شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ساقاً على ساق والشيشة لا تغادر فمها... ما خفي من حياة راقصات مصر أيام زمان

ساقاً على ساق والشيشة لا تغادر فمها... ما خفي من حياة راقصات مصر أيام زمان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 8 مارس 202302:44 م

جوانب خفية وحكايات مثيرة قد لا يعرفها أحد عن نجمات أحبهن الملايين، تجدها تنساب كالنهر الجارف بين صفحات كتاب "راقصات مصر... مآسي صانعات البهجة" لأشهر ناقد فني مصري في القرن الماضي، جليل البنداري الذي رحل مبكراً جداً في 1968، ولم يكن قد تجاوز الـ52 من عمره. ولكنه ترك كنزاً من الكتابات التي افتقدتها المكتبة العربية بعد نفاد طبعات كتبه منذ عقود، قبل أن تعيده دار كلمة للنشر بالقاهرة إلى واجهة المشهد بعد صدور بعض إسهاماته في طبعات جديدة خلال معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي أقيم هذه السنة 2023.

يتطرق البنداري في كتابه إلى مسار أشهر نجمات الرقص الشرقي في هوليوود الشرق، من بمبة كشر إلى سامية جمال، مروراً ببديعة مصابني وتحية كاريوكا وحكمت فهمي وغيرهن، من أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين. 

بمبة كشر: المصريون ينادونها "ست الكل"

يبدأ الكتاب من حكاية شفيقة القبطية، أول راقصة في العالم، يشعل لها أحد المعجبين سيجارة بورقة مالية من فئة المائة جنيه، وينتقل بك إلى عالم "بمبة كشر" التي كانت تبحث عن الذهب حيناً، وعن الحب حيناً، فاذا امتلكت الذهب، بحثت عن الحب. واذا امتلكت الحب، بحثت عن الذهب.

يضيء الكتاب على بدايات بمبة كشر منذ أن كانت طفلة في التاسعة من عمرها، تقود والدها الأعمى الشيخ أحمد مصطفى كشر، الذى يقرأ القرآن الكريم، وينشد المدائح النبوية في الأفراح وليالي القاهرة الملاح، وعندما يصل إلى منصته المرتفعة في السرادق، تتركه الطفلة وتصعد الى الطابق الأعلى الذي تجتمع فيه النساء، لمشاهدة الرقص والاستماع الى الأغاني والفكاهات التي تلقيها "العوالم".

وعندما تعود بمبة إلى البيت، تقف أمام المرآة، وتقلدهن واحدة بعد أخرى، ولم تكن الأم تمنعها من ذلك، فقد كانت هذه الوسيلة الوحيدة، التي ترفه بها الطفلة عن نفسها.

البدايات

يحكي البنداري قصة دخول بمبة كشر مجال الرقص بعد أن توفي والدها، الشيخ أحمد مصطفى كشر، وزواج أمها من الشيخ إسماعيل شاه – مقرئ السراي في عهد الخديوي توفيق – ولكن بمبة ذات الـ14 سنة، لم توافق على زواج أمها، حفيدة الملك الأشرف أينال أبو النصر، من الشيخ إسماعيل شاه، بعد وفاة ابيها، ولما أصرت الام على الزواج، قامت الفتنة بين جدران البيت، وخرجت بمبة وشقيقتها نبوية – والدة الفنانة فتحية أحمد – وشقيقاها محمود وعبد العزيز، وأقاموا جميعاً في شقة بممتلكات الأسرة بحي الخرنفش بوسط القاهرة. وتعرفت "بمبة" بـ:عالمة" راقصة تركية شهيرة كانت تراها في أفراح الزوات، اسمها "سُلُم"، وأعجبت بها وعرضت عليها العمل معها مقابل نصف بنتو من الذهب في الليلة الواحدة، وهي قيمة مغرية في ذلك الوقت. 

بدأ اسم بمبة كشر يلمع في الأوساط الراقية، يقول البنداري إن بمبة كشر تعتبر من أوائل اللواتي زاولن الرقص الشرقي في مصر، عاشت وماتت والمصريون ينادونها بـ"ست الكل"، وكان الناس يعرفونها بالعربة الحنطور التي كانت تجري بها في شوارع القاهرة، وأمامها اثنان من خدمها يصيحان في المارة "وسع يا جدع". وعربتها هي العربة الوحيدة التي كتب عليها – بالذهب – هذان الحرفان بالإنجليزية B.K اختصاراً لاسم بمبة كشر، وقد ظلت مشهورة بتلك العربة حتى وفاتها عام 1928.

وكانت أعظم حفلات الموسم في مصر في ذلك الزمان، حفلات الزار التي تقيمها بمبة، وتحضرها سيدات القصور والطبقة الراقية، وكانت فرقة موسيقى «حسب الله» تستقبل المدعوين بعزف السلام الوطني المصري، وعلى السلم تصطف الفتيات اللائي يعملن في فرقتها، وهن يتمايلن وينشدن الأغاني العذبة، وفي «صباحية» الزار، يحضر المطربان عبداللطيف البنا وصالح عبد الحي، ويزفان«كرسي العوافي» الذي تجلس عليه عروس الحفلة، بمبة كشر، ويدوران حولها وهما يتغنيان بهذه الاغنية الشهيرة في هذا الزمان:

"كرسى العوافي نصبوه لك... قومي اتمخطري وطوفي حواليه"

يحكي البنداري أن بمبة كشر، هي الفنانة التي استطاعت ان تنافس وحدها "شارع محمد علي" بأكمله، وهو الشارع الذي يعتبر عاصمة الرقص في مصر، والذي خرجت منه كل راقصات القاهرة، وكانت "بمبة كشر" تتحلى في الافراح بمجوهرات يزيد ثمنها على ثمن ما تتزين به جميع المدعوات. 

الراقصة بديعة: "ملكة الليل" تحاول الانتحار

بعد بمبة كشر، جاءت بديعة مصابني (1892 - 1974) لتسيطر على سوق الرقص، وكان مشهداً مألوفاً في قاهرة 1934 أن تراها جالسة بباب صالتها بشارع عماد الدين، واضعة ساقاً على ساق و"الشيشة" لا تغادر فمها، وبين الحين والآخر، يأتي خادم من المقهى البلدي الذي يبعد عن صالة بديعة بضعة أمتار، فينفض رماد "الشيشة"، ويغير قطع الفحم الصغيرة المبعثرة.

كانت بديعة مصابني في ذلك الزمن ملكة الليل، ولم يكن ينقصها، وهي تقترب من خريف العمر، سوى حلم النجاح السينمائي، إذ كانت تشعر بالغيرة عندما تذهب إلى دور العرض، مع بعض نجوم السينما، فترى الجماهير وهي تستقبل صديقاتها بالتصفيق، أما صاحبة الصالة التي تربح الكثير، فلا يعرفها أحد بين جمهور السينما، فقررت بديعة أن تغامر وقامت بإنتاج أول أفلامها.

كان مشهداً مألوفاً في قاهرة 1934 أن تراها جالسة بباب صالتها بشارع عماد الدين، واضعة ساقاً على ساق و"الشيشة" لا تغادر فمها، يأتي خادم من مقهى بلدي فينفض رماد "الشيشة"، ويغير قطع الفحم الصغيرة المبعثرة... من حياة راقصات مصر أيام زمان

وفي ليلة العرض الأولى لفيلم ملكة المسارح، اجتمع في بيت بديعة مصابني لفيف من أصدقائها وزملائها وزميلاتها، ليشربوا نخب ملكة المسارح والسينما أيضاً، ولم تتحمل بديعة مرارة فشلها السينمائي الذريع، بعد أن أخبرها الجميع أنها لا تصلح لهذا الفن، فوضعت في كأسها صبغة اليود، وحاولت الانتحار لولا وجود تحية كاريوكا معها في ذلك الوقت، والتي أعطتها اللبن فأفرغت ما في جوفها.

لم تكن تلك محاولة الانتحار الوحيدة لبديعة مصابني

لم تكن تلك محاولة الانتحار الوحيدة لبديعة مصابني، فعندما فتحت باب شقتها ذات يوم ووجدت محضر محكمة عابدين، ليوقع عليها الحجز، قامت بابتلاع عشرين قرصاً من الأسبرين دفعة واحدة.

يكشف جليل البنداري أن بديعة لم تكن جميلة الصوت، ولا راقصة ممتازة، ولكنها كانت تتمتع بجاذبية وسرعة بديهة وخفة دم، وبهذا الرأسمال المتواضع، نزلت إلى سوق "الجواري" و"التمثيل" على حد تعبيره، ولكنها لم تبدأ في القاهرة، لأن ملاهيها كانت تغلق أبوابها دائماً في وجوه الناشئين، بل بدأت في الفرق المتجولة التي تبحث عن القروش والملاليم في قرى الصعيد.

تخصصت بديعة مصابني في تمثيل أدوار الرجال، وكانت تبالغ في التمثيل، فتطلب الشيشة وهي على المسرح، وتدخنها كالرجال تماماً، وعاشت في هذا الجو عدة سنوات إلى أن التقت بنجيب الريحاني في القاهرة، وتعاقد معها مرة أخرى، ولكنه في هذه المرة وقع معها عقدين، عقد التمثيل وعقد الزواج.

تشير حكايات البنداري إلى أن بديعة مصابني عندما تزوجت من نجيب الريحاني، حاولت أن تبيع له الحب ففشلت، وحاول هو أن يأخذه مجاناً ففشل، ولم ينتصر أحدهما على الآخر، وكان الريحاني يغار عليها ويثور ويعنفها، وكانت بديعة تبادله صفعة بصفعة و "شلوتاً بشلوت". كانت حياتهما تمثيلية تجمع بين البكاء والضحك والغضب.

حكمت فهمي

يتتبع البنداري نهايات الراقصة الشهيرة حكمت فهمي في فيلا متواضعة المظهر بحي الدقي، حيث كانت تعيش يائسة مع الطفل الوحيد الذي رزقت به قبل خمس سنوات من الزوج الثالث والأخير، الذي أخرج لها – بآخر ما بقي عندها من قروش – فيلماً فاشلاً.

ويبيّن أن الراقصة المصرية الوحيدة التي رقصت بين سنتي 1937 و 1939 في قصور ملوك أوروبا وزعمائها، وأمام دوق وندسور، وهتلر، وموسوليني، وجورنج وغوبلز.

واعتادت فهمي أن تدفن جميع الخطابات والرسائل الغرامية في حديقة دارها، وبعضها من أمير عربي كبير مكتوبة بخطه.

ويستعرض الفصل الذي يتضمن حكاية حكمت فهمي علاقات الصداقة التي نشأت بينها وبين الجنود الإنجليز والألمان في الحرب العالمية الثانية، ودخولها سجن الأجانب بسبب علاقتها مع الجاسوسين الألمانيين.

صاحب النفوذ

تكشف سخونة حكايات الكتاب الذي صدر للمرة الأولى قبل أكثر من ستة عقود، عن رؤية البنداري للمشهد من الداخل، فالناقد الذي ولد في ديسمبر/ كانون الأول 1916 هو أكثر الصحافيين اقتراباً من نجوم الفن في مصر في النصف الأول من القرن الماضي، رغم أنه عرف بأسلوبه اللاذع وسلاطة اللسان، حتى قالت عنه الفنانة تحية كاريوكا "إنه (جليل) الأدب واحنا (بنداري) عليه".

هو من أطلق على عبد الحليم حافظ لقب "العندليب الأسمر"، وهو من وصف أم كلثوم بـ"كوكب الشرق"

بدأ حياته العملية في مصلحة التلفونات قبل أن يلتحق بالعمل في مؤسسة "أخبار اليوم" وسرعان ما أصبح من علامات النقد الفني، وهو من أطلق على عبد الحليم حافظ لقب "العندليب الأسمر"، وهو من وصف أم كلثوم بـ"كوكب الشرق"، الوصف الذي ارتبط باسمها حتى الآن، كما أطلق عليها "معبد الحب".

البنداري يعدّ الموسوعة الصحافية والفنية الأشمل في مصر، فهو عمل صحافياً وشاعراً وكاتباً للسيناريو والحوار، لمع اسمه من خلال جريدة "أخبار اليوم" مع الأخوين مصطفى وعلى أمين، وتعقب حياة النجوم حتى أصبح صديقاً لمعظمهم.

حرر البنداري باباً ثابتاً باسم "أنا والنجوم"، بالإضافة لعموده الشهير "ليلة السبت"، وقدم سير ذاتية لأشهر النجوم في عدة كتب، أشهرها "جسر التنهدات" عن حياة العندليب عبد الحليم حافظ، و"عبد الوهاب... طفل النساء المدلل". وأخيراً صدرت له طبعة جديدة أيضاً مع كتاب "راقصات مصر"، عن دار كلمة للنشر بالقاهرة.

وكتب البنداري العديد من الأعمال للسينما، منها: شفيقة القبطية، بمبة كشر، وداد الغازية، لوعة الحب. 

سامية جمال أو "السيدة زينب"

يكشف فصل "سامية جمال" الكثير عن صاحبة الشعبية الجارفة، التي كانت حتى سن العشرين، لا تقرأ ولا تكتب، ولا تحفظ من اللغة العربية سوى الحروف التي يتكون منها اسمها، أما في وقت صدور الكتاب، فقد أصبحت تتحدث بثلاث لغات، الإنجليزية والفرنسية والإيطالية.

يستعرض البنداري أسرار نشأة سامية جمال أو «السيدة زينب» وهو اسمها الحقيقي، ويقول إنها ابنة لشيخ معمم اسمه الشيخ خليل إبراهيم، كان متزوجاً من اثنتين: أمها وسيدة أخرى، وتوفيت أمها وعمرها ثماني سنوات، لتعيش الطفلة اليتيمة خمس سنوات مع زوجة أبيها، ذاقت فيها ألواناً من الذل والهوان، وكانت زوجة أبيها ترغمها على غسل الأواني ومسح البلاط، فلا تكاد تنتهي من هذا كله، حتى تنهال عليها بالشتائم، لأنها تأخرت في شراء الطعام. وبعد أن تشتري سامية مستلزمات المنزل، تبعث بها زوجة الأب إلى إحدى جاراتها لتتولى مساعدتها أيضاً في غسل الأواني ومسح البلاط، ولم تستطع الطفلة، وقد أصبح عمرها 14 عاماً، أن تصبر على هذا الذل.

وفي ساعة مبكرة من صباح أحد الأيام سنة 1938، هربت السيدة زينب من الواسطي إلى القاهرة، ونزلت ضيفة على شقيقتها الكبرى "فاطمة النبوية"، وكانت شقيقتها في ذلك الوقت متزوجة من موظف بإحدى مصالح الحكومة، كما أنها تعمل حائكة ملابس للسيدات، فأكرمتها شقيقتها في بادئ الامر، ومرت الأيام، ثم طردت شقيقتها الخادمة من البيت، وقالت للسيدة زينب أن مدة الضيافة قد انتهت، وعليها الآن أن تتولى شؤون البيت.

كانت زوجة أبيها ترغمها على غسل الأواني ومسح البلاط، فلا تكاد تنتهي من هذا كله، حتى تنهال عليها بالشتائم، لأنها تأخرت في شراء الطعام. وبعد أن تشتري مستلزمات المنزل، تبعث بها زوجة الأب إلى إحدى جاراتها لتتولى مساعدتها أيضاً في غسل الأواني ومسح البلاط... طفولة السيدة زينب أو سامية جمال كما بتنا نعرفها

كان البيت الذي تسكن فيه شقيقتها في حارة بحي القربية، وكانت سامية جمال تقضى أوقات فراغها وراء النافذة، تستمع الى راديو المقهى البلدي حيناً، وتطل على المارة في الطريق أحياناً أخرى الى أن يعود ابن الجيران من عمله ليجلس هو أيضاً وراء النافذة، ويغنى ويعزف على العود أغنية فريد الأطرش التي غناها لأول مرة في الإذاعة «باحب من غير أمل»، وعندما لاحظت والدة الشاب اهتمام سامية جمال به، تواصلت مع والدها ليعاقبها، فحضر أبوها وتناول «المقص» وقص شعرها الطويل، وأخذ يجدله أمام عينيها، وصنع منه سوطاً متيناً، وانهال به عليها ضرباً حتى فقدت الوعي.

وبقيت الفتاة شهوراً بعد ذلك في البيت لا تخرج حتى لا ترى بنات الحارة المصيبة التي حلت بها، فقد كانت تباهي زميلاتها بشعرها، الذي يبلغ طوله متراً، وعندما بدأ شعرها ينمو استعانت بمنديل حريري "إيشارب" تغطي به رأسها، كلما أرغموها على شراء الحاجات من السوق، فقلدتها بنات الحارة من جديد، حتى أصبح «الإيشارب» هو الموضة الجديدة لهن، وكانت هذه «العلقة» دافعاً لتمرد الفتاة على الأوضاع والتقاليد لتقرر تحرير نفسها، ولتتوارى "السيدة زينب" تدريجياً عن المشهد، وتخرج إلى النور "سامية جمال" التي عرفناها، والتي وصلت شهرتها لكل أرجاء العالم. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard