ربما إن اطلعنا على أكثر الكتب مبيعاً، قَلَّما، بل نادراً ما نجد كتاباً فلسفياً. لا يقتصر الأمر على مجرد البيع. حتى في النقاشات والأحاديث، تشغل الروايات الكلاسيكية والمعاصرة وكتب التنمية الذاتية الحيزَ الأكبر، في حين توضع مسافة مع الكتب الفلسفية التي يُنظر إليها على أنها مادة مستحيلة الهضم والفهم، وكأنها أُنتجت لخاصة الخاصة، لعقول قادرة على التفكيك وفك الشفرات.
بيد أن للفلسفة قيمتها، وكل باحث عن المعرفة، لا بد أن يمر من الفلسفة؛ فهي كشف وعون في هتك حُجب الأسئلة التي تجول في الذهن، ودعوة نحو استخدام العقل والتأمل في الذات والكون والمجتمع. الفلسفة ليست سوى ما قاله برتراند راسل: "الغاية من الفلسفة تكمن في الأسئلة التي من شأنها أن توسع آفاقنا حيال الممكن، وتثري خيالنا العقلي، وتقوض الجمود الدوغمائي الكفيل بإغلاق أبواب العقل بوجه التكهنات. والأهم قدرة الأسئلة على الارتقاء بعظمة العقل".
فعلُ القراءة يتفاعل مع الكتب التي تسير بسلاسة. تكون لغتها مُبسطة، وأفكارها واضحة، لا تحتاج إلى كثير تعمق وتأويل وتفكير. هذا الفعل القرائي لا يتناسب والفلسفة، فبالنسبة إليها لا توجد "قراءة سريعة"؛ كلما كان الموضوع معقداً، وجب أن تكون القراءة بتأنٍّ.
لعل كلمة "فلسفة" عندما تقرع في الأذن، يطغى على الإنسان الذي لم يسبر أغوارها شعور بالرهبة والخوف من اقتحام هذا المجال الفكري، ويظهر له الفلاسفة وكأنهم عمالقة يصعب الوصول إليهم أو مجاراتهم فكراً
عقدة الفلسفة عند بعض القرّاء، لا تتجسد فقط في الموضوع أو اللغة، لكن، في البدايات أيضاً. المشكلة كانت في كثير من الأحيان، إيجاد البداية الحقيقية للتعامل مع الفلسفة، لأنها حسب الكاتب والباحث المغربي، الطيب بوعزة، تراكمية غير تجاوزية، وليست كالعلوم التجاوزية. الفلسفات تأخذ من بعضها البعض، لذلك لا بد من ضبط البدايات.
من هذه الزاوية، زاوية تبسيط الفلسفة لغةً وموضوعاً، حاولت بعض الكتب انتشال الفلسفة من طابعها "الفوقي" إلى متناول عامّة القراء.
لذلك يأتي هذا المقال ليعالج الموضوع من جانبين؛ محاولة للتنقيب عن أهم المفكرين والمؤلفات التي حاولت تقريب الفلسفة، ووضع اللبنات الأولى من أجل اقتحام عوالمها اللا متناهية، ثم تقديم بعض الإجراءات المنهجية التي قد تسعف القراء في فهم أعمق للكتب الفلسفية.
"أقدم لك"... الفلسفة للمبتدئين
لا يمكن قراءة الفلسفة وفهمها بقراءة مرحلة زمنية معيّنة، فالفلسفة تشد في تلابيب التاريخ، لذلك لا بد أن تكون دراسة الفلسفة تعاقبية، حتى يتمسك القرّاء بالنواة الفلسفية الأولى.
"أقدم لك... الفلسفة" (INTRODUCING: Philosophy)، هو العُنوان الذي اختاره ديف روبنسون وجودي جروفز، لكتابهما. يقدّم مترجم الكتاب إمام عبد الفتاح إمام، في البداية، خطةَ الكتاب: "هذا هو الكتاب الثالث في سلسلة 'أقدم لك'، وهو يستهدف تعريف القارئ غير المتخصص بمعنى الفلسفة. لكنه جاء في الواقع، عرضاً لتاريخ الفلسفة الغربية بأسرها منذ نشأتها في بلاد اليونان، في القرن السادس قبل الميلاد". فكان بذلك هدف الكتاب مساعدة القراء للدخول إلى عالم الفلسفة الرحب.
ما يميّز الكتاب إلى جانب لغته البسيطة المتناولة في أيدي القرّاء، هو اعتماده على الرسومات والمرفقات التي توضح الأفكار وتناقشها، وذلك لربما اقتناعاً من الكاتبَين بأن الطبيعة البشرية مرئية، تتفاعل مع الصورة، أكثر من القراءة.
"عالم صوفي"-جوستاين غاردر
"عالم صوفي" أشهر الكتب المصنفة للراغبين في اقتحام عوالم الفلسفة. يقع الكتاب في 552 صفحة، وبرغم ضخامته إلا أن اعتماده الأسلوب الروائي والنمط الحواري واللغة البسيطة يجعل قراءته وفهم موضوعاته سهلَين.
يقدم الكاتب عصارة المدارس الفلسفية التي عرفها التاريخ، بدءاً من الماضي (الميثولوجيا والأساطير)، وصولاً إلى الفلسفة الحديثة. ويعتمد في طرح أفكاره الفلسفية على الحوار بين الشخصيتين الرئيسيتينك صوفي أمندسن، وهي فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، وتمثل كل القراء الذين يحاولون خوض غمار الفلسفة، فيما يجسّد الشخصية الثانية ألبرتو كونكس، ذو الخامسة والخمسين سنةً، والذي يلعب دور معلم الفلسفة، معلّماً القرّاء المبتدئين عن طريق صوفي، ضمن أسلوب حواري شيّق، عارضاً للأفكار الفلسفية بطريقة سلسة.
يبدأ ألبرتو، بتلقين صوفي، دروساً فلسفية بدءاً بالفلسفة اليونانية قبل أفلاطون وأرسطو، وصولاً إلى الفلسفة الوجودية، مع دمج التساؤلات بالمحيط الاجتماعي والحياة اليومية لصوفي.
هكذا، تتأتى أهمية الكتاب، كونه يُقحم القراء غير المتخصصين والمبتدئين في عالم الفلسفة بتياراته، ضمن قالب روائي ممتع، مُجيباً ضمن الأحداث عن أهم سؤالين أسسا لفعل التفلسف: "من أنت؟" و"كيف جاء العالم؟".
"تبسيط الفلسفة"-رجب بودبوس
"القصد من وضع هذا الكتاب أن يكون منهجاً للدارسين المبتدئين في الفلسفة، الذين يجهلون كل شيء عن الفلسفة. بل أحياناً تثير فيهم هذه الكلمة شعوراً غامضاً بالرهبة والخوف: من صعوبتها وتعقيداتها... ولهذا روعيَ فيه التبسيط والعمومية، بما يتناسب مع مبتدئ، ليس فقط يجهل الفلسفة، بل أحياناً لديه انطباع سلبي عنها"؛ بهذه العبارات صدّر الكاتب رجب بودبوس، كتابه "تبسيط الفلسفة"، واضعاً منذ البداية القصد والغاية منه.
يقع الكتاب في 155 صفحة، مقسمة على ثلاثة فصول أساسية: "ما الفلسفة"، "مجالات الفلسفة"، "مشكلات فلسفية".
كتب الفلسفة لا تحتاج إلى أريكة مريحة وفنجان قهوة، إنما تحتاج إلى ورقة (مفكرة) وقلم.
نقطة التمايز بين هذا الكتاب والكتب سالفة الذكر أنه لم يعالجها من حيث تاريخها، أو من خلال عرض أهم الفلاسفة وآرائهم، ولا حتى مذاهبها، إنما حاول تقديم نظرة عامة عن الفلسفة للقرّاء، متبعاً منهجاً استنباطياً، ينطلق من العام: تعريف القرّاء بالفلسفة، منتقلاً إلى ذكر المجالات التي تستقي منها الفلسفة عملها، أو -بشكل عام- المذاهب الرئيسية، من دون الخوض في تفاصيل فلسفات فلاسفة كل مذهب. بعد هاتين المرحلتين ينتقل الكاتب إلى الخوض في الحديث عن أهم المشكلات الفلسفية (المعرفة، الحرية)، ويهدف في هذا المحور إلى تمكين الكاتب من مواجهة اختلافات الفلاسفة وتناقضاتهم بعدما تكونت لديه قاعدة معرفية تسعفه في فهم هذه الاختلافات.
الفلسفة تحتاج إلى فكر ناقد وعقل متسائل، وذاك ما يسعى إليه رجب بودبوس في كتابه، إلى جانب تقديمه الفلسفة بشكل مبسّط، ويتجسد ذلك في قوله: "هل نريد إعطاء الدارس مجرد كمية معلومات قاصرة مبتورة، وقائمةً بأسماء الفلاسفة، يحفظها ثم يجترّها... يردد كالببغاء ما لُقّن؟... أم نريد من تدريس الفلسفة تفعيل فكر المبتدئ وإدراكه، وإثارة اهتمامه بالقضايا والمشكلات: ليفكّر، ليقبل، وليرفض... إنني أرى أن مهمة تدريس الفلسفة هي حث فكر المبتدئ ليفكر، ليفهم، هي غرس الحس النقدي فيه".
الكتاب فرصة للدارسين المبتدئين، حتى لأولئك الذين يجهلون كل شيء عن الفلسفة، كونه يراعي التبسيط والعمومية بشكل يتناسب مع أي فئة من القرّاء، كيفما كان نوعها وكيفما كان مجال تخصصها القرائي.
كيف نقرأ الفلسفة؟
قراءة الفلسفة ليست بالأمر الهين، لكنها ليس مستحيلة.
لعل كلمة "فلسفة" عندما تقرع في الأذن، يطغى على الإنسان الذي لم يسبر أغوارها شعور بالرهبة والخوف من اقتحام هذا المجال الفكري، ويظهر له الفلاسفة وكأنهم عمالقة يصعب الوصول إليهم أو مجاراتهم فكراً. هو شعور مسبق يعترينا قبل الشروع داخل النص الفلسفي. لكن، لكل صعوبة ما يذللها، وتذليل الفلسفة يكمن في اتّباع منهج قرائي.
أولاً، لا بد أن يدرك القراءُ الفرقَ بين قراءة رواية -مثلاً- وبين قراءة كتاب فلسفي، من زاوية وقت القراءة. في الرواية يغلبُ السرد، وتتتابعُ الأحداث ما يجعل القراءة لا تأخذ وقتاً، بينما النصوص الفلسفية دسمة، كل فكرة فيها متصلة بما بعدها، والغاية الفهم. فلا وجود للقراءة السريعة، لذلك أوّل خطوة منهجية في التعامل مع الكتب الفلسفية، التأني في القراءة.
القراءة من أجل الفهم، لا الاستمتاع؛ لا بد أن يدرك كلُّ قارئ للفلسفة هذا الهدف، ومن أجل تحقيقه يُلزَم القراء بقراءة الكتاب مرات عديدةً حتى تتشكل خيوطه في أذهانهم، لأن قراءةً واحدةً يصعب معها حتى استيعاب الفكرة العامة للكتاب، لتعدد المصطلحات والمفاهيم. لذلك مع كل قراءة يلتقط القرّاء فكرةً يكونون قد غفلوا عنها في القراءة السابقة.
علمياً، عملية التكرار لها دور رئيس في ترسيخ الفكرة في الذهن. لا يمكن حفظ الأفكار في الذهن عن طريق القراءة الانسيابية، لهضم المادة الفلسفية التي تتسم بشيء من التعقيد
كتب الفلسفة لا تحتاج إلى أريكة مريحة وفنجان قهوة، إنما تحتاج إلى ورقة (مفكرة) وقلم. علمياً، عملية التكرار لها دور رئيس في ترسيخ الفكرة في الذهن. لا يمكن حفظ الأفكار في الذهن عن طريق القراءة الانسيابية، لهضم المادة الفلسفية التي تتسم بشيء من التعقيد. لا بد من تدوين الأفكار في المفكرة، ولا بد للقارئ أن يدرك الأفكار التي يجب أن يدونها، هنا الحديث عن الأفكار الرئيسية التي تدور جميع الأفكار الأخرى حولها، أو مفاتيح الكتاب. كما يمكن أيضاً -ارتباطاً بعملية الترسيخ- أن يناقش قارئ الفلسفة المواضيع التي قرأ فيها مع زملائه أو المهتمين بالفكر الفلسفي.
القراءة الفلسفية قراءة تراكمية، تحتاج إلى البدء من الأبسط نحو الأعقد. يجد القراء صعوبات كبيرة في فهم بعض الكتب، نتيجة التصادم مع مفاهيم للمرة الأولى، أو تتم الإشارة إليها في الكتاب من دون شرحها أو التعليق عليها، لأن الكاتب أو المؤلف قد ذكرها في أحد كتبه أو تم ذِكرها لدى فيلسوف آخر، ما يلزم القارئ بالاعتماد على الإنترنت؛ إما في مقالات معيّنة، أو في الموسوعات الفلسفية من أجل تحقيق فهم أفضل، واختصاراً أيضاً لوقت القراءة.
هذه بعض من الإجراءات التي قد تسهم إلى حد ما في تذليل صعوبات القراءة الفلسفية، وهضم مواضيعها، لكن، أول إجراء لا بد أن يتّسم به كل قارئ، هو شغف اقتحام الفكر الفلسفي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع