كلّما سمعتهم يقولون تلك الجملة ينقبض قلبي، يرونها دليلاً على التطوّر وخدمةً للبشريّة، لكنها بالنسبة لي ليست كذلك، ذلك ما يحدث حين يتحدّثون أن "كرة القدم باتت صناعةً"، وأن السينما والتلفزيون ليسا بعد الآن من أجل المتعة فقط، لهم حق، أعرف ذلك، وأدرك أن زمن "كلّ شيء ببلاش" في عالم تتحكّم فيه الأموال أمرٌ صعبٌ للغاية، لكن هذا لا ينفي أن الرياضة متعة، والسينما والتلفزيون متعة، وأي شيء سيأتي لا بدّ أن يكون بعد تلك المرتبة، وإن كنت أشكّ أن الآلات ولغة البيزنس تعرف مثل تلك المشاعر.
المباريات بـ 200 جنيه
أدرك أن زمن "كلّ شيء ببلاش" في عالم تتحكّم فيه الأموال أمرٌ صعبٌ للغاية
منذ أكثر من أسبوع أعلن اتحاد الكرة المصري تذاكر حضور مباريات كأس الأمم الإفريقيّة "كان 2019" وكان أقلّ سعرٍ لمشاهدة مباريات المنتخب المصري 200 جنيه للتذكرة، ما أثار حفيظة الكثيرين الذين اعتبروا أن هذا المبلغ يعني عدم حضورهم أصلاً، ورغم أن المبلغ قد لا يبدو كبيراً في بعض الأحوال، إلا أن ذلك غير منطقي في بلدٍ متوسّط أجر الفرد الشهري فيه 2000 جنيه، وبمعادلةٍ بسيطةٍ، إذا أراد رجل وزوجته حضور مباراةٍ واحدةٍ، فإن ذلك يعني فقدان 20% من راتبه، يحدث ذلك مع لعبة يفترض أنها للجميع من كلّ المستويات.
لكن أمام ما قرّره اتحاد الكرة يبقى ردّ فعل الذين انتقدوا القرار، فقد اتفق الجميع أن ذلك يعني عدم حضورهم المباريات، لكن لا أحد نادى بأن من حقِّه أن يحضر، وعلى الدولة مراعاة دخول الأفراد واعتبار ذلك حقّ لهم، وإذا كانت الدولة صرفت الملايين على تطوير الملاعب وتنظيم تلك البطولة فهي قد فعلت ذلك من جيوب المصريين، من الضرائب والموارد التي هي أساساً ملك الشعب، لكن ذلك كلّه لم يحدث.
احتكار المسلسلات
ومن كرة القدم إلى الدراما التلفزيونيّة لم يختلف الأمر كثيراً، فقبل بدء شهر رمضان بـ48 ساعة فقط، أعلنت شركة "إعلام المصريين" إنها لن تطرح مسلسلاتها على حساباتها الرسميّة بموقع"يوتيوب" كعادة كلّ عام، ولكن سيتمّ ذلك من خلال تطبيقٍ اسمه"watch it" وتبلغ قيمة الاشتراك فيه 99 جنيهاً شهرياً، وهي تجربة مشابهة كثيرة لـ"نتفلكس".
كان يمكن اعتبار ما فعلته شركة "إعلام المصريين" حقّاً من حقوقها كشركةٍ تريد أن تحقّق هامش ربحٍ وتختار الآلية التي تؤدّي لذلك، لكن الأزمة الحقيقيّة أن تلك الشركة تستحوذ على 15 مسلسلاً معظمهم من العيار الثقيل لنجوم الصفِّ الأوّل وذلك من أصل 28 مسلسلاً، ليصبح ما حدث بمثابة إجبار المواطنين على الدفع مقابل المشاهدة.
وبالأمس القريب كانت المشكلة في مشاهدة المسلسلات الرمضانيّة على الشاشات، الفواصل الإعلانيّة الطويلة، وتمّ التحذير من تلك الظاهرة التي تلتهم المتعة الرمضانيّة، ومن ثمّ اتجاه المشاهدين لمنصّة "اليوتيوب" ذي الإعلانات قصيرة المدى، لكن يبدو أن الهجرة لموقع الفيديوهات الشهير دفع إعلام المصريين لذلك السلوك الاحتكاري، رافعةً شعار "شخلل علشان تعدّي".
"مش هنتفرج"
مرّة أخرى كان ردّ فعل من انتقدوا هذا القرار "مش هنتفرج" أو البحث عن مواقع الإنترنت التي تقرصن تلك الأعمال بعيداً عن "يوتيوب"، لم يصرخ أحد أن من حقِّنا المشاهدة، وأن هناك معادلة تضمن تحقيق الربح وإتاحة المتعة للمشاهدين، بعيداً عن سياسة الأمر الواقع.
في علوم الاقتصاد، الاحتكار هو أن تكون في السوق شركةٌ واحدةٌ تستولى على منتجٍ ما، بطرقٍ شرعيّةٍ أو غير شرعيّةٍ، ومن ثمّ التحكّم في بيع سلعتها وتحديد أسعارها بعيداً عن الدولة، ولذلك وُجدت قوانين تمنع ذلك وتحفظ للمواطنين حقوقهم.
اسأل نفسي: إن كانت المتعة في مشاهدة مباريات كرة القدم أو الدراما التلفزيونية تحوّلت إلى سلعةٍ، وساد مبدأ "اللي معهوش ميلزموش" لماذا لا يكون هناك تنافس، ماذا لو أن هناك شركات غير الدولة تملك حقَّ بيع التذاكر للمواطنين من أجل مشاهدة مباريات "كان 2019"، وقتها سنرى منافسةً على تقديم أفضل سعر، وربما عروضاً أيضاً، كما هو الحال بين شركات الاتصالات، وستكون النتيجة تحقيق هامش ربحٍ للشركات، وتحقيق المتعة للمواطنين، بأقلّ قَدْرٍ من التكلفة.
الأمر أسوأ فيما يتعلّق بما فعلته شركة "إعلام المصريين"، ففي مصر هناك تلفزيون حكومي، وقطاع إنتاجٍ من جيوب الشعب المصري، ورغم ذلك لم ينتج أي مسلسل رمضاني خلال هذا العام، وهو الأقدر على خوض المنافسة مع شركاتٍ خاصّةٍ تحرم المصريين متعتهم الرمضانيّة، بل والأدهى من ذلك أن "إعلام المصريين" أهدى التلفزيون المصري ثلاث مسلسلات لكي يعرضهم مجّاناً للمواطنين..."كتر خيرهم والله!".
أمام قرار اتحاد الكرة، اتفق الجميع أن ذلك يعني عدم حضورهم المباريات، لا أحد نادى بأن من حقِّه أن يحضر، وأن على الدولة مراعاة حقّ الأفراد بذلك، وإذا كانت قد صرفت الملايين على تطوير الملاعب فهي قد فعلت ذلك من جيوب المصريين.
بإمكان اعتبار ما فعلته "إعلام المصريين" حقّها لتحقّيق الأرباح، لكن الأزمة أنها تستحوذ على 15 مسلسلاً معظمهم لنجوم الصفِّ الأوّل وذلك من أصل 28 مسلسلاً، ليصبح ما حدث بمثابة إجبار المواطنين على الدفع مقابل المشاهدة.
لا ندعو لأن يكون كلّ شيء مجاناً، فإن هذا زمن قد ولّى، لكن أن يكون هناك حقّ للجماهير، سواء لكرة القدم أو الدراما الرمضانيّة، في المشاهدة هو ما ندعو إليه، وألّا يتمّ احتكار المتعة.
المتعة ليست للاحتكار
وللإنصاف لم تكن مصر أوّل من تتبع هذا النهج من "الاحتكار" لكنها بلا شكّ مارست الأسوأ، فقناة مثل "إم بي سي" مصر، نفّذت الأمر من خلال تطبيق "شاهد بلس" لكنها أعلنت عن ذلك بوقتٍ كافٍ قبل التطبيق، عكس "إعلام المصريين" التي وضعتنا أمام الأمر الواقع، ناهيك أن تلك الشبكة لا تملك أكثر من نصف المسلسلات المصريّة، بجانب أن الأعمال الجديدة في رمضان الجاري يُعرض بعضها مجّاناً، أما مشاهدة القناة نفسها فليس هناك غضاضة بها، إذ أن الفواصل الإعلانيّة أقلّ إذا ما قورنت بغيرها.
ورغم أن الشكل الأبشع في الاحتكار، من وجهة نظري، يتمثّل في "بي إن سبورت" واستحواذها على بثِّ المباريات بمقابلٍ مادي، لكن ذلك يتعلّق أيضاً ببطولاتٍ أغلبها أوروبي، وفي بطولةٍ مثل كأس العالم الماضي كانت شروط البثِّ بأن كلّ منتخبٍ من حقّ شعبه أن يرى مبارياته بدون مقابل، ذلك كان تكريس لمبدأ حقّ الجماهير في المتعة بعيداً عن حسابات الصناعة.
لا ندعو لأن يكون كلّ شيء مجاناً، فإن هذا زمن قد ولّى، لكن أن يكون هناك حقّ للجماهير، سواء لكرة القدم أو الدراما الرمضانيّة، في المشاهدة هو ما ندعو إليه، وألّا يتمّ احتكار المتعة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون