للترجمة تاريخ طويل في العالم العربي، بدأ منذ القرن الثاني الميلادي في عهد السريان الذين ترجموا الكثير من الأعمال عن التقاليد الوثنية، وتأثروا في ترجماتهم بالإغريق، فكانت مخلصة للنص الأصلي قدر الإمكان.
ونشطت الترجمة في عصر صدر الإسلام (حسبما ورد في لسان العرب) إذ زاد الاتصال بالأمم المحيطة، وأرسل الرسول والخلفاء الراشدون الرسائل إلى الدول الأخرى تحمل الدعوة للدخول إلى الدين الجديد. كانت الرسائل تُترجم من العربية إلى لغات الأمم المُرسل إليها.
وأتت الفترة الذهبية للترجمة في العصر العباسي، مع عصر هارون الرشيد ثم ولده المأمون وتأسيس "بيت الحكمة" الذي يُعد أكبر معهد للترجمة في ذلك الوقت، وتُرجمت فيه العديد من الكتب في الفلسفة اليونانية والعلوم الهندية والأدب الفارسي.
وبرز اسم الجاحظ كأحد أبرز مترجمي عصره، ومن أبرز أقواله عن الترجمة: "يجب أن يكون المترجم على دراية ببنية اللغة وعادات الناس وكيفية فهم بعضهم لبعض".
لذا أعرض ههنا لقيم أراها من الإرث الأخلاقي والاحترافي والإبداعي، وأشدد على ضرورة توافرها في الشخص المترجم، وعلى كيفية تعامل القارئ بذكاء مع الكتب المترجمة، حتى لا يتعرض لخديعة تجارية ما، ولا يتعايش ذوقه مع الغث من النصوص الظالمة لكتابها الأصليين.
البداية
انطلاقاً من مقولة الجاحظ يمكن أن نجد مدخلاً إلى مفهوم عملية الترجمة، فهي عملية تحويل نص أصلي مكتوب بلغة ما إلى نص آخر مكتوب بلغة أخرى، أي إن الترجمة هي نقل للفكر والحضارة والثقافة وليست مجرد عملية تحويل كلماتٍ إلى مرادفاتها.
أي إنه يجب على المترجم أن يعي ثقافة المكان والزمان المنقول عنهما العمل، ويفهمه جيداً، ويسعى جاهداً إلى امتلاك مفاتيحه قبل أن يحاول ترجمة كلمة فيه، وعليه أن يكون مُلِماً باللغتين المُتَرجم منها والمُتَرجَم إليها إلماماً واسعاً، ومدركاً لاختلاف فنون السرد وأساليبه وتركيب الجمل بين اللغتين.
هناك ما تحتمله لغة ولا تحتمله أخرى، أو ما يكون في لغة ما بليغاً ويكون في أخرى ركيكاً.
أنواع الترجمة
يقول الدكتور محمد عناني في كتابه "فن الترجمة": "أما المترجم فهو مكلف بنقل هذا السجل الحي للفكر من لغة لها أعرافها وتقاليدها وثقافتها وحضارتها إلى لغة أخرى، ربما اختلفت في كل ذلك، ومع ذلك فهو مطالب بأن يُخرج نصاً يوحي بأنه كُتِب أصلاً باللغة المُتَرجَم إليها، أي أنه مطالب بأن يبدو كتاباً أصلياً".
ويمكننا أن نشير إلى الاختلاف بين الترجمة الأدبية وغيرها من ألون الترجمة. ففي الترجمة الأدبية لا يتوقف المترجم عند نقل دلالة الألفاظ، بل يتجاوز ذلك إلى التأثير الذي يفترض أن المؤلف يعتزم إحداثه في نفس القارئ. لذلك يتحتم على المترجم ألا يتوقف عند المعرفة اللغوية، بل عليه أن يتحلى بالمعرفة الأدبية والنقدية، وأن يكون محيطاً بالفكر والثقافة المنقول منها النص.
من كواليس الترجمة
للتوضيح يمكنني أن أذكر مثالاً من ترجمةٍ أدبية عن اللغة الإسبانية كنت أعمل عليها: قابلتني كلمة escarlata وهي تعني قرمزي، وتكررت في نفس الفقرة حوالى خمس أو ست مرات. في اللغة الإسبانية لا تعدو هذه ركاكة، فاللغة تحتمل مثل هذا التكرار، لكن في اللغة العربية فتكرار كلمة بهذا الشكل في فقرة يكون ركاكة وفقراً أدبياً وأسلوبياً، وبالتالي لزم التنويع بين مرادفاتها: مرة قرمزي، وتارة حمرة داكنة، وأخرى أشير إليه بضمير دون أن أذكره.
أو مثلاً الاستخدام الزمني للكلمة: حكى لي محمد الفولي ذات يوم أنه أثناء ترجمته لرواية ما قابلته كلمة camarote الإسبانية، وهي تعني بالعربي قمرة في سفينة، لكن هذا المعنى لم يكن متسقاً مع السياق تماماً، وبعد بحثٍ جهيد توصل إلى أن تلك الكلمة كانت تُستخدم في تشيلي في ثلاثينيات القرن العشرين (زمان ومكان الرواية) بمعنى آخر هو سكنُ العُمال العُزاب.
ومثال ثالث مرّ بي أثناء إحدى ورش الترجمة، وهو الاختيار بين مرادفين كليهما صحيح: قابلتني كلمة Cerbatana الإسبانية، وهي سلاح قديم عند الهنود الحمر، عبارة عن أنبوب خشبي يطلقون منه سهاماً صغيرة بالنفخ، وايضاً تُشير الكلمة إلى لعبة تُشبه المسدس الخرز، وتستخدم في المكسيك بمعنى مسدس لعبة.
اخترت أنا مسدس لعبة، لأنها، في رأيي، أقرب لسياق الجملة ولعمر السارد وطريقة تفكيره، واختارت إحدى زميلاتي تعريب الكلمة نفسها والإشارة إلى كونها سلاحاً، وكان الاختياران صحيحين.
مثال أكثر شيوعاً نجده في كثير من الترجمات "غير الجيدة"، وهو ذِكر قائل العبارة في نهايتها وليس في بدايتها، وهو أمر طبيعي بليغ في لغات مثل الانجليزية والإسبانية، لكن تركيب الجمل في اللغة العربية مختلف تماماً.
عندما نرغب في ترجمة جملة مثل: “I’m going to read a book” Sara said.
فمن الخطأ أن نُترجمها "سأذهب لقراءة كتاب" قالت سارة.
هذا التركيب ليس صحيحاً في اللغة العربية، ولكن الصحيح هو قالت سارة: سأذهب لقراءة كتاب.
واسترسال الجمل في اللغة العربية أيضاً يختلف عن استرسالها في اللغات الأخرى، فأن تجد فقرة إنجليزية أو إسبانية تتكون من جملٍ قصيرة في نهاية كل منها نقطة هو أمر طبيعي، لكن في العربية يضر هذا التقطيع بالفقرة ويعيق فهمها، وبالتالي يجب استبدال تلك النقاط بعلامات الترقيم اللازم، ما بين فاصلة وفاصلة منقوطة ونقطة وهكذا.
اللجوء إلى الترجمة الإلكترونية
"الترجمة فن تطبيقي، أي أنها حرفة لا تتأتى إلا بالدربة والمران والممارسة استناداً إلى الموهبة، وربما كانت لها جوانب جمالية، بل ربما كانت لها جوانب إبداعية. ومعنى ذلك أنه لا يمكن لأستاذ في اللغة أو في الأدب أو في كليهما، أياً كان حظه من العلم بالإنجليزية أو بالعربية (بل أياً كان حظه من العلم بنظريات اللغة) أن يخرج لنا نصاً مقبولاً مترجماً عن إحدى اللغتين دون ممارسة طويلة للترجمة".
هذه الفقرة مستلة من كتاب "فن الترجمة"، وفيها يتحدث الدكتور عناني عمّن يدخلون في عالم الترجمة معتمدين على اختصاراتٍ للوقت والجهد، ويضيف: "لا توجد طرق مختصرة لإجادة الترجمة، فلا كتب المتخصصين ولا الكتب العامة ولا حتى هذا الكتاب بمغنية عن الممارسة والخبرة".
تفضيلات العديد من القراء للروايات والكتب المترجمة كان لها أثر سلبي على جودة النشر، مما أفقد كلمة الترجمة سحرها وإبداعها واحترافيتها، الحل ليس سهلاً، لكنه يستحق المحاولة، فتأثيره سيكون إيجابياً شاملاً على حياتنا كلها. وليس على صناعة النشر والترجمة فحسب...
وأظن أنه كان سيضيف "مترجم غوغل" وباقي القواميس الإلكترونية إلى تلك الاختصارات التي سيلجأ إليها من يدعون الترجمة، بل إن الاختصارات التي تحدث هو عنها تتطلب بعض الدراسة والمجهود، فهي تعتمد في الأساس على قراءة كتب. لكن الأمر الكارثي الذي يحدث الآن هو الاعتماد في الترجمة على غوغل، وعلى قدرته على ترجمة فقرات كاملة وليس فقط إيجاد معاني كلمات.
في الأعوام الأخيرة، حاول كثيرون دخول عالم الترجمة لأن للكتب والروايات المترجمة في عالمنا العربي حظاً أوفر من الأعمال الأصلية، لذلك لجأت دور النشر إلى تعزيز نشر أعمالٍ مترجمة، وللأسف اعتمد الكثير منها على اسم المترجم والإنتاج الغزير للدار دون أن يجعل جودة الترجمة الأدبية ركناً أساسياً في العملية، فلجأ مدّعون إلى استخدام ترجمة غوغل، معتمدين على أن الدار تملك مراجعين شُطار، وشطار هنا لا أقصد بها جيدين، بل هم شطار. والشطار في اللغة هم اللصوص الخبثاء الماكرون. بالإضافة إلى آخرين ممن لجأوا إلى مترجمي الظل.
هل جربت يوماً أن تُترجم أي جملة من عوغل؟ هل شاهدت الركاكة وضياع المعنى، ناهيك بالدلالة والتأثير؟ ألا يذكرك هذا بمشهد القرموطي في "معلش احنا بنتبهدل" عندما ترجم بطاقة الشكر التي أرسلها إليه السائح الأمريكي؟
ربما استطاع المُراجع أن يجعل العمل يبدو كما لو أنه جيد، يُعيد صياغة بعض الجمل، ويخمن المعنى دون أن يعود إلى نص أصلي فيُنتج نصاً قد يبدو جيداً، لكنه في النهاية سيكون بعيداً كل البعد عن النص الأصلي. وحتى هذا الذي قد يبدو جيداً فبعد التأمل والتدقيق سنكتشف هشاشته وزيفه.
الترجمات القديمة لا تزال موجودة ومنتشرة وصالحة، فما الداعي لإعادة ترجمتها ونشرها؟ هل لأنها أصبحت تحت بند "المشاع الإبداعي"؟ ما الذي يمكن أن يضيفه مترجم يترجم مثل هذه الأعمال العظيمة خاصة أنه قرأها بل ساهمت في تشكيل وعيه وإدراكه، وتالياً سينعكس هذا على "ترجمته" لها؟
لا يُراعي مستخدم المترجم الإلكتروني كل ما سبق، بل هو يسعى إلى شهرة سريعة، أو إضافة لقب مترجم إلى لقبه ككاتب في بعض الحالات، ولذلك يلجأ إلى المكسب السريع، فيذهب إلى هذا الإلكتروني أو الآخر المختبئ في الظل. بمعنى آخر فإن من يلجأ لهذا يريد أن ينتقل من النقطة أ إلى النقطة ب بأسرع طريقة ممكنة دون أن يدرك أن السر ليس في الوصول إلى النقطة ب بل إلى كيفية الوصول إليها، وأن النقطة ب ما هي إلا أول نقطة في رحلة طويلة زادُها الخبرة التراكمية والإبداع.
لهذه الاتكالية والسعي إلى نجاح زائف سريع آثار مدمرة على الصناعة بأكملها، فنحن هنا نتحدث عن شخصٍ ربما لم يقرأ النص الأصلي من الأساس، ولم يملك مفاتيحه ولم يعرف مقاصد كاتبه، وهو ليس على دراية باللغة بشكلٍ كافٍ ولا بالأدب والمعايير الأدبية والفروق بين الأدب العربي والآداب الأخرى.
كل ما يملك هذا الشخص من مقومات هو اسم له بعض البريق وعلاقات قوية. وعندما يقوم باستخدام الاختصار المتمثل في مترجم غوغل لنقل عملٍ أدبي من لغة أخرى، هل نتوقع أنه سينقل أدباً وفكراً وثقافة أو نعتبر أن هذا العمل نافذة على ثقافةٍ أخرى؟
كيف يمكن للقراء أن يميزوا...؟
ربما الإجابة عن هذا السؤال هي الأصعب. بالطبع الأمر أسهل لمن يملك المعرفة اللغوية التي تمكنه من قراءة النص بلغته الأصلية، وعندها سيقدر بسهولة على تحديد حقيقة الترجمة من زيفها، أما من لا يملك تلك القدرة فيمكنه الاتكاء على حدسه قليلاً. يشبه الأمر أن تكون في مركب يسير في نهر رائق، وآخر يهبط شلالاً ويتخبط بين الضفتين. التركيز في السياق والمعنى وتماهي النص ربما يكون مفتاحاً جيداً أيضاً.
وقبل كل هذا، ينبغي تحري تاريخ المُترجم والنظر في أعماله سواء كانت قصصاً، أو مقالات، أو كتباً منشورة إلكترونياً أو ورقياً. ستقدر عندها على تحديد قدراته، وهل هو ناقل أمين مبدع أم لا؟ وهل تكون الأعمال المنشورة بأصواتٍ مختلفة نظراً لاختلاف المؤلفين، أم هو نفس الصوت المكرر؟
الأمر ليس سهلاً، لكنه يستحق المحاولة، فتأثيره سيكون إيجابياً شاملاً على حياتنا كلها. وليس على صناعة النشر والترجمة فحسب. سيعيدنا هذا إلى فهم أهمية الإتقان في كل تفاصيل حياتنا. عدا أن السعي والاجتهاد هما اللذان يجب أن يكونا رفيقي الشخص في طريق النجاح، لا "الفهلوة" واستخدام الذكاء في غير موضعه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين