شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
دهشة بين الأسماء المتعددة والجبال العجيبة… رحلتي إلى الأحساء

دهشة بين الأسماء المتعددة والجبال العجيبة… رحلتي إلى الأحساء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 17 ديسمبر 202203:30 م

لم أتمالك روحي من فرط الدهشة حينما دلفت إليها أول مرّة؛ بدتْ كمدن الأساطير التي لم تطأها صراعات البشر، الهدوء والسكينة يحيطان بيوتها القديمة وقراها الطيبة ويسكنان في نفوس الناس الذين يستقبلون الزوّار بقدر من المحبّة والألفة التي ليست مألوفة في كثير من المدن، لكنهم يعبّرون بصدق حين يستقبلونكم وأنتم الغرباء القادمون لأول مرة، وفي ما بعد يكون التمر، هو لغة الكرم الأولى، حين يقرر أحدهم أن يهديه لكم علامة على محبّة حقيقية.


فالبساطة والعمق الإنساني والطيبة صفات يتسم بهما المقيم في هذه البقعة الموغلة في التاريخ والمتفردة جغرافياً. إنها الأحساء، أو هَجر، الواحة الخضراء الواقعة شرق السعودية.

بين الدمام والإسكندرية

زُرتُ الدمّام أولاً وظننتها ستكون إسكندرية أخرى، ربطتُ بينها وبين الإسكندرية التي عرفتها في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته. كانت جميلة ومُحبّة ولهواء البحر فيها حين يلامس الجبهات في المساءات ونحن نسير مترجلين على الكورنيش. إحساس خاص، لا نجده في مكان آخر. تغيّرتْ الإسكندرية ولم تعدْ تلك المدينة التي عرفتها وألِفتُ ناسَها.

تختلف الدمّام الواقعة على ساحل الخليج العربي عن الإسكندرية المطلّة على البحر المتوسط. كانت الدَّمام جافة كما الناس فيها، مجرّد وجوه وأقنعة، لا تُشعر بالأصالة، لا نجد من يخبرنا أنه منها، أو أن فيها عاش أجداده؛ الجميع غرباء، أبناء المكان الذين جاؤوا من الرياض، وحفر الباطن، وجدة، والأحساء، ومدن الجنوب البعيدة، وحتى الأماكن القريبة في القطيف وسيهات وصفوى، وأصحاب الجنسيات الأخرى الذين جاؤوا من بلاد كثيرة بحثاً عن لقمة العيش.

عشت غريباً في الدمام، في الشوارع، والسكن، وحتى بين زملاء العمل في الجريدة اليومية التي أعمل بها، لكن الأمر مختلف في الأحساء، حيث المحبّة والألفة والودّ والبساطة سمات أولى نستشعر وجودها بمجرد وصولنا، ونلمسها كلّ يوم في تعاملنا مع الناس، فنشعر بأننا بين أهلك وإخوتك وأصدقاء تعيش بينهم منذ سنين بعيدة.

الأصالة سمة أبناء المدن العريقة

الأصالة سمة بديهية نجدها في أبناء المدن العريقة، وفي الأحساء لمستها عند زيارة الأحياء القديمة، ومنها حيّ السياسب والعيوني في المبرز، والنعاثل والكوت في الهفوف على سبيل المثال، وفي قُرى الطرف، والعمران، والكلابية... وغيرها. الأحساء تُشعرنا أنها قرية قادمة من التاريخ البعيد، اعتاد أهلها الكرم والجود، فهي أحد الأقاليم التاريخية بشبه الجزيرة العربية، أدرجتها اليونسكو في قائمة التراث الإنساني العالمي عام 2018.

بدتْ كمدن الأساطير التي لم تطأها صراعات البشر، الهدوء والسكينة يحيطان بيوتها القديمة وقراها الطيبة ويسكنان في نفوس الناس...إنها الأحساء، أو هَجر، الواحة الخضراء الواقعة شرق السعودية

إنها إحدى المدائن الأبيّة التي عاشت شامخة عبر مئات السنين، عُرفت بقدرتها على تجاوز الأزمات بشموخها الأبدي وصمودها أمام الغزاة، ولذلك يلاحظ كثرة المواقع الأثرية والحصون التاريخية التي وقفت صامدة عبر الزمن وشاهدة على التطور الحضاري الذي شهدته المنطقة منذ ظهور النفط.

موقع مميز بالجزيرة العربية

تقع الأحساء في الجزء الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وتشغل حوالى 24% من مساحة السعودية و 67% من مساحة المنطقة الشرقية، وتبعد عن مدينة الدمام العاصمة الإدارية للمنطقة الشرقية ومركز الإمارة بحوالى 170 كيلو متراً. وتتميز بموقعها الفريد، فيحدّها الخليج العربي من الشرق، وصحراء الدهناء من جهة الغرب.

وتضم إلى جانب المدينتين القديمتين الهفوف والمبرز، مدناً أخرى مثل الجفر والعمران وجواثا والعيون، كما تضم عدداً من القرى مثل: بلدة الطرف، والجشة، والفضول، والمطيرفي، والشُقيق، والبطالية، والكلابية، وغيرها.


ساعد العمق التاريخي للواحة على انتشار مجالس العلم وصالونات الأدب، خاصة أن هذه المجالس الثقافية تقوم على رعايتها ودعمها أكبر العائلات مثل عائلة المبارك، وعائلة الملا، وعائلة العفالق، وعائلة النعيم، وعائلة المغلوث، ويعتبر صالون الشاعر والديبلوماسي أحمد بن علي المبارك المسمى بأحدية المبارك من أهم الصالونات الثقافية بالأحساء حتى رحيل صاحبه عام 2010.

وتمثل هذه الصالونات الأهلية إحدى الدعائم الأساسية للمشهد الثقافي بالمنطقة، حيث تواكب الإبداعات الأدبية من شعر، وقصة، ونقد لمختلف الاتجاهات، كما تطرح العديد من القضايا الثقافية التي يتم مناقشتها أسبوعياً.

مدلول الاسم وكثرة الأحسية

يقال إن كثرة الأسماء تدل على العظمة والمكانة الرفيعة للمسمّى، والأحساء تسمّى الواحة، وهجر، والحسا (بفتح الحاء والسين)، والإحسا (بكسر الألف وسكون الحاء). ويذكر المؤرخون أن الأحساء كانت تعرف في زمن سابق بأحساء بني سعد، وعرفت باسم هجر والبحرين، وقامت بها عدة حضارات وممالك منها إمارة الجهراء التي قامت قبل الميلاد، وكانت لهذه الإمارة شهرة في الأوساط التجارية بين الأمم، حيث اهتم أهلها بالذهب والفضة والأحجار الكريمة.

وقد زالت هذه المملكة على يد قبيلة الأزد التي هاجر أهلها إلى شرق الجزيرة العربية بعد انهيار سد مأرب، كذلك عشائر زياد وكندة وبكر بن وائل وتميم ومنهم بني سعد ثم قبيلة عبد القيس والتي تزامن وجودها مع ظهور الإسلام.

عُرفت الأحساء مبكراً وجهة للعلم وقبلة للباحثين يقصدها الطلبة من منطقة الخليج العربي، وبرزت الأسر العلمية وكان لها مدارس معروفة كمدرسة القبة التي أسست في بدايات القرن الحادي عشر الهجري

يجمع المؤرخون على أن لاسم الأحساء مدلولاً طبيعياً في المعنى، فهي جمع حِسْي، ولكثرة الأحسية في هذا الموقع عرفت المنطقة بالأحساء، أما المدلول اللغوي والطبوغرافي على ما يصف العلماء من أمثال: أبي منصور الأزهري، والمبرد، والهمذاني، وياقوت، فإن الاسم يطلق على كل أرض صخرية صلبة تغطيها طبقة من الرمال بحيث تختزن المطر ولا تسمح له الطبقة الصخرية بالتسرب إلى الأعماق ويظل في مكانه زمناً طويلاً عذباً صالحاً للشرب.

الأحسائيون وولاية الخلفاء الراشدين

تأتي الخلفية الدينية للمجتمع الأحسائي نتيجة لدخول الإسلام مبكراً إلى المنطقة. وكتب الشيخ حمد الجاسر في "المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية" يقول: "عاش أهالي الأحساء تحت ولاية الخلفاء الراشدين ثم قيام حركة القرامطة ثم العيونيون الذين أطاحوا بهم وحكموا حتى عام 630 هـ، ثم العقيليون الذين أطاحوا بهم ثم بنو جروان، حتى قامت دولة الجبريين ويذكر منهم مقرن بن زامل الجبري الذي لا تزال بقايا قصره في بلدة المنيزلة موجودة إلى الآن. ثم بنِي خالد، ثم العهد السعودي الأول، وتوالت الأحداث حتى عاد العثمانيون مرة أخرى وتم إخراجهم على يد الملك عبد العزيز بدخوله قلعة الكوت ليعلن ضم الأحساء إلى نفوذ الدولة السعودية الحديثة".

لذلك عرفت الأحساء مبكراً وجهة للعلم وقبلة للباحثين يقصدها الطلبة من منطقة الخليج العربي، وبرزت الأسر العلمية وكان لها مدارس معروفة كمدرسة القبة التي أسست في بدايات القرن الحادي عشر الهجري بحي الكوت في مدينة الهفوف، وتعتبر من أوائل المدارس الدينية بالخليج، وقد وفد إليها طلبة العلم من دول الخليج لدراسة العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية.

قصر إبراهيم الأشهر بين القصور التاريخية

يعد قصر إبراهيم من أشهر القلاع والحصون التاريخية في الأحساء، ويعزو ذلك إلى إعلان دخول الملك عبد العزيز آل سعود للأحساء من خلاله بعد إجلاء الحامية العثمانية قبل أكثر من مائة عام. ويقع القصر بالقرب من مدرسة القبة التاريخية، ويتميز بمساحته الكبيرة وأسواره المرتفعة وتصميمه المعماري كحصن عسكري، حيث تنتشر الفتحات في أعلى أسواره للدفاع عن المدينة، وتنتشر به من أعلى أبراج المراقبة البدائية.

تحرص الدولة على إبقاء القصور والقلاع بسماتها المعمارية كما هي، لكي تظل محتفظة بمظهرها التراثي الذي يشكل جزءاً من الخلفية التاريخية للمكان. ويقام داخل قصر إبراهيم كل عام سوق هجر التراثي، وهو معرض يضم الحرف التقليدية، ومنها أعمال الخوص، وصناعة الأقفاص، وحياكة البشوت (نوع من العباءات الخفيفة)، كما تقدم بعض الفرق الشعبية عروضا فنية طوال أيام المهرجان، ومن هذه العروض رقصة العرضة الخليجية.


هناك عديد من الحصون والقلاع الأخرى، مثل قصر صاهود بمدينة المبرز، وتم بناؤه خارج أسوار المدينة من أجل حماية المنطقة من الجهة الغربية، وقصر خزام الذي تم تشييده في المدخل الجنوبي الغربي لمدينة الهفوف بحي النعاثل لحماية مخيمات البدو التي تقام كل عام.

العقير طراز معماري عريق

يعتبر ميناء العقير من أهم الأماكن التاريخية في الأحساء، ويبعد عن الهفوف حوالى 120 كيلو متراً، ويروي جزءاً من تاريخ الجزيرة العربية، فقد كان الميناء الرئيس للمنطقة على شاطئ الخليج العربي، تفرغ فيه السفن بضائعها ويتم نقلها لاحقاً إلى الأحساء ونجْد والمناطق المجاورة.

مباني العقير تندح عراقة وأصالة، صُمّمت على طراز معماري فريد، إذ يمزج بين العمارة الإسلامية والعمارة الحديثة، فالمبنى الرئيس من طابقين له أبواب رأسية مستقيمة، وشبابيك رأسية تتميز باستدارتها من أعلى وتحيطها الزخارف التي تلف حافة السطح من الخارج. وقد اعتمدت السعودية في بداية توحيدها على منشآت الميناء لجمركة البضائع الواردة إليها، وبعد ظهور البترول والتوسع في تصديره توقف العمل بالميناء وتم الاعتماد على الموانئ الحديثة التي تم إنشاؤها بعد اكتشاف النفط، ومنها ميناء الملك عبد العزيز بالدمام.


من الأماكن التاريخية أيضاً قرية جواثا ومسجدها الأثري الذي يكشف عن العمق التاريخي للأحساء. وتذكر المراجع التاريخية أنه حين أسلم بنو عبد قيس همّوا ببناء مسجد في قرية جواثا في المنطقة المغطاه بالرمال، ويحمل المسجد اسم القرية، ويقال إنه ثاني مسجد أُقيمت فيه صلاة الجمعة في الإسلام بعد مسجد رسول الله، فقد ذكرت جواثا في كتب الحديث ومصادر التراث التاريخية والأدبية، ولا تزال آثار المسجد باقية إلى الآن.

مواقع مثيرة للدهشة

تذكر المراجع أن جواثا كانت أحد مواقع الاستقرار القديمة في شرق الجزيرة، ارتبط ازدهارها بالمراكز الحضارية داخل الجزيرة وخارجها وكانت إحدى محطات الطرق التجارية لشرق الجزيرة قبل الإسلام، واستمر عمرانها خلال الفترات الإسلامية المبكرة، كما أن موقعها الجغرافي جعلها حصناً لعبد القيس، وكانت دائماً شاهداً حضارياً لمجتمع شرق الجزيرة، لكن مع بداية القرن الثالث الهجري انكمشت جواثا وضعفت بعد أن كانت مركزاً حضارياً إسلامياً.

ذُكرت الأحساء في قصائد كثير من الشعراء في مختلف العصور، منهم امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وغيرهما. وينتمي إلى الأحساء كثير من الشعراء القدامى والمحدثين

من المواقع الأثرية العجيبة بالأحساء جبل القارة، ويعدّ من أبرز المعالم السياحية الطبيعية وأكثرها أهمية، كان يعرف قديمًا بجبل الشبعان، وسمي الشبعان لكون النخيل والأنهار تحيطه من جميع جوانبه، فهو الشبعان والريان أيضاً. ويتميز بكهوف ذات طبيعة مناخية مخالفة عكسية، هذه الكهوف ليست مجرد تكوين صخري فريد فحسب، بل تخالف أجواء الطقس السائدة خارج الجبل، فتكون باردة صيفا دافئة شتاء مما يثير دهشة الزائرين.

واحة عامرة بالخيرات

الأحساء عبارة عن واحة واسعة عامرة بالخيرات، تنتشر بين ربوعها المزارع الخضراء وأشجار النخيل التي تثمر أنواعًا كثيرة من البلح ويسمى بين الأهالي بالرطب، وله مذاق حلو، خاصة النوع المسمى بـ"الخلاص". ويعتمد الأحسائيون على تخزين الرطب في موسم الجني داخل بيوتهم لتحويله إلى تمر، يسمى في بعض البلاد العربية ومنها مصر بالـ"عجوة". يستفيد أهالي الأحساء من التمر طوال العام في غير موسم الرطب.


تنتشر في الواحة العديد من الحرف اليدوية المرتبطة بالنخيل كالخوص، والحبال، والقفف، وغيرها من الصناعات اليدوية الأخرى، وتصنّف الأحساء واحدة من أكبر واحات النخيل في العالم باحتوائها على أكثر من مليوني نخلة تنتج ما يقارب مليون ونصف طن من أجود أنواع التمور سنوياً.

الأحساء والشّعر

ذُكرت الأحساء في قصائد كثير من الشعراء في مختلف العصور، منهم امرؤ القيس، وطرفة بن العبد، وغيرهما. وينتمي إلى الأحساء كثير من الشعراء القدامى والمحدثين، في مقدمتهم الشاعر علي بن المقرب العيوني (572–629 هـ) من القدامى، ومن المحدثين محمد بن طاهر الجلواح، وناجي الحرز، وجاسم الصحيح، والشاعر المفكر محمد العلي (1932) من مواليد بلدة العمران بالأحساء، والشاعر النبطي الراحل حمد عبد الله المغلوث (1850-1931)، أحد رواد الأغنية الكويتية، والذي عاش حياته متنقلاً بين الكويت والأحساء بحسب كتاب "الأغاني في التراث الشعبي الكويتي" للدكتور يعقوب يوسف الغنيم.

ومما ذُكر في الأحساء يقول الشاعر غازي القصيبي:

أم النخيل هبيني نخلة ذبلت/هل ينبت النخل غضاً بعدما ذبلا

يا أمُّ ردّي على قلبي طفولته/وأرجعي لي شباباً ناعماً أفلا

وطهري بمياه العين أوردتي/قد ينجلي الهمّ عن صدري إذا غسلا

ويقول الشاعر جاسم الصحيح:

هي الاحساء قبلتي/القديمة والهوى الدائم

وليست بقعة بركت/على صدر المدى الجاثم


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image