محاكاة الشكل الخارجي للبطل الشعبي للسيطرة على سيكولوجية المشاهد، ومن ثم يشعر المشاهد البسيط أن هذا البطل قريب منه، ويمثله، وبالتالي يتماهى مع العمل الفني ويتابعه".
انصراف عدد كبير من المشاهدين المتذوقين للدراما إلى منصات عربية وعالمية مثل "نتفليكس" أدت إلى زيادة هذا المستوى المتدني في المسلسلات الناجحة، لأنها تجذب الآخرين، البسطاء والأقل ذكاءً وثقافة من الجمهور... هل تتفقون مع هذا الرأي؟
إن ما يظهر في المسلسلات يعتبر أحداثاً خيالية لا تشبه الواقع، ففي إعلان مسلسل "ضرب نار" يجلس البطل بجوار أحد الطيور الجارحة، وفي صور منتشرة من تصوير العمل نفسه، يسير في الشارع وعلى كتفه نفس الطائر، هذه الأفعال لا تضيف للعمل الفني والشخصية بقدر ما تضعفهما، لأن المشاهد الفقير سيشعر وكأن ما يُقدم يسخر منه ومن ضعفه.
يقول الدكتور أحمد مجدي لرصيف22: "تجب إعادة النظر في اللهجة الصعيدية المستخدمة في الحوار، والتي لا تشبه لهجات الصعايدة، ومع ذلك ما زالت تُستخدم ليخرج العمل بشكل لا يشبه الواقع المُفترض به أن ينقله". مضيفاً أنه يستمع كثيراً لآراء أبناء الصعيد التي تنتقد اللهجة ونمط الحياة المنقولة على الشاشة وكأنهم يتحدثون درامياً عن صعيد آخر.
حكمة التوكتوك والدعاية المضمونة
"اللي ياكل الحرام... الحرام ياكله
لو الأصول ما نفعتش... أنا إيدي ما اتقطعتش
أخوك على قده.. بس ما فيش حد قده
في كارنا.. مافيش مقارنة".
بهذه العبارات وغيرها جاء الإعلان الرسمي لمسلسل "بابا المجال" لمصطفى شعبان، وقد انتقد المتابعون العبارات التي تشبه العبارات المكتوبة على التكاتك والميكروباصات، ووصفوا الإعلان بأنه يروج للعنف، ويشير إلى استسهال من الصناع يصل إلى حد العجز.
أما مسلسل "الأجهر" فقد قامت الصفحة الرسمية لبطل العمل عمرو سعد بوضع صورة له من كواليس العمل مع جملة "مصطفى الأجهر اللي خايف يروح".
لم يخرج إعلان مسلسل "جعفر العمدة" عن نفس التيمة السابقة لأعمال الثنائي محمد رمضان ومحمد سامي، وقد شاركت الصفحة الرسمية لبطل العمل عدة منشورات تحمل نفس المعلومة "تريند رقم واحد على يوتيوب مصر".
"نجاح دباح، اللي يقابل التاني حلال على التاني"، كانت هذه الجملة تعليق صفحة أحمد العوضي على الإعلان الرسمي لمسلسله الجديد.
القاسم المشترك بين هذه الأشكال من الدعاية هو المبالغة في استخدام أساليب غير فنية، وكلمات سوقية في محاولة لاستقطاب المراهقين والبسطاء بكلمات يسهل انتشارها في أوساطهم.
وقال الدكتور مجدي في تحليل هذه الظاهرة إن هذه الأعمال تروج للعشوائية بوصفها عملاً شعبياً من أجل تحقيق نجاح قصير المدى، متمثل في " التريند"، لكن هناك فرقاً كبيراً بين تجسيد ما هو شعبي وما هو عشوائي.
"أنا براوية ومحدش يقدر عليا"... المرأة الشعبية
في الثمانينيات، قدمت نادية الجندي شخصية "المعلمة" أو بنت البلد أو المرأة التي يتقاتل عليها الرجال، وحافظت على هيئة خارجية تكاد تكون واحدة، الشعر المصفف المصبوغ أسفل إيشارب ملون معقود، والعباءات الضيقة، والمكياج، ونبرات صوت عالية مع إيماءات وجه مبالغ فيها إلى الآن تُقدم نفس الصورة، وإن تغير شكل الملابس قليلاً.
علقت الصحافية المختصة بعلم النفس، ولاء فتحي، على هذه النقطة: "صورة المرأة الشعبية المقدمة في الدراما ليس لها أي علاقة بالواقع. يلجأ صناع الدراما لأنماط جاهزة تدل على الكسل العقلي والفقر الإبداعي في تناول الشخصيات، مما رسخ صور مغلوطة متوارثة عن أبطال الأحياء الشعبية نساءً ورجالاً، غير أن المرأة في الواقع هي الأم التي تعاني من الأعباء الاقتصادية، وهي الفتاة البسيطة العاملة التي لا تمتلك رفاهية تصفيف الشعر، ووضع كميات كبيرة من المكياج، ولا ترتدي العباءات الضيقة والملابس المثيرة، وهي الطالبة التي تسعى للتعلم والتحقق".
لماذا تثير هذه الشخصيات "الشعبية" في المسلسلات، تلك التي تفتقر للخيال والإبداع إعجاب الكثيرين؟ تقول ناقدة: "الغالبية تعاني من الكبت، وبعض السيدات يرفضن رؤية الحقيقة لأنهن لا يملكن خيارات للتغير أو الخلاص. العمل الدرامي الحقيقي يضعهن أمام مرآة أنفسهن، وهذا يخلق رداً فعلاً عنيفاً أو تجاهلاً تاماً"
وأضافت ولاء: "هذه الأعمال تقوم بتسليع المرأة، وتقديمها في صورة المرأة اللعوب أو المرأة التي يعشقها جميع الرجال لرفع نسب المشاهدة فقط".
وتدين فتحي "المبدع لاستمراره في نقل صورة مبالغ فيها، لم تتغير كثيراً منذ فيلم "حين ميسرة" لخالد يوسف، متناسياً الفرق بين الأحياء الشعبية والأحياء العشوائية. فالأحياء الشعبية يسكنها أطباء وصحافيون ومدرسون وطلبة جامعيون، إذًا فالتركيبة الطبقية للمجتمع الشعبي الدرامي لا يشبه الواقع، وهذا الخلط مؤلم ومهين لأخلاقيات هذه الطبقة".
وعن سؤالها حول تقبل متابعي السوشيال لصورة المرأة الشعبية الخاطئة، قالت ولاء أن "الغالبية تعاني من الكبت، وبعض السيدات يرفضن رؤية الحقيقة لأنهن لا يملكن خيارات للتغير أو الخلاص. العمل الدرامي الحقيقي يضعهن أمام مرآة أنفسهن، وهذا يخلق رد فعل عنيفاً أو تجاهلاً تاماً".
اختفاء المنافسة والتكرار
إن كانت هذه الشخصيات بهذا السوء أو تتصف بقلة الإبداعية، فلماذا تنجح؟ ولماذا تستمر؟
يذكر علي حلبي، رئيس قسم الفن بجريدة "الأخبار" عدة أسباب:
1 – التعاطف هو النجاح
"تيمة الأعمال الدرامية الشعبية مناسبة تماماً للعرض الرمضاني، فدائماً تتكون من ثلاثين حلقة، وتحتوي على المعادلة الدرامية المعتادة: بطل شهم محبوب + ظلم واضطهاد = تعاطف كبير. والتعاطف بلغة السوق هو النجاح".
2 – الانصراف إلى المنصات العالمية
"لانصراف أعداد كبيرة من المشاهدين النخبويين إلى المنصات الرقمية العالمية مثل "نتفليكس" والعربية مثل "شاهد"، دور في زيادة محاولات جذب البسطاء، وربات البيوت للتعلق بالمحتوى الدرامي التلفزيوني عن طريق قصص مثيرة، وقضايا لا تمس عقيدة أو عادات أو تحمل تساؤلات فلسفية عميقة".
3 – النجاح السهل
وأشار حلبي إلى أن هناك جزءاً كبيراً من مسؤولية التكرار والنمطية يقع على عاتق الممثل نفسه، فأغلب الممثلين يستمرون في تقديم دور البطل الشعبي لضمان نجاحه أو استثماراً لنجاحٍ سابق. فالبطل الشعبي، وإن قدم العنف الجسدي بكل صوره، يظل آمنًا ومضمونًا، ولا يثير الغضب الجمعي والخوف من التغيير"، يقول علي حلبي.
وفي توضيح آخر حول استراتيجيات الإنتاج والخوف من التجريب، شدد الدكتور أحمد مجدي على أن "النجاح الجماهيري غير مقترن بالتيمة الشعبية، وقد نجحت أعمال فنية على قدر كبير من الاتقان على مستوى النص والصورة كمسلسل "واحة الغروب"، فالجمهور ذكي ويقدر العمل الفني الجيد".
ورأى علي حلبي أن "اختفاء المنافسة وغياب الفرص الحقيقية يعرقلان أي محاولة طموحة للتجريب، فالشركات المنتجة تعتمد على أسماء محددة من كتاب ومخرجين وممثلين، لذا تظهر الأعمال بهذه الصورة المكررة، ونتابع جميعاً التعليقات الساخرة على التنبؤ بالأحداث والنهاية لكل عمل قبل عرضه، والتي غالباً ما تكون صحيحة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...