شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
التنقل في

التنقل في "كازبلانكا"... أعصاب "محروقة" وانتظار طويل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 5 مارس 202306:04 م

"أنتظر في طابور طويل وأتمنى ألا أتأخر عن العمل، هكذا أبدأ يومي كل صباح" تحكي حورية عن معاناتها مع النقل في مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية المغربية. تستقل الموظفة كل صباح سيارة أجرة من "محطة التاكسيات" في شارع محمد السادس، تقول إن الانتظار في هذا الشارع ليس إلا مرحلة ثانية من رحلتها نحو مقر عملها، فهي تستقل سيارة أجرة أخرى لتصل إلى هذه المحطة.

تواجه حورية وغيرها من مستعملي وسائل النقل العمومي في مدينة بحجم "كازابلانكا" بشكل يومي تحديات البحث عن وسيلة نقل للوصول إلى وجهاتهم المختلفة. بحسب المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة عمومية) يبلغ عدد سكان جهة الدار البيضاء-سطات نحو 7 ملايين شخص. يعمل الكثير من هؤلاء داخل مدينة الدار البيضاء التي بلغ عدد سكانها 3,6 مليون نسمة عام 2022.

أمام هذا التركيز الكبير للسكان في الجهة، فإن استعمال سيارات الأجرة من الحجم الكبير (تحمل 6 أشخاص) والصغير (3 أشخاص)، وحافلات النقل العمومي وعربات الترامواي، يشكل حلولا متنوعة، لكن الوفرة لا تعني بالضرورة الرخاء، فتعدد الخيارات أمامهم لا يدفع عنهم العناء، إذ يتجنب معظمهم سيارات الأجرة من الحجم الصغير، لسعرها المرتفع، فيما يتجنب البعض الآخر حافلات النقل العمومي للاكتظاظ الذي تعرفه وانعدام الأمن داخلها، خاصة في أوقات الذروة، ولبطئها بسبب توقفها المستمر في مختلف المحطات، أما عربات الترامواي التي تعتبر أفضل وسائل النقل في المدينة، فلا تغطي جميع الأحياء.

الوقت الضائع سبب التوتر

هنا في منطقة "سباتة" (حي شعبي)، ليس أمام حورية إلا أن تستقل وسيلَتي نقل رئيسيتين، وهما سيارات الأجرة وحافلات النقل العمومي، تقول لرصيف22 إنها تستبعد سيارة الأجرة الصغيرة لأنها مكلّفة، كما لم تعد تستقل حافلات النقل العمومي لعدم شعورها بالأمان داخلها، إذ تخشى التعرض للسرقة او الاعتداء، ما يعني أنه لا خيار متبق لها سوى الانتظار في طابور محطة سيارات الأجرة من الحجم الكبير.

غالبا ما أتأخر عن العمل بسبب طول مدة الانتظار في محطة التاكسيات، ما يجعلني أبدأ يومي بتوتر شديد، إذ أخاف دائما ألا أصل في الوقت المحدد إلى مقر عملي

تستغرق رحلتها نحو مقر عملها قرابة الساعتين، تقضي ما يزيد عن النصف ساعة منها منتظرة في الطابور، ما يسبب لها توتراً وقلقاً شديدين، "غالبا ما أتأخر عن العمل بسبب طول مدة الانتظار في هذه المحطة، ما يجعلني أبدأ يومي بتوتر شديد، إذ أخاف دائما ألا أصل في الوقت المحدد إلى مقر عملي" تحكي حورية لرصيف22 وهي تتقدم بخطوات بطيئة إلى الأمام، كلما قدمت سيارة أجرة جديدة لتقل الركاب الذين يتقدّمون الطابور.

يقول الدكتور محمد كحلاوي، أخصائي في الأمراض النفسية، إن أزمة النقل العمومي وكذا الازدحام المروري يؤثران بشكل كبير على نفسية الأفراد، لما يسبّبانه من وقت ضائع كبير جداً، أولا في انتظار سيارة أجرة أو غيرها من وسائل النقل العمومي، ثم في الطريق بسبب الازدحام المروري، فبعض المسافات التي يمكن قطعها في حدود ثلاثين دقيقة في الأوقات العادية، تتطلب في أوقات الذروة من ثلاث إلى أربع ساعات.

استراتيجيات الهروب من التوتر

تضطر حورية للعمل لساعات إضافية لتعويض فترات تأخرها عن العمل، "هذا الأمر يفاقم حدة توتّري، إذ أفكر في تحديات رحلة العودة إلى البيت التي تستغرق بدورها ساعتين"، تحكي لرصيف 22. الانتظار لمدة طويلة في محطة سيارات الأجرة ليس العامل الوحيد الذي يؤثر في نفسيتها كل صباح، فالمشاحنات التي تحدث بين الركاب لعدم احترام البعض منهم لطابور الانتظار تزيد من حدة الأمر، تقول إن "الصراخ والصوت العالي ليسا أفضل ما يمكن أن يبدأ به الإنسان يومه"، وتضيف بأن العمل عن بعد كان حلا عمليا بالنسبة إليها، إذ كانت تسمح به الشركة التي تعمل فيها، فكلما شعرت بعدم القدرة على مواجهة هذه التحديات اليومية، اتصلت بمديرها وطلبت أن تعمل عن بعد، إلا أن هذا الخيار لم يعد متاحا، "لم يعد بوسعي سوى التحلي بالعزيمة للخروج من البيت، وأنا أعلم ما سأواجه من توتر وفقدان أعصاب"، تحكي حورية بينما تصل إلى مقدمة الطابور.

في الدار البيضاء كبرى مدن المغرب يتحول مشوار الانتقال إلى العمل إلى معركة تنهك الأعصاب وتتطلب أحيانا الساعتين للوصول إلى الوجهة المرجوة

"الطريقة التي تبدأ بها صباحك، تؤثر على حالتك النفسية طوال اليوم" يقول سعيد، مستخدم يقضي مدة طويلة منتظراً في موقف سيارات الأجرة، يحكي لرصيف22 بأن ذلك يتسبب في وصوله متأخراً إلى مقر العمل، ما يخلق خلافات مع مديره، يرجو لو كان الأمر مختلفاً، "لو كنت أعمل بشكل حر في عملي الخاص ربما لن أكثرت لكل هذا الانتظار وما يسببه لي من مشاكل"، ويضيف مسترسلا في حديثه "في بعض الأيام أفكر في أنني سأصل متأخرا عن العمل، فأختار عدم الذهاب".

تراجع الإنتاجية

التوتر الذي يصيب الأفراد بسبب أزمة النقل العمومي والازدحام المروري يؤثر بشكل كبير على إنتاجيتهم في العمل، تقول حورية لرصيف22 إنه من الصعب التركيز في المهام اليومية، خاصة في الفترة الصباحية، بعد قضاء وقت طويل في البحث عن وسيلة نقل أولا، ثم في مواجهة الازدحام المروري والاكتظاظ الذي تعرفه المدينة.

معطى يؤكده الدكتور كحلاوي الذي يؤكد حدوث مجموعة من التغيرات الفيزيولوجية في جسم الإنسان بسبب أوضاع شبيهة، إذ يقول متحدثا لرصيف22 "يؤدي طول الانتظار إلى ارتفاع الضغط الدموي وهبوط مستوى السكر في الدم، إضافة إلى حدوث ضيق في التنفس، كل هذا شئنا أم أبينا يؤثر على النفسية، ما يؤدي إلى انخفاض مستوى التركيز في الدراسة والعمل، لأن الانتظار في ظل الازدحام المروري هو نوع من الضغط المتواصل، يستنزف الطاقة الجسدية والنفسية، فتقل درجة التحمل والصبر، وبالتالي تتأثر إنتاجية الأفراد".

"تزيد حدة توتري في رحلة العودة إلى البيت، فبعد يوم متعب في الكلية، يجب أن أنتظر مدة طويلة لأجد سيارة أجرة، ما يجعل من مراجعة دروسي ليلاً أمراً صعباً للغاية، أصل إلى البيت وأنام مباشرة"

غياب التركيز بسبب التوتر الذي يبدأ به الأفراد يومهم، يظهر تأثيره عند فئة طلبة الجامعات أيضاً. أميمة طالبة دراسات إنجليزية في كلية الآداب، تقطن في مدينة "الدروة" التي تبعد عن الدار البيضاء بـ25 كيلومتراً، تستقل سيّارتي أجرة كبيرتين، وتستغرق الرحلة من بيتها إلى الكلية ما يزيد عن الساعة والنصف، تقول لرصيف22 "من الصعب تحمّل رحلة مدتها ساعة ونصف يومياً للوصول إلى الكلية، هو أمر متعب، خاصة على المستوى الذهني، إذ لا أستطيع التركيز في المحاضرات، لاسيما تلك المبرمجة في الفترة الصباحية"، وتضيف مسترسلة في حديثها "تزيد حدة توتري في رحلة العودة إلى البيت، فبعد يوم متعب في الكلية، يجب أن أنتظر مدة طويلة لأجد سيارة أجرة، ما يجعل من مراجعة دروسي ليلاً أمراً صعباً للغاية، أصل إلى البيت وأنام مباشرة"، لهذه الأسباب تقول أميمة إنها لم تعد تذهب إلى الكلية بشكل يومي، إذ تفضل مراجعة دروسها في البيت بتركيز تام.

السائقون بدورهم يعانون

لا تقتصر أزمة النقل في "كازابلانكا" على مستعملي المواصلات العامة، بل على السائقين أيضاً. يتأثر أصحاب السيارات والسائقون المهنيون بدورهم بتداعيات الاختناق المروري، يتحدث مصطفى لرصيف22 عن معاناته بسبب الاكتظاظ الذي تعرفه مدينة الدار البيضاء، قائلا إن الازدحام المروري يفقده أعصابه، خاصة في أوقات الذروة، إذ تضيع من يومه ما بين الساعة والساعتين في الطريق، "تصيبني عصبية شديدة، ألن تصيبك العصبية حين تعلم أنك ستتأخر عن أحد مواعيدك، بينما تعيش ضغطا آخر سببه كثرة استعمال الفرامل، والتفكير في أنك تستهلك المزيد من البنزين؟" يتساءل مصطفى، ويضيف أن الانفعال الذي يصيبه بسبب كثرة التوقف في إشارات المرور يؤثر على مزاجه في العمل وعلاقته بزملائه ، إذ يسيطر عليه الانفعال خلال تعامله معهم، "دائماً ما يشعر زملائي في العمل بأني لست في أفضل حالاتي"، يقول مصطفى.

عدم احترام البعض لقانون السير يؤدي إلى نوع من الانفعال والغضب وضيق في الصدر، وكل هذه التغيرات يمكن أن تؤثر في العلاقات الاجتماعية في مقر العمل

يفسر الدكتور كحلاوي أن ما يؤثر على نفسية السائقين سواء المهنيين أو أصحاب السيارات هو الإنهاك الذي يصيبهم خلال السياقة، وذلك لكون درجة انتباههم ويقظتهم تكون كبيرة جداً، خاصة في أوقات الذروة، حيث يكثر التوقف عند إشارات المرور، ويضيف الدكتور متحدثاً لرصيف22 "عدم احترام البعض لقانون السير يؤدي إلى نوع من الانفعال والغضب وضيق في الصدر، وكل هذه التغيرات يمكن أن تؤثر في العلاقات الاجتماعية في مقر العمل، لأن قضاء وقت طويل في الطريق يجعل الفرد يصل متعباً ومنهكاً، فتقل درجة تحمله وصبره".

تعد مدينة الدار البيضاء أكبر المدن المغربية وأكثرها ازدحاما، ما يجعل سكانها يعيشون "حربا طرقية" يومية، منهم من اعتاد حالة الاكتظاظ التي تعرفها، فلم يعد يستغرب الاختناق المروري الذي أصبح مشهداً عادياً في المدينة. للتخفيف من حدة هذا الاختناق وتحسين جودة وسائل النقل العمومي، تشهد الدار البيضاء منذ سنوات أوراشاً عديدة، سواء المتعلقة بخطوط جديدة للترامواي، أو تلك التي تهدف لإعادة تهيئة المدينة، كورش إنشاء جسر شارع محمد السادس، الرامي للتخفيف من الاختناق المروري الذي تعرفه "طريق مديونة" أحد المحاور الرئيسية في المدينة، إلاّ أن تأخر إنجاز هذه المشاريع، تسبب في إغلاق بعض الطرق وتضييق أخرى، ما سبب المزيد من الاختناق المروري. وينتظر السكان بشوق الانتهاء من هذه الأوراش، لما يمكن أن تقدمه من حل، ولو مؤقت، لأزمة النقل العمومي، وأملا في التخلص من الازدحام الذي يخنق كبرى مدن المغرب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image